في 26 يوليو/تموز 1959، استيقظت الجزائر على خبر مقتل عيسات إيدير، الناشط النقابي ومؤسس الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وذلك بعد ثلاث سنوات قضاها في سجون الاستعمار الفرنسي، وعلى الرغم من أن السلطات الفرنسية برأت عيسات إيدير من التهم الموكلة إليه، فإنه بقي في السجن شهوراً طويلة يتعرض فيها لأشد أنواع التعذيب، حتى فاضت روحه في أحد مستشفيات الجزائر بعد جلسة تعذيب قاسية.
لم تعترف السلطات الفرنسية حتى اللحظة بمسؤوليتها عن تعذيب وقتل النقابي الجزائري، إذ أرجع الجيش الفرنسي نقل عيسى إيدير لمستشفى قبيل وفاته إلى إصابته بجروح بالغة نتيجة اشتعال سيجارة في فراش زنزانته، وهو الذي لم يدخن يوماً!
من هو عيسات إيدير؟
وفقاً لمقال أكاديمي بعنوان "عيسات إيدير، مسار ومصير"، ولد عیسات إیدیر في قریة جمعة الصهاریج ببلدیة مقلع بولایة تیزي وزو وذلك یوم 11 يونيو/حزيران 1915، لعائلة فلاحية متواضعة الحال، إذ كان والده فلاحاً، أما جده فقد كان راعياً للمواشي.
في السن السادسة من عمره، فقد عيسات إيدير والدته التي توفيت سنة 1921، وهو الأمر الذي أثر في حياته وجعله يتأخر في الالتحاق بالمدرسة حتى سن متأخرة، إذ التحق بالمدرسة الابتدائية العلیا في تيزي وزو عام 1930، وهي المدرسة الفرنسية التي لم توفر لعيسات الإيواء، مما أجبره على طلب المساعدة من البعثة التبشيرية البروتستانتية المنتشرة في المنطقة.
رغم ذلك، فشل عيسات إيدير في المدرسة الابتدايية ليتحول سنة 1935 إلى الدراسة في تونس لدراسة المحاسبة والاقتصاد بالجامعة التونسية، قبل أن يجند منها في صفوف الجيش الفرنسي برتبة رقيب، وهي الفرصة التي استغلها عيسات إيدير لإكمال دراسته الجامعية ليحصل على الشهادة الجامعية.
وفي عام 1944 انضم عيسات إلى ورشة صناعة الطيران التي تميز فيها، فرقي إلى رئيس قسم المراقبة الإدارية، ما دفع إدارة الورشة إلى إرساله إلى المغرب ليقوم بالعمل نفسه في مطار الدار البيضاء.
ساهمت مسيرة عيسات إيدير المهنية التي احتك من خلالها بالعمال في تونس والجزائر والمغرب، في صقل تجربته النضالية بمجال حقوق العمال، والتعرف على رواد العمل النقابي في المنطقة المغاربية ونسج علاقاتٍ وثيقة معهم.
عيسات إيدير النقابي الذي أسس الاتحاد العام للعمال الجزائريين
في أواخر أربعينيات القرن الماضي، بدأ عيسات إيدير بالاهتمام بأوضاع العمال الجزائريين والمغاربة بشكلٍ عام، فانتخبه رفاقه عضواً في اللجنة التنفيذية لعمال الدولة بورشات الطيران، وهي لجنة تابعة للنقابات الشيوعية الفرنسية.
وفقاً لموقع babzman الناطق باللغة الفرنسية، لاحظ عيسات إيدير أن النقابات الفرنسية لا تهتم بالعمال الجزائريين مثل اهتمامها بالعمال الفرنسيين والأوروبيين، عندها فكر في تأسيس نقابة جزائرية خالصة، وهي الفكرة التي جعلته تحت مراقبة السلطات الفرنسية.
عند عودته إلى الجزائر، بدأت فكرة تأسيس منظمة نقابية جزائرية تشغل بال عيسات إيدير بشكل جدي، واستمرت السلطات الفرنسية في التضييق على المناضل النقابي الجزائري، وعملت على إزاحته من مناصب المسؤولية.
في عام 1951، اقتحمت الشرطة الفرنسية المصنع الذي كان يعمل فيه إدير، وألقت القبض عليه رفقة 10 عمال جزائريين آخرين. لتفرج عنهم السلطات الفرنسية بعد عشرة أيام من اعتقالهم.
استقال عيسات إيدير من وظيفته والتحق بصندوق المنح العائلية التابع لقطاع البناء والأشغال العمومية، ثم أصبح مسؤولاً عن اللجنة المركزية للشؤون النقابية التابعة لـ"حركة انتصار الحريات الديمقراطية" تحت قيادة مصالي الحاج، وتسبب نشاطه النقابي في سجنه مرة أخرى ثم أطلق سراحه، وذلك بحسب موقع dknews.
أشرف عيسات إيدير أيضاً على الركن العمالي بجريدة "الجزائر الحرة" لسان حال "الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية"، وفي سنة 1951 عين عضواً في اللجنة المركزية للحركة وبقي في منصبه حتى اندلاع ثورة نوفمبر/تشرين الثاني 1954.
كان لجهود عيسات إيدير ومقارباته تأثير كبير على إنشاء أول منظمة نقابية جزائرية في شهر فبراير/شباط 1956، والتي أطلق عليها اسم الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وتم تعيينه أميناً عاماً لها.
كان النجاح الذي حققه عيسات إيدير بتأسيسه الاتحاد العام للعمال الجزائريين صادماً للسلطات الفرنسية، فبعد شهرٍ واحدٍ من التأسيس انخرط في المنظمة النقابية أكثر من مئة ألف عضو، ليكون بذلك أكبر تكتلٍ جزائري في ذلك الوقت، متفوقاً حتى على جبهة التحرير الوطني التي تقود الكفاح المسلح ضد الفرنسيين.
وسريعاً تحول المقر الرئيسي للنقابة المركزية، الواقع في حي لافيجري -حالياً يسمى بالمَدَنِية- بالجزائر العاصمة، إلى ملتقى لآلاف العمال الجزائريين الذين تنقلوا إلى العاصمة من أجل الاحتجاج على ظروف عملهم.
كان القلق الفرنسي من الشعبية المتزايدة لعيسات إيدير بادياً للعيان، ففي 22 مايو/أيار 1956، وبأمر من الجنرال السفاح روبرت لاكوست، الذي كان يشغل منصب الوزير المنتدب في الجزائر، ألقت الشرطة الفرنسية القبض على عيسات إيدير في مكتبه بالنقابة المركزية للعمال الجزائريين برفقة عددٍ من المسؤولين التنفيذيين ومناضلين آخرين في النقابة.
في البداية سُجن إيدير بسجن البرواقية، ثم نُقل إلى سجون أخرى: سان لو، أفلو، بوسيه، وأخيراً نُقل إلى الجزائر العاصمة ليُوضع في سجن بربروس. سيتعرض خلال فترة سجنه هذه لتعذيب وحشي بأمر من العقيد جودارت، الذي كان يقود جهاز DST.
قتله الاحتلال الفرنسي تحت التعذيب ونفى مسؤوليته
ولم تكن السنوات التي سجن فيها عيسات مريحة للفرنسيين، فقد كان إدير يمارس دوره النقابي والتنظيمي والوطني حتى وهو في السجن، عبر تنظيم المعتقلين والدفاع عنهم وعن حقوقهم أمام سلطات السجون الفرنسية.
وبعد ثلاث سنوات في السجن دون محاكمة، وُجهت إلى عيسات إيدير تهمة تقويض أمن الدولة، ومثَل مطلع العام 1959 رفقة اثنين وعشرين نقابياً آخرين أمام المحاكم العسكرية الفرنسية في الجزائر العاصمة، وفي النهاية تمت تبرئته، وأصدر قرارٌ بإطلاق سراحه، لكن ذلك لم يحدث.
بينما كان إيدير يهم بمغادرة السجن اقتاده العقيد جودارت إلى محتشد "بئر درارية" بمنطقة الأبيار بالعاصمة الجزائر، وهناك تعرض لأبشع أنواع التعذيب، مما أجبر إدارة السجن على نقله إلى مستشفى مايو العسكري بالجزائر العاصمة.
وفي 26 يوليو/تموز 1959 أعلن عن وفاته في ظروف غامضة بدعوى احتراق فراشه بسيجارة، لكن الجزائريين طالبوا بالتحقيق في وفاته، وجاء التقرير الذي نشر في 19 ديسمبر/كانون الأول 1959، ليؤكد الرواية الفرنسية.
أثار اغتيال الأمين العام لمنظمة الاتحاد العام للعمال الجزائريين موجة من السخط والغضب في أنحاء العالم، فقد أرسلت برقيات الاحتجاج والتنديد من قبل المنظمة العالمية للنقابات العمالية الحرة، والرابطة العالمية للنقابات العمالية، والاتحاد الدولي للمزارعين والنقابيين العرب، وكذلك النقابات الشيوعية الفرنسية.