بعيداً عن الحرب الطاحنة في أوكرانيا، تستعر حرب غير معلنة في الساحل الإفريقي تضم سكانها المحليين، إلى جانب روسيا وفرنسا والصين والولايات المتحدة، وفي خضم هذه الحرب تظهر "قوات فاغنر"، وهي شركة عسكرية خاصة تربطها علاقات بالكرملين.
وخلال السنوات الأخيرة، ثبّت مرتزقة فاغنر أقدامهم في مالي وبوركينا فاسو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، كما تساعد فاغنر قوات المتمردين في تشاد والسودان، يتواجد مقاتلوها في ليبيا لتقييد صادرات النفط المتجهة إلى أوروبا. كما أنشأت فاغنر في ساحل العاج قاعدة لحرب المعلومات حتى تنشر ما تريده من معلومات في أنحاء القارة، كما يقول تقرير لمنصة أسباب المتخصصة في التحليلات الاستراتيجية.
النفوذ الفرنسي في إفريقيا هو ما مهَّد لروسيا الوصول والتمكن بالقارة
تبدو إفريقيا بعيدةً للغاية لكن مستقبلها سيحدد مصير الاقتصاد العالمي؛ إذ تمتلك القارة الضخمة ثلث ثروة العالم من المعادن، كما يمثل الساحل الإفريقي شريطاً أرضياً ممتداً يقع جنوب الصحراء الكبرى، حيث تمتد المنطقة من السنغال إلى إريتريا ويقطنها 100 مليون نسمة. لكن الدول الواقعة هناك تعاني آفات عدم الاستقرار السياسي والأزمات الاقتصادية والانقلابات العسكرية وكذلك الصراعات الانفصالية والحركات الجهادية.
وتُعد غالبية دول الساحل من مستعمرات فرنسا السابقة في الأساس، ولهذا تظل خاضعةً للنفوذ الفرنسي بطريقةٍ أو بأخرى. في عام 2013، قادت فرنسا تدخلاً متعدد الأطراف في مالي بقوات قوامها 15,000 جندي.
شاركت بـ5,000 جندي من الجيش الفرنسي آنذاك، وكان هدف التدخل هو إحلال الاستقرار في مالي والتصدي للمتمردين والجهاديين من الطوارق. لكن العملية سعت بصورةٍ خفية إلى تأمين الوصول لحقول اليورانيوم في النيجر المجاورة؛ لأن تلك الحقول ضرورية لتلبية احتياجات الطاقة الفرنسية.
في النهاية، أثار الوجود الفرنسي السكان المحليين مع الوقت، وعجز ماكرون الذي وعد بإدارة علاقات متساويةٍ مع إفريقيا عن محو ذكريات إرث فرنسا الاستعماري، كما تقول منصة أسباب.
وبعد آلاف الوفيات ونزوح 350 ألف شخص وثلاثة انقلابات عسكرية يُمكن القول إن التدخل الفرنسي لم يكن ناجحاً على الإطلاق، وقد استشعر الرئيس أسيمي غويتا ذلك الضعف إثر توليه السلطة في البلاد عام 2021؛ إذ كان موالياً للغرب في البداية، لكنه بدّل ولاءه بمجرد الوصول إلى المنصب؛ مما أسفر عن طرد القوات الفرنسية من مالي وعندها دخلت قوات فاغنر الروسية إلى المشهد.
قوات "فاغنر" في إفريقيا
يؤجج المسؤولون العسكريون الروس المشاعر المعادية لفرنسا في المنطقة منذ عام 2017 من أجل تقديم روسيا كبديل مناهض للاستعمار، وربما تخلو هذه الادعاءات من الصحة، كما تقول منصة أسباب، لكنها انتشرت إلى حدٍ ما؛ لأن روسيا لا تحمل وصمة عار الاستعمار الفرنسي من وجهة نظر إفريقيا.
- بالنسبة لقوات فاغنر، يمتلك رئيسها يفغيني بريغوجين خلفيةً غير تقليدية في عالم الجريمة المنظمة.
- ارتباط فاغنر بالعالم السفلي للإجرام يمتد بطول تسلسل القيادة.
- تم التعاقد مع نحو أربعة أخماس قوات فاغنر من السجون الروسية.
- يمتلك العديد منهم علاقات وطيدة مع اليمين المتطرف.
- لا تتوقف أهداف بريغوجين في إفريقيا عند حدود المال فقط؛ لأن هدفه الرئيسي هو كسب رصيد سياسي لدى الكرملين عن طريق تعطيل المصالح الغربية في إفريقيا.
- مجموعة فاغنر تسعى لتحقيق مصالح الدولة الروسية؛ لكنها تفعل ذلك بأسلوب مستقل يضمن للكرملين قدرة الإنكار المعقول.
- تقدم مجموعة فاغنر خدمات تأمين المواقع والحرب المعلوماتية والأنشطة الاستخباراتية الخاصة.
- تتماشى هذه الطريقة في إدارة الأعمال مع رغبات حكومات إفريقيا التي تتطلع إلى علاقات غير مشروطة.
أين ينتشر مقاتلو "فاغنر" في إفريقيا؟
ترصد منصة أسباب بالشراكة مع منصة CaspianReport مناطق انتشار ونفوذ قوات فاغنر في إفريقيا، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن عدد المرتزقة الروس يبلغ 5,000 مقاتل في القارة أي أقل بفارقٍ ضئيل عن الـ6,000 جندي أمريكي في المنطقة.
1- مالي
لا عجب أن صناع السياسة في واشنطن وبروكسل يشعرون بالقلق، إذ:
- سدّت فاغنر فراغ السلطة في مالي بعد انسحاب فرنسا.
- يتواجد اليوم هناك نحو 1,400 من متعاقدي فاغنر لدعم الحكومة المحلية.
- يوفرون الطائرات والرادارات الجوية وكذلك المحامين وخبراء الجيولوجيا لتسهيل استخراج المعادن.
- تحصل فاغنر عند بيع الذهب المالي عبر الوسطاء الموجودين في دبي.
- ظلت العلاقة بين مالي وفاغنر متماسكةً حتى بعد اتهام الأخيرة بقتل 300 مدنيٍ في بلدة مورا شهر مارس/آذار 2022.
2- بوركينا فاسو
تزيد فاغنر صعوبة المهمة على منافسيها في مناطق أخرى من الساحل؛ حيث حصل متعاقدو فاغنر على حقوق التعدين في بوركينا فاسو، وتربطهم علاقة وطيدة مع الرئيس المؤقت إبراهيم تراوري الذي وصل إلى السلطة في انقلابٍ عام 2022، ونجح تراوري بالتعاون مع فاغنر في طرد الدبلوماسيين ووسائل الإعلام الفرنسية من البلاد.
3- تشاد
أما في تشاد، فقد تحالفت فاغنر مع متمردي جبهة التغيير والوفاق الذين يحاولون الإطاحة بالحكومة الفيدرالية، وتُمثل تشاد مصدر قلقٍ خاصاً بسبب موقعها المركزي لأن أي صراع يندلع هنا سيمتد إلى محيطها الأوسع بسرعة.
إذ نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية وثيقة استخباراتية مسربة تُظهر أن فاغنر فكرت في إنشاء اتحاد كونفدرالي من الدول الإفريقية ليمتد من غينيا إلى إريتريا بحيث تكون قاعدة عملياته في تشاد.
4- السودان
في السودان، يُشرف مقاولو فاغنر على مواقع التعدين ويهربون الذهب المعفى ضريبياً إلى الخارج، وتتمتع فاغنر كذلك بعلاقات وطيدة مع الجنرال محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي" ولا شك أن اندلاع الصراع في السودان سيفتح أبواب البلاد أمام المزيد من النفوذ الروسي.
5- إفريقيا الوسطى
بالانتقال إلى جمهورية إفريقيا الوسطى في الجنوب الغربي سنجد أن فاغنر تشارك في الحرب الأهلية هناك منذ عام 2021، ويتمثل هدفها الرئيسي في تأمين مناجم الذهب وقمع المقاومة المحلية.
وتتضح الصورة الكبيرة عند تصغير المشهد؛ حيث تستهدف فاغنر إنشاء ممر من الساحل في إفريقيا إلى مركز تجارة المعادن في دبي عن طريق السيطرة على المواقع الاستراتيجية ومناجم المعادن في تشاد والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، وفي حال نجاح الخطة، ستمنح روسيا وصولاً حصرياً إلى موارد الساحل لكن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد.
6- ليبيا
إذا وجهنا أنظارنا شمالاً صوب ليبيا؛ سنجد أن فاغنر لديها 2,000 من المرتزقة المنتشرين بطول البلاد وهدفهم هو تقويض الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس والتي يتصادف أنها متحالفة مع تركيا، حيث تتطلع فاغنر إلى تعطيل صادرات النفط إلى أوروبا بتقويضها حكومة طرابلس المدعومة من تركيا.
7- ساحل العاج
داخل ساحل العاج، أنشأت الجماعات المرتبطة بفاغنر مركزاً لحرب المعلومات ويهدفون من خلاله إلى نشر المعلومات المضللة الروسية لتقويض النفوذ الفرنسي في القارة، وقد عاد برنامج القوة الناعمة هذا بنتائج شديدة الفاعلية؛ حيث أُحرِقَت الأعلام الفرنسية في مالي وتشاد والكونغو وغيرها، بينما نصبت التماثيل الروسية التي تصور مرتزقة فاغنر وهم يحمون النساء والأطفال.
8- الكونغو
تشق مشاعر عداء فرنسا التي تزرعها فاغنر في طريقها اليوم نحو جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تُعَد أم كل حروب الوكالة، ويبدو أن قفزة بريغوجين السياسية تؤتي ثمارها؛ إذ حصل على دور المنظم في آخر قمة روسية-إفريقية.
بينما أسفر أداء فاغنر في أوكرانيا عن منح بريغوجين الثقل السياسي اللازم لمواجهة -وإذلال- القيادة العسكرية الروسية، ويبدو أن نشوة النصر أعمت بريغوجين الذي يسعى لتثبيت أقدامه كأحد أكبر مقاولي السلطة الروس، لكن لا تسير الأمور حسب الخطة دائماً؛ إذ واجهت فاغنر الكثير من ردود الفعل السلبية في السنوات الأخيرة.
أُعيد نشر القوات الفرنسية في مالي مدعومةً بجنود ألمان وأمريكيين وهي خطوة كان لا بد منها؛ لأن يورانيوم النيجر يمد ثلاثةً من مفاعلات فرنسا النووية الأربعة بالطاقة، أي إن فرنسا لا يمكنها تحمل تكلفة فقدان النيجر وستفعل كل ما بوسعها لإبقاء أنوارها مضاءة.
أثبتت مجموعة فاغنر أنها ليست مناسبةً لقتال الخصوم الأكثر حماساً مثل الجهاديين، ففي عام 2019، تعاقدت موزمبيق مع فاغنر للقضاء على الجماعات الجهادية في مقابل امتيازات النفط والغاز؛ لكن عوامل سوء التخطيط وتخبُّط الأولويات وضعف التواصل أسفرت عن أسر المرتزقة الروس، تُبرهن النتائج العكسية في النيجر وموزمبيق على أن فاغنر تعاني في مواجهة الخصوم الأفضل تنظيماً.
وهناك درسٌ مستفاد هنا بالطبع؛ حيث تتفاعل أوروبا مع إفريقيا لتأمين واردات الهيدروكربون والمعادن الأرضية النادرة، وتسارع القوى المحلية الصغيرة منها والكبيرة لإنشاء ممرات جديدة:
- تلبي نيجيريا 14% من احتياجات الطاقة الأوروبية حالياً.
- تريد أن تصبح مورد الغاز الرئيسي لأوروبا مستقبلاً ولا خلاف على وجود مساحة كبيرة للنمو؛ لأن محطة الغاز الطبيعي المسال في جزيرة بوني النيجيرية تعمل بـ60% من سعتها فقط.
- تحاول كل من الجزائر والمغرب إبرام اتفاقٍ حصري مع نيجيريا بهدف إنشاء ممرات للطاقة بينها وبين أوروبا.
- يضغط المغرب مثلاً من أجل إنشاء خط أنابيب بحري يمر بـ13 دولة إفريقية قبل أن ينتهي في أوروبا.
- يصل طول المشروع إلى 5,600 كيلومتر لكن أعمال الإنشاء قد تستغرق 25 عاماً.
- تعرض الجزائر فكرة خط أنابيب بديل عبر البر ليمر بمنطقة الساحل والصحراء الكبرى معاً.
يقول الجزائريون إن مشروعهم الممتد بطول 4,100 كيلومتر يمكن تشغيله في غضون ثلاث سنوات فقط، وتُشير هذه المشروعات الجيواقتصادية ضمنياً إلى التزامات أوروبية أكثر شمولاً في القارة الإفريقية؛ لكن وجود فاغنر في الأنحاء يُشكل خطراً على الجانبين.
حيث تستطيع فاغنـر تدمير خطوط الأنابيب في غرب وشمال إفريقيا، لكنها ستعرض نفسها بذلك لانتقامٍ جماعي من النيجر والمغرب والجزائر والاتحاد الأوروبي، وليست أوروبا الطرف الوحيد في المعادلة أيضاً، حيث إن حجم التجارة الصينية مع دول إفريقيا الناطقة بالفرنسية يفوق تجارة نظيراتها البريطانية والأمريكية وحتى الفرنسية، ولا تُشكل فرنسا اليوم سوى 5% من إجمالي تجارة مستعمراتها الإفريقية السابقة، وذلك بانخفاض عن نسبة 25% قبل ثلاثة عقود.
ورغم ذلك، تحتاج الاستثمارات الصينية في الساحل إلى دعم عسكري؛ لأن قاعدتها في جيبوتي نائية للغاية، ولهذا قد نشهد في السنوات المقبلة ترتيباً تحمي بموجبه فاغنـر الأصول الصينية على الأرض، وسيكون ذلك الترتيب بمثابة انعكاس للتحالف الروسي-الصيني الذي بدأ يتشكل في أوراسيا، وهو تحالف من المقرر أن تلعب فيه فاغنر دوراً فريداً من نوعه.