إن الحياة في أوروبا بشكل عام ربما تبدو صعبة للوهلة الأولى، عندما تكون من أصول بعيدة كل البُعد عنها؛ في أمستردام في هولندا، عاشت أسرة اساجاس طويلاً، وكان ابنها يتسلل إلى الجماعات التي إن لم تُثر الشغب جلبت المصائب بدلاً منها!
والدته حاولت منعه من الاختلاط مع أصحاب السوء، يتذكر ذلك جيداً، كيف منعته والدته من الارتباط بجماعات كانت تُتاجر في المخدرات، وكانت ترتكب جرائم لا يُطاق ذكرها، وربما لو سار على نهجهم ما وصل أبداً.
في يوم من الأيام، سمعت به أكاديمية أياكس أمستردام وأرسلت إليه دعوة للتدرب بين شبابها، وأثبت نفسه بسرعة كبيرة، حتى أصبح من أفضل لاعبي الأكاديمية.
وكان أياكس أمستردام، يجمع بين الفريق الأول وفريق الشباب في بعض التدريبات ليُشعر الشباب بأن الأمر ليس صعباً لهذه الدرجة، وهنا باتت المشكلة واضحة كالشمس، لا يُمكن التغاضي عنها.
مع الوقت، اتضح أن أسلوب هارفي اساجاس ليس مناسباً لفريق بعقلية أياكس، ومع الوقت طلب المسؤولون منه أن يبتعد قليلاً عن التشكيلة الرئيسية للفريق، ثم أبلغوه بضرورة الرحيل.
على الخط، كان الغريم الخاص بأياكس يضع اساجاس كهدف جديد، وما هي إلا أيام وتخلى إيساجاس عن أياكس كما تخلى عنه، وأعلن فينورد تعاقده رسمياً مع اللاعب القادم من أكاديمية أياكس أمستردام.
ربما هو القدر، أول مباراة رسمية لهارفي اساجاس بقميص فينورد كانت أمام أياكس تحديداً، وكانت له بصمة مهمة في التعادل الإيجابي بهدفين، وأصبح حديث الصحافة في هولندا حينها، وربما في بعض نواحي قارة أوروبا بعد المباراة.
كان هارفي اساجاس يعيش بفلسفة اليوم بيومه؛ فلم يتنبأ أن ما حدث له في أكاديمية أياكس سيحدث له في نادي فينورد، ليأتي بعد أيام أحدهم إليه ويخبره: "أنت رائع لكن…"، ثم سيستكمل الجملة التي سمعها من قبل في أياكس، ثم سيخرج من فينورد، ثم سيبحث عن نادٍ آخر…
خرج هارفي من فينورد، وأصبح كل شيء بالنسبة له مظلماً، وحاول أن يجد فرصة أخرى داخل هولندا، لكن هولندا رفضت إلا أن تُضيق الخناق عليه، فعاد هارفي إلى نقطة الصفر، وأصبح يُشارك مع فرق لم يكن لها أي وجود على الخريطة.
مع الوقت، غادر هولندا متجهاً إلى إسبانيا، وفي الدرجة الثانية هناك لعب، وبعد مدة وصله عرض بفترة معايشة في أكاديمية ريال مدريد، لكن، وكما جرت العادة، كان هارفي في كل مسيرته يعيش اليوم بيومه، لذلك معظم المباريات التي لعبها لم يتقاضَ أجرها، فلم يكن يسعفه الوقت ليمضي عقوداً احترافية، فكان يدفع من جيبه الخاص على تنقلاته ومحاولات الحصول على عقود.
ومع اتساع الجانب المظلم في حياته، باتت الديون تتراكم عليه من كل جانب، وأصبح مطالباً بأن يختار: إما أن يستمر في البحث عن فريق ويأتيه الفرج من السماء، أو أن يتنازل عن هذا الحلم المشبوه ويعيش حياته بصورة عادية لتسديد ديونه.
أدرك هارفي أن كرة القدم لم تحبه أبداً، لذا قرر أن يتركها وشأنها، واتجه إلى العمل العادي، وأصبح موظفاً يستيقظ من الصبح ويعود إلى منزله مساءً، إذ كان مقتنعاً أنه من الصعب أن يجلس المرء على الأريكة ويتحسر على أي شيء، فالحياة لا تمنحنا هذه الرفاهية.
لذا عمل في سيرك، وعمل في مصالح خاصة، إلى ذلك اليوم، ذلك اليوم الذي كان جالساً ورأى للمرة الأولى أحد الزملاء السابقين من هولندا؛ إنه "كلارنس سيدورف"، لاعب ريال مدريد السابق، واللاعب الحالي حينها في صفوف ميلان الإيطالي ومنتخب هولندا.
اقترب منه هارفي، وعرفه على الفور سيدورف، وسأله عن حاله، ماذا فعلت الدنيا به؟ فشرح واستفاض، ففهم سيدورف أن هذا الرجل يستحق فرصة ثانية، وعرض على هارفي أن يُقدمه كصفقة مجانية لإدارة الميلان.
بعد محاولات من الهولندي، وافقت إدارة ميلان على انضمام اللاعب المتقاعد، وأعدت له صالة النادي الرياضي ليستعيد لياقته، حيث زاد وزنه في فترة تقاعده لأكثر من 130 كيلوغراماً!
كان هرفي اساجاس تحت قيادة الإيطالي كارلو أنشيلوتي، وخسر مع تشكيلة الفريق في الموسم النهائي التاريخي نفسه أمام ليفربول الإنجليزي في إسطنبول، وبعدها لم تعُد كرة القدم بالنسبة لهارفي إيساجاس بالبريق نفسه، وغادرها للمرة الثانية، لكن هذه المرة كان الذهاب بلا عودة…
هذا ما كنت أبحث عنه
من يسمع عن هارفي اساجاس، ربما سيتعاطف معه، خاصة لأن اسمه لم يتردد على أسماعنا كثيراً، ورغم غرابة قصته، ورغم أنه لم يتقاضَ أجراً طوال مسيرته، إلا أنه لعب لأندية كبيرة في هولندا، وإسبانيا، وإيطاليا، ومع ذلك لم يكسب مليماً واحداً منها!
لكن هذا لم يشغل هارفي كثيراً، بل كان هناك سؤال أهم منه يشغله؛ إذ كان يندهش من صورة المسيح التي تُعلق في الكنائس: لماذا يبدو المسيح أبيض البشرة وعينه زرقاء فيها؟ لماذا لا يبدو مثل هارفي؟ هل اختاره الأوروبيون؟ أم أن الأمر يحتاج إلى بحث؟
دخل هارفي اساجاس في حالة تشكك كبيرة، وسأل رجال الدين، وربما لم يقتنع بما سمعه؛ لأنه قال إن أغلب الإجابات لم تشفِ صدره.
في يوم من الأيام، اجتمع بإمام مسجد في هولندا كان يعرفه، وسأله الأسئلة نفسها التي سألها للكنيسة، وفي المسجد، ولأول مرة، سمع آية قرآنية جعلته ينتفض من مكانه ويسأل عن معناها: (ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ) [البقرة: 255].
خرج هارفي اساجاس من المسجد، ونادى زوجته التي كانت تقف في انتظاره، ليبلغها بإسلامه.
فلأول مرة سمع كيف يبدو الله، وما هي صفاته، إذ اشتملت الآية التي بحث عنها على كل الصفات التي تليق بذات الإله، فدخل إلى دين الإسلام، واصطحب معه أسرته بالكامل، وأصبحت أسرة هارفي إيساجاس أسرة مسلمة بالكامل!
واليوم في منزله، يضع هارفي اساجاس لوحات للحروف الأبجدية العربية، ولديه في مكتبته الكثير من الكُتب التي يمكنك تعلم اللغة العربية منها، وتفرغ هارفي أخيراً لشيء يُريده بعد أن أضناه البحث؛ يريد أن يصبح إماماً لأحد المساجد في هولندا.
وقال هارفي اساجاس، إنه بحث طوال حياته عن شيء؛ فمنحه الله الهداية وشرح صدره للإسلام، وربما لم تكن مسيرته ذات بريق لامع رغم قوة الأسماء التي مثلها، إلا أنه اشتهر في هولندا بمكان أبعد من ملعب كرة القدم، وأقرب إلى الله منه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.