السفر.. هل هو، حقيقة، قطعة من العذاب؟ وإذا كان الحال كذلك فَما تَجْلِيَة هذا الأمر؟
إنّ النّصوص الدّينية الواردة في موضوع السفر قسمان: فأمّا القسم الأول فَمَحْكوم بصحّته ومن هذا القَبيل الحديث الذي رواه البخاريّ ومسلم: "السّفر قطعة من العذاب يَمْنع أحدَكم طعامَه وشرابَه ونَومه فإذا قَضى نَهْمَتَه فَلْيُعَجِّلْ إلى أَهله". وقد ورد هذا الحديث، أيضاً، في سُنَن النَّسائيّ وابن ماجه وأحمد وفي صحيح ابن حبّان بصيغ مختلفة وإضافات طفيفة.
أمّا القسم الثاني من هذه الأحاديث فهو محلّ الرّأي والاختلاف. ومن هذا النّوع جملة من الأحاديث منها قوله صلّى الله عليه وسلّم: "سافروا تَصِحُّوا وتَغْنَموا" و"سافروا تَصِحُّوا وتَسْلَموا" و"سافروا تَصِحُّوا وتُرزقوا".
وفي هذا القسم الثاني قد وردت أحاديث أخرى، بصيغ مختلفة، تربط بين السّفر والصَّوم والغَزو لتحقيق الصّحة والغنيمة والسّلامة والرّزق. وهذا القسم الثّاني من الأحاديث، بصيغها المتباينة، اختلف في شأنها علماء الحديث والمُحَقِّقون. والظّاهر أنّ سبب اختلافهم هو الطُّرق المختلفة التي وردت بها هذه الأحاديث وهي التي جعلتهم يَحْكمون عليها بأحكام تَنْتَقل من الضّعف والوَضْع إلى الصّحة والتّحسين. ويمكن العودة إلى هذا الخلاف العلميّ في مَظانِّه وأَسْفاره لأنه لا يَهمّنا في هذا المقام.
ولكنْ بعيداً عن ساحة هذا الخلاف العلميّ وتفصيلاته فإنّ هذا القسم الثّاني من أحاديث السفر، على فَرْض ضعفه أو وَضْعه، فإنّ معناه صحيح.
السّفر: هل هو قطعة من العذاب حقيقةً؟
إنّ وصف السّفر بأنه "قطعة من العذاب…" في الحديث الصّحيح ليس وصفاً على الحقيقة وإنّما هو وَصْفٌ على المَجاز وبيانٌ للحالة النّفسيّة الناشئة من السّفر وما يَلقاه المسافر من فَقْد وحرمان ومشقّة وعَنَت ومُنغّصات. وتوضيح هذا الأمر أنّ المسافر، حين يكون في سَفَره، سَيَخرج مِنْ كلّ ما كان قد عَهِدَه في حاله قبل السّفر حين كان مُتحَكِّماً بقَدْر كبير في تنظيم أوقات طعامه وشرابه ونومه وسائر وظائفه الحيويّة وعاداته وجُلّ أعماله. ويكون حينئذ، أيْ أثناء سفره، في وَضْع مختلف تماماً عن وَضْعه الأوّل أو وَضْعه الطّبيعي، فَيَفْقد بعضاً أو كُلاًّ ممّا كان متَحَكِّماً فيه أو كان قد أَلِفَه وتَعَوَّده في حال الإقامة في سِرْبه وبَيْن أهله.
وقد قال الإمام النّووي، في شرحه لهذا الحديث، عند قوله صلّى الله عليه وسلّم "… يَمنع أحدَكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى نهمته فَلْيُعَجِّل إلى أهله"، معناه: يَمنعه كَمَالَها ولذيذها لِمَا فيه من المشقَّة والتّعب ومُقاساة الحرّ والبرد والسُّرَى والخوف ومفارقة الأهل والأصحاب وخشونة العيش.
إنّ وَصْف السّفر بأنّه "قطعة من العذاب…" في الحديث الصّحيح إنّما هو وَصْفٌ على المَجاز وليس وصفاً على الحقيقة. وليس فيه البَتَّةَ، جَرْحٌ لِماهيَّة السّفر أو انْتِقاصٌ من أهمّيته ونَفْعه أو ازْدراء لفاعله وتَهوينٌ لشأنه.
بعض الفوائد المستفادة من السّفر
ولعلّ سائلاً يسأل: كيف يُمكن التّوفيق بين معنى حديث: "السّفر قطعة من العذاب…" ومعاني الأحاديث الأخرى، وقد تقدّم بعضُها، التي تجعل الصّحة والغَنيمة والسّلامة والرّزق مُتَحقِّقةً في السّفر؟
الجواب سَهْل يَسير وقد أجاب عنه الأستاذ أحمد شريف النّعسان بالقول بأنه لا تعارضَ بين الحَديثَين الشّريفين لأنه لا يَلزم من وجود الصّحة والغنيمة والرّزق في السّفر لِما فيه من الحركة والتّنقل والتّجوال أنْ لا يكون قطعة من العذاب لِما فيه من المشقّة والمُنَغِّصات وافْتقادٍ للمَألوف من الطّعام والشّراب والنّوم وسائر الأحوال والعادات. ويكون السّفر بهذا الإيضاح والتّفصيل شَبيهاً بالدّواء المُرّ الذي يَهَبُ صاحبَه الصّحة والسّلامة والعافية.
السّفر، إذاً، هو قطعة من العذاب مجازاً وليس حقيقةً، بالمعاني التي سبق بيانُها، وهو مُتَعدِّد النّفع كثير الفوائد. وقد لخّص الإمام الشّافعي بعضَ هذه الفوائد في أبياته المشهورة:
تَغَرَّبْ عن الأوطان في طَلب العُلا *** وسافرْ ففي الأسفار خمسُ فوائد
إزالة همّ واكْتساب معيشة *** وعِلمٌ وآدابٌ وصُحْبةُ ماجد
فإنْ قِيل في الأسفار غمٌّ وكُرْبة *** وقَطْعُ الفَيافي وارْتكابُ الشّدائد
فَمَوْتُ الفَتى خَيْرٌ له من حياته *** بِدار هَوانٍ بَين واشٍ وحاسد
وقد توسّع أبو منصور الثّعالبي، أيضاً، في بيان منافع السّفر في كتابه "الظّرائف واللّطائف واليَواقيت في بعض المواقيت" فقال: "السّفر أَحَدُ أسباب المَعاش التي بها قَوامُه ونظامُه لأنّ الله عزّ ذِكْرُه لم يَجمع منافع الدّنيا في أرضٍ بل فرّقها وأَحْوَج إلى بَعْضٍ بَعْضَها. ومِن فَضْله أنّ صاحبه يَرى من عجائب الأَمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يَزيده علماً ويُفيده فهماً بقدرة الله وحكمته ويدعوه إلى شُكر نعمته ويَجمع المكاسب ويَسْمع العجائب ويكسب التّجارب ويفتح المذاهب ويَشُدّ الأبدان ويُنَشِّط الكَسلان ويُسَلِّي الأحزان ويَطْرد الأَسْقام ويُشَهِّي الطّعام ويَحُطّ سَوْرة الكِبْر ويَبْعث على طلب الذِّكر".
السّفر وسيلة لاكتشاف الذّات وتحقيق التّواصل
إنّ السّفر هو وسيلة من وسائل اكتشاف الذّات والوقوف على نَقْصها وعُيوبها ومخاوفها وهواجسها وشكوكها وظُنونها ومدى قدرتها على التّكيّف مع الأوضاع الجديدة.
ويتأكّد هذا الأمر حين تسافر إلى بلد أجنبيّ لا يتحدّث لغتك الأصليّة ولا يُقاسمك الثّقافة والأذواق.. فإنّك، في هذه الحال، تحاول أنْ تتكيّف مع هذا الوَضع الجديد بالاستمداد من طاقاتك المعطَّلة ومواهبك المدفونة والاستعانة بخيالك وحَدْسك لتحقيق التّكيف المناسب مع هذه البيئة الجديدة ذات أسلوب الحياة المختلف.
وإنّ هذه المحاولة أو هذه المغامرة، بغَضِّ النّظر عن نجاحها الكُّلِّي أو فشلها الجُزئيّ، فإنّها، في كلّ الأحوال، تَهَبُك شعوراً فائقاً بالسّعادة والرّضا وتُضاعف ثِقَتك بنفسك وتُجدّد وَعْيَك بذاتك وبالعالم مِن حَوْلك.
وتأسيساً على ما تقدّم يمكن القول بأنّ السّفر، بما يَنْشأ عنه من مشقّة وعَنَت أو ما يتضمَّنه من متعة ولذّات، فإنّه قد يَهَبُنا وَعْياً جديداً بذاتنا ومعرفة حقيقيّة بدَخِيلَتنا وخَفايانا. وهذا الأمر كلُّه ما كان لِيَتَحقَّق، جُلُّه أو بعضُه، لو كُنّا في حال الإقامة والاستقرار أو البُلَهْنيَّة والسُّكون.
ومن بركات السّفر، كذلك، أنّه يَمْنَحُنا مناسبة اكتشاف بُلدان أخرى وأقاليم جديدة وثقافات مختلفة وأفكار ولغات وعادات وتقاليد وأذواق وألوان ويضع، أمامنا، هذه الصّورة الجميلة للعالم القائم على التّنوع والاختلاف. وكلّ ذلك هو إضافة نوعيّة إلى رَصيدنا الإنسانيّ وتَوْسِعة لِمَداركنا وإثراءٌ لمكتسباتنا الرّوحية والعلميّة والثّقافية.
ومن حسنات السّفر، أيضاً، أنه يُسَهِّل العلاقة مع الآخر ويُحقِّق التّواصل مع كلّ مَن هُم حَوْلك من النّاس. فقد تبدأ السّفر وحيداً ولكنّك سرعان ما تكتشف أنّك لستَ وَحْدك وأنّك مُحاطٌ بأُناس كثيرين في أيّ مكان تَقْصده: تَتَعرّف على أَقْوام هنا وتَربط علاقاتٍ مع آخرين هناك وتتعاطف مع جُموع هنالك، وتتبادل التّحية مع هؤلاء وتتقاسم الإنسانيّة مع أولئك.. والسّفر حين يَربطك هذا الرّبط الجميل والمُمَيَّز بالكون والعالم والطّبيعة والأَحْياء فإنّه يملؤك، في الوقت نفسه، بعواطف قويّة وخواطر سَنِيَّة ويَشْحَنُك برُوح جديد وإقبال قويّ وعَزْم ظاهر وتفاؤل كبير.
الخروج من المنطقة الآمنة
ويُمكن لي، قبل مغادرة هذا المقام، أنْ أُضيف منافع أخرى هي تأكيد لما تقدّم أو تَكْمِلة لِما مَضَى وهي أنّ السّفر هو مناسبة للخروج من المنطقة الآمنة أو "Comfort Zone"، والمنطقة الآمنة هي أفكارُنا القَبْليّة وتصوّراتُنا الأوّلية التي نَأوي إليها ونَقوم بتَرْديدها والمحافظة عليها دون التّفكير في تغييرها. وهذه المنطقة هي منطقة الرّاحة والأمان التي نجد فيها راحتنا النّفسية والجسديّة بإشباع كلّ لذّاتنا والاستجابة لكلّ دوافعنا. وهي المنطقة التي يَقِلّ فيها مستوى الضّغط والإجهاد، لَدَينا، وتُشْعرنا بالثّقة والسّيطرة وتملأنا باللّذة والسّعادة والرّضا؛ لأنّها منطقة عاداتنا اليوميّة الحبيبة إلى أنفسنا التي لا تتغيّر وهي، كذلك، منطقةُ تصوّراتنا القَبْليّة التي لا تتبدّل وهي، أيضاً، المنطقة التي لا تُكَلِّفنا الجُهد الكبير ولا تَفْرض علينا المعاناة الكُبرى.
والسّفر، لكونه قطعةً من العذاب، حين يُخْرجنا من منطقتنا الآمنة ويَكْسِر سلسلة العادة في حياتنا ويَقْطع لذّة المَألوف في أوقاتنا ويَنْتشلنا من منطقة الوضع الحالي التي تَمْنعنا من التّقدم والتّطور والتّجديد وتَمْنعنا من تَنمية طاقاتنا ومواهبنا.
السّفر حين يصنع ذلك وأكثر فإنّه يُضيف إلى أعمارنا أعماراً أخرى وإلى تجاربنا تجاربَ كبرى وإلى عواطفنا وأرواحنا غَناءً وثَراءً وكَمِّيّات ومساحات ويَنقلنا من قَفَص واقعنا الضّيق المحدود وسِجْن يَوميّاتنا الصّغيرة المُتْعِبة إلى الواقع الإنسانيّ الكبير وفضاء الإنسانيّة الأكبر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.