في الرابع من يوليو/تموز الماضي ظهر وزير الصحة والحماية الاجتماعية المغربي، خالد آيت الطالب في شريط فيديو يوبّخ بعض المسؤولين بالمستشفى الإقليمي بمدينة الدريوش الواقعة شمال شرقي المملكة.
وبدا وزير الصحة والحماية الاجتماعية غاضباً من عدم قيام مسؤولي المستشفى بالمهام الملقاة على عاتقهم، خاصة أن الوزارة تلقت شكايات عديدة بخصوص ضعف الخدمات التي يقدمها هذا المستشفى.
وزير الصحة المغربي لم يكتفِ بالتعبير عن غضبه، بل أقرّ في الوقت نفسه بالخلل الحاد على مستوى الموارد البشرية في هذا الإقليم، وتعهد بسد الخلل في الأطر الطبية العامة والاختصاصية والأطر التمريضية.
ووعد الوزير المغربي بدعم المؤسسات الصحية بالموارد البشرية المؤهلة للمساهمة في تأهيل العرض الصحي بالإقليم، وتحسين شروط ولوج المواطنين إلى الخدمات الصحية والعلاجات الطبية والتمريضية.
وإذا كانت زيارة وزير الصحة والحماية الاجتماعية لهذا المستشفى قد لقيت استحساناً من طرف المواطنين المغاربة، فإنها سلطت مرة أخرى الضوء على واحدة من المعوقات التي يعيشها القطاع الصحي المغربي، وهي النقص الحاد في الموارد البشرية.
ويقف النقص في الكوادر البشرية في قطاع الصحة في المغرب، خصوصاً الأطباء والممرضين، حجر عثرة أمام مشروع تعميم التغطية الصحية الذي يرعاه الملك محمد السادس شخصياً.
ومشروع تعميم التغطية الصحية هو مشروع يهدف لضمان استفادة 22 مليون مغربي إضافي من نظام التأمين الإجباري عن المرض، وقد تمكنت الحكومة من إعداد الأرضية القانونية والتنظيمية لهذا المشروع نهاية 2022.
لكن تنزيله ما زال يعتريه بعض الصعوبات بسبب النقص الحاد في الموارد البشرية، وضعف البنى الصحية، وذلك رغم المجهودات الكبيرة المبذولة في هذا الإطار.
وتعود أسباب النقص الحاد في الأطر الطبية في قطاع الصحة بالمغرب إلى عدة عوامل أبرزها الهجرة نحو الخارج، وتفضيل الأطباء العمل في القطاع الخاص نظراً لما يقدمه هذا الأخير لهم من تحفيزات مالية، وهو ما يطرح تحديات كبيرة أمام البرامج الحكومية المتعلقة بتعزيز العرض الصحي، وضمان تغطية صحية لجميع المغاربة.
نزيف هجرة الأطباء في المغرب
بحسب الأرقام الرسمية يعمل بالمغرب 28892 طبيباً في القطاعين العام والخاص، منهم 14359 طبيباً في القطاع العام، منهم 3569 طبيباً عاماً و10193 اختصاصياً، في حين يضم القطاع الخاص 14533 طبيباً، منهم 5472 طبيباً عاماً و9061 طبيباً متخصصاً، مقابل ذلك، يقدر عدد الأطباء المغاربة بالمهجر بحوالي 14 ألفاً.
في هذا الصدد، كشف الدكتور الطيب حمضي، الباحث في السياسات والنظم الصحية في تصريح أن ثلث الأطباء المتخرجين سنوياً بالمغرب يهاجرون، مشيراً إلى أن هذا الوضع ترتب عليه خلل يقدر بـ32 ألف طبيب، حسب معايير منظمة الصحة العالمية.
ولفت الباحث في حديث لـ"عربي بوست" أن معايير منظمة الصحة العالمية تؤكد على ضرورة توفير 15.3 طبيب لكل 10 آلاف نسمة كمعيار أدنى، في حين يتوفر المغرب على 7.8 طبيب لكل 10 آلاف نسمة، ورغم المجهودات المبذولة، فإن ظاهرة هجرة الأطباء تبدو مرشحة للارتفاع.
في هذا السياق، أشار الطيب حمضي إلى أن دراسة حديثة كشفت أن 70.1% من الطلاب الذين أنهوا دراستهم الطبية في المغرب أعلنوا أنهم يعتزمون مغادرة البلاد بمجرد تخرجهم.
وتعود أسباب رغبة هؤلاء الطلاب في مغادرة المغرب إلى عدم الرضا عن الراتب بعد 7 سنوات من الدراسة، وعدم الرضا عن التكوين وتشويه سمعة الأطباء في وسائل الإعلام المغربية.
مقابل ذلك، تقدم بعض الدولة المستقبلة للأطباء المغاربة تحفيزات كبيرة تصل إلى منحهم أجوراً مضاعفة حوالي 10 مرات مقابل ما يتلقونه في المغرب (حوالي 1200 دولار خلال السنوات الأولى بعد التوظيف).
ويرى حمضي، أن ترك نزيف الهجرة الطبية دون اتخاذ تدابير للتحكم فيه، هو بالتأكيد إهدار لا يستطيع بلد يفتقر أصلاً إلى المهنيين الصحيين تحمله، لكنه أكد أن هذه الكفاءات الموجودة في الخارج يمكنها المساهمة في تعزيز نظامنا الصحي من حيث هي موجودة، وبذلك تكون بلا منازع فرصة يجب اغتنامها وتنظيمها.
ونبه الباحث في السياسات والنظم الصحية خلال تصريحه لـ"عربي بوست" على أن هجرة الكفاءات الطبية تشكل عائقاً أمام إعادة بناء النظام الصحي المغربي واستكمال تعميم التأمين الإجباري على المرض.
من جهته، أكد علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة أن الغالبية العظمى من الأطباء في القطاع الصحي العمومي والأطباء الاختصاصيين ليس لديهم وضع اقتصادي مناسب لتكوينهم، ويفضلون الهجرة إلى الخارج من أجل حياة مهنية ومعيشية أفضل.
ويرى لطفي في تصريح لـ"عربي بوست" أن هناك أسباباً أخرى غير مادية تدفع الأطباء المغاربة نحو الهجرة، وتتعلق بظروف العمل الشاقة والقاسية نظراً للنقص المهول في الأطباء.
واستدل لطفي بالتقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات (مؤسسة رسمية)، الذي أكد تفاقم العجز في صفوف الأطباء من حوالي 47 ألف طبيب سنة 2023 إلى أكثر من 53 ألفاً في أفق 2035، كما أن النقص بالنسبة للممرضات والممرضين يتجاوز 65 ألف ممرض وممرضة.
هجرة الأطباء في المغرب.. أي تأثير على تعميم التغطية الصحية؟
تدرك الحكومة المغربية أن مشروع تعميم التغطية يواجه تحديات كبيرة على رأسها النقص الحاد في الأطر الصحية بسبب الهجرة والتوجه نحو القطاع الخاص، لذلك قامت بالرفع من أجور الأطباء وملاءمة رواتبهم مع رواتب أساتذة الجامعات، لكن يبدو أن هذه الإجراءات تظل غير كافية في ظل الإغراءات التي تقدمها دول أخرى.
ويرى علي لطفي، في حديثه مع "عربي بوست" أن هجرة الكفاءات الطبية والتمريضية سيكون لها الأثر البالغ على أهداف تعميم التغطية الصحية، خاصة على مستوى الرعاية الصحية الأولية التي تعتبر مدخلاً أساسياً للتغطية الصحية الشاملة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وأضاف المتحدث أن العجز والخصاص في الأطباء والممرضين يجعل من الصعب الاستجابة للحاجيات الصحية لجميع فئات الساكنة، سواء من خلال الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية والتأهيلية، وأيضاً في كل مراحل الحياة.
وقال المتحدث: "لهذا نجد أنفسنا أمام أرقام مخيفة بخصوص وفيات الأمهات الحوامل والأطفال دون سن الخامسة بالمغرب لقلة الأطباء والقابلات، خاصة في البوادي وهوامش المدن".
وأضاف المتحدث أن هذه الحالات كان من الممكن تفاديها بوجود أطر طبية وتمريضية وضعف العرض الطبي، خاصة في البوادي ولدى فئات ذوي الاحتياجات الخاصة".
وأشار المتحدث إلى أن ظاهرة الهجرة الطبية لها وجهان، فعدد كبير من الأطباء اختاروا الهجرة للعمل خارج الوطن بعد تخرجهم من طرف الدولة لمدة 7 سنوات فيما يخص الطب العام، و12 سنة في حالة التخصص.
ونبّه رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة من أن الدولة صرفت مبالغ باهظة من أجل تكوين هؤلاء الأطباء، وهو ما يستدعي الحفاظ عليهم من أجل العمل داخل وطنهم.
استقطاب الأطباء الأجانب هل يحل المشكل؟
من أجل مواجهة النقص الكبير في الأطر الطبية قامت الحكومة المغربية بعدد من الإجراءات تجلت في تقليص سنوات تخرج الأطباء العامين من 7 سنوات إلى 6 سنوات، كما فتحت الباب أمام الأطباء الأجانب من أجل العمل في المغرب.
كما أعدت وزارة الصحية والحماية الاجتماعية قانوناً جديداً لمهنيي الصحة، نص على تقسيم أجور الأطباء والممرضين إلى أجر ثابت وأجر متغير، حسب المردودية.
من جهته، أكد رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة أن عملية استقطاب أطباء أجانب للعمل بالمغرب وتشجيع عودة الأطباء المغاربة على العودة للعمل بوطنهم لم يحقق أهدافه بعد.
وأضاف المتحدث أن القانون الذي صدّق عليه البرلمان المغربي، ودخل حيز التنفيذ سنة 2021 فتح الأبواب لعدد من الأطباء الأجانب الذين يستقرون بالمغرب لفتح عيادتهم بعد تقديم الطلب للجان المختصة في الهيئة الوطنية للأطباء والطبيبات.
وأضاف: "إن أهداف هذا القانون كما خطط له الملك هي الاستفادة من تجارب الكفاءات والخبراء الدوليين في مجال الطب والاستثمار في الصحة ببلادنا، وليس لسد النقص بكل من طلب العمل بالمغرب، كما يروَّج له، أو استقبال أطباء دون تجربة أو شهادة علمية معترف بها دولياً".
وشدد المتحدث أن ما يعرفه المغرب اليوم من تطور على مستوى تزايد عدد المقاعد البيداغوجية بكليات الطب والصيدلة وجراحة الأسنان ومعاهد عليا للتمريض والتقنيات الصحية بالقطاعين العام والخاص ومستشفيات غير ربحية، وتقليص مدة التكوين إلى 6 سنوات، سيؤدي إلى تحسن كبير في السنوات العشر المقبلة.
وأشار المصدر نفسه إلى أن ارتفاع أعداد الأطر الطبية والتمريضية المؤهلة سيؤدي إلى تغطية العجز في القطاع العام، مبرزاً أنه ما على الحكومة إلا التخطيط في برمجة توظيفهم في القطاع العام.