من أعظم النصائح التي قدمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
وهي أمور قد يتعذر على بعض الناس تطبيقها على أرض الواقع رغم اقتناعهم الكبير بها، لأنهم يعيشون في فوضى فكرية واجتماعية، ويصعب عليهم تنظيم وقتهم، فيحتاجون لمعونة وتوجيه. ولذلك وحين تُرجمت في عصرنا كتب تطوير الذات، تهافت الناس عليها.
وحين ظهرت المواقع المتنوعة ونشأت الدورات التدريبية التي تُسهل إنجاز المهات، وتساعد على إتقان الأعمال، وتنظيم الوقت، وإدارته بتوازن وحسب الأولويات. تسابق الناس للالتحاق بها، واستفاد كثيرون منها، وتغيرت حياتهم نحو الأفضل.
على أن هذه الدورات تسببت لبعض الناس بالإرهاق، وكانت سلبياتها عليهم أكثر من إيجابياتها، لعدة أسباب:
السبب الأول: أن منهم من فهم منها "وجوب الاستمرار بالجد والتشمير والعمل الدؤوب طول النهار، ودون راحة أو توقف، إلا للضرورات كالصلاة والنوم"، وأصبحوا يعتقدون أن أي شيء آخر كالترفيه أو الاسترخاء يعتبر مضيعة للوقت والجهد والمال، ويجب أن تكون ساعات اليوم إنجازاً في إنجاز، وكلها جد وإنتاج.
وصاروا يطبقون ذلك على أولادهم الصغار، فيرتاعون إذا رأوهم يلعبون، وإذا أكثروا من اللعب قلقت الأم، وحاولت تحديد ساعات لهم، وجهدت لتجعلهم جادين، ولتملأ وقتهم كله بالمفيد. فهل هذا الفهم صحيح؟ وهل ينبغي أن تكون هكذا حياتنا؟ بالطبع لا، وذلك لأن هذا الفهم يخالف الحديث الآخر الذي يقول: "إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك حقاً وإن لعينك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً وإن لِزَوْركَ (ضيفك) عليك حقاً فأتِ كل ذي حق حقه"، وهذه الأفكار تخالف حديثاً آخر: "إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"، وإن الترويح عن النفس ضرورة وليس ترفاً فينبغي ترويح القلوب ساعة بعد ساعة، ونحن الكبار نحتاج لساعات من الاسترخاء لنستعيد قوتنا ونجمع شتات أنفسنا، وأطفالنا الصغار يحتاجون لقضاء الوقت باللعب واللهو أكثر مما يحتاجون للجد فهذا ما يساعدهم على الاستقرار النفسي والإشباع العاطفي.
والسبب الثاني– الذي جعل لبعض هذه الكتب والدورات آثاراً سلبية ومحبطة: أن هناك من فهم منها أن خطوات النجاح واحدة وثابتة لكل الناس ولكل زمان ومكان، فعلى كل نفس بشرية تطبيق كل شيء، "كالاستيقاظ مبكراً"، و"تحديد جدول يومي للأعمال" و"الالتزام بتنفيذه يومياً وعدم التقاعس أو التباطؤ، حتى لا تتراكم المهمات"، وبناء على هذا ألزم بعضهم نفسه بنظام لا يتوافق مع جسمه، فبعض الناس ينجزون بالليل وليس بالنهار. وبعضهم ألزم نفسه بأعمال قد لا تتناسب مع ميوله وقدراته، فشعر بالإحباط والفشل، وآخرون ارتبطوا بمهام لا تناسب شخصياتهم وظروفهم وجعلوها واجباً يومياً ينبغي أداؤه.
مما دفع ببعضهم للملل، أو الشعور بالضغط، ودفع ببعضهم الآخر لليأس، حين رأى أقرانه قد استفادوا من الدورة وتغيرت حياتهم للأفضل (وهو لا).
فينبغي الانتباه للفروقات الفردية وللميول والقدرات، ولمكان الإقامة قبل الالتزام بأي نظام حياتي.
والسبب الثالث– وبسبب كثرة الكتب التي تتكلم عن أهمية الوقت، وعن ضرورة الإنجاز، أصبح هذا هو هدف الحياة، وبالتالي لم يتبقّ الوقت الكافي للاستمتاع بنعم الله وبالحياة وبجمال الطبيعة، وبأولادنا الذين يكبرون بسرعة، والذين سيغادروننا للدراسة أو للزواج.
وكما نرى اليوم: لم يعد هناك وقت لزيارة الجد والجدة والأعمام والعمات والأخوال والخالات، فهذه المهام سرقت وقتنا وإن أهلنا لو كانوا على قيد الحياة هذا العام، فقد لا يكونون في العام التالي، وبالتالي سيكون لقاؤهم مكسباً، وزيارتهم صلة رحم ومغنم. وكل من نعرفهم من المحبين والمعارف والجيران، قد يتركوننا ويهاجرون فنفتقد الألفة والصديق الصدوق، فمن الحكمة أن نتمتع بوجودهم، ونستمتع بقربهم، ونستفيد من تجاربهم وحكمتهم.
وهكذا، وإني وبعد ما تعلمته من الدورات، وبعد ما قرأته في كتب تطوير الذات، توصلت لعدة نقاط سأفيدكم منها:
الأولى– وجدت أنني لا أستطيع أن أكون مبرمجة، وأن يكون لي روتين يومي ثابت؛ فالحياة تحتاج للمرونة، فصرت آخذ منهم ما يناسبني فقط. فنحن كل يوم نكون في شأن، وفي وضع متغير، وفي مزاج مختلف، ولا يمكن أن نكون كل يوم على نظام واحد ثابت، فالسفر والمرض والضيوف عوارض طارئة ومعطلة، وهي تستنزف الوقت، والدنيا فيها ظروف مفاجئة تخرب أي تنظيم، وعلينا الاستجابة لها والتأقلم معها، والطوارئ كثيرة، وكم من مرة صرفتني الحوادث عن المعالي والبرامج، كأن يرن على هاتفي ذو الحاجة الملهوف، أو تدق بابي جارتي وهي حزينة، أو يتعرض ابني لهزة نفسية.
إن هذه العوارض البسيطة تهدر الدقائق والساعات بشكل لا يصدق، ويذهب البرنامج الذي أعددته ليومي هباء، فلا أنا قرأت الصفحات التي أريد، ولا أنا قمت بالمسؤوليات والترتيبات التي أدرجتها في قائمتي. فالمثالية مستحيلة، والالتزام بالروتين صعب، وأفضل شيء هو العيش بواقعية، ومراعاة ظروفكَِ وعمركَِ وجنسكَِ، وقدراتكَِ، ومكان إقامتكَِ.
والثانية– وجدت أن هذه الكتب لا تتوافق مع بعض الشخصيات، فمما وجدته بالحياة أن "الفوضى" هي عنصر سعادة لبعض الأفراد، وهي جزء من سماتهم، فبعض الناس لا يرتاحون إلا إذا عاشوا بطريقة عشوائية، وإذا تنظموا فقدوا هويتهم وأصابهم الهم والغم، وأنا أعرف نماذج من هؤلاء، إنهم يفضلون التلقائية على التخطيط، فيحبون الاستجابة لمزاجهم، وتضييع أوقاتهم. ثم وحين يقترب الامتحان أو يضيق الوقت لإنجاز مهامهم، يتفرغون ويجدون، ويصلون لأهدافهم، وقد يتفوقون على أقرانهم! فسبحان الله كيف جعل الناس مختلفين. والثالثة- من خلال مسيرتي بالحياة اكتشفت أن ما يسعدني الآن لن يسعدني بعد سنوات، ولكني لو تجاهلته أو أجلته أو كبته أو استسخفته ولم أتمتع بفعله الآن، سيبقى حسرة في قلبي، وسأشعر طيلة حياتي بالحرمان، أو ستبقى آثاره كامنة في عقلي الباطن، ولذلك قررت أن أستمتع بفعله ولو كان على حساب الإنجاز، مثل: ممارسة هواية السباحة أو التنس فلأتمتع الآن بما أحب عمله (من الحلال والمشروع والمقبول عرفاً)، ولا أمنع نفسي من ممارسته خوفاً من تضييع الوقت.
خاصة أن بعض الأمور المتوفرة اليوم، قد لا تكون موجودة غداً، فقد أكون في سكن فيه مسبح وخدمات، والجو لطيف يناسب التريض، وأكون في بلد أمين يمكنني فيه التنقل بكل حرية. وقد يتغير كل ذلك في حال انتقلت أو هاجرت لبلد آخر. وليس أجمل من نصيحة المصطفى عليه السلام، والتي بدأتُ به المقال وهي اغتنام كل إيجابية وكل مزية قبل ذهابها، وكان منها اغتنام الصحة قبل المرض، فالأمراض تكثر ولا ندري ما يصيبنا منها.
وشبابنا يذبل كل يوم، وتضيع معه الهمة، فينبغي الحرص إذن على الرياضة والنشاط. وجعل الترويح والاستراحة والاستجمام، عنصراً أساسياً من مهماتنا اليومية. ومنه التأمل والتفكر؛ فالحياة ليست كلها عمل وجد ونشاط وبرامج وأوراد. فينبغي عليَّ أن أغتم كل شيء في حياتي، وأن أستفيد من كل شيء في متناول يدي اليوم قبل أن أصبح غداً فلا ألقاه. ولكن أفعل ذلك بطريقتي وشخصيتي. والخلاصة: الإنجاز مهم جداً، والنجاح في الحياة مطلب كل نفس، والفاعلية والإيجابية ضرورة شرعية واجتماعية، ويجب أن نحرص على النجاح والإنجاز. ولكن: "النوعية" و"الطريقة" و"الوقت" فهذه نتركها لطبيعة وقدرات وميول وظروف كل شخصية، طالما أنها في أمر مباح وحلال، ولا يخالف الأعراف السليمة والصحية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.