خلال فترة الكساد الاقتصادي في أمريكا، كانت مسابقة الرقص المعروفة باسم "ماراثون الرقص" تُعتبر فرصة لا تُعوض لكسب المال، خاصة أن قيمة جوائز تلك المسابقات كانت تعتبر مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت.
كان شرط الفوز يبدو سهلاً: "آخر من يتبقى في حلبة الرقص، ويستمر بالحركة يفوز بالجائزة"، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، ولم يكن سهلاً على الإطلاق بالنسبة للمتسابقين المتشبثين ببعضهم حتى لا يسقطوا على الأرض من شدة التعب، وأرجلهم متورمة من الرقص لأيام متواصلة وأحياناً لأسابيع وشهور.
وقد سجلت حالات وفاة بسبب التعب، أو حالات هلوسة بسبب الحرمان من النوم لأيام، لكن بعضهم استطاع إيجاد طرق غريبة للبقاء في المسابقة وحتى الفوز بالجائزة.
بداية جنون "ماراثون الرقص" كانت 27 ساعة متواصلة
قبل أن يكون هناك شيء اسمه "ماراثون الرقص" كانت البداية مع مسابقة رقص أقيمت عام 1923 في أمريكا، شاركت فيها مدربة رقص في نيويورك تُدعى "ألما كامينغز"، ورقصت لمدة 27 ساعة متواصلة، واستبدلت خلال تلك المدة 6 شركاء في الرقص بسبب تعبهم، ولكنها بقيت مستمرة بالرقص.
بعدها وبمجرد أن ضرب "الكساد الكبير" أمريكا، تحولت تلك المسابقات من كونها مسابقة رقص من أجل المتعة، إلى محاولة خطيرة للغاية من أجل كسب المال والشهرة من قبل أشخاص يائسين بسبب الأوضاع الاقتصادية.
وأصبح الرقص في ماراثون لا يعني فقط إمكانية الحصول على جائزة نقدية؛ كان يعني إطعامهم وإيواءهم طوال مدة المسابقة.
وفكّر بعض رجال الأعمال بأن تلك الفكرة يمكن أن تكون مصدراً لتحقيق الأرباح، فعرضوا جوائز نقدية يمكن أن تكون أكبر من الدخل السنوي للمزارع، وأضافوا الموسيقى الحية، ورسوماً للمشاركة ورسوماً على الحضور الراغبين بالمشاهدة.
ازدهرت الفكرة وتحولت إلى جنون كامل كونها واحدة من أغرب المسابقات في التاريخ في المدن الكبرى والبلدات الصغيرة، في قاعات الرقص والكنائس والساحات، وحتى حديقة ماديسون سكوير في نيويورك.
شرط المسابقة "ارقص حتى تفقد الوعي"
بينما اختلفت قوانين "ماراثون الرقص" من مكان إلى آخر في أمريكا، لكن أغلبها اتفقت على قواعد متشابهة، الرقص يكون في أزواج، ويجب ألا تلمس ركبة أي منهما الأرض، وإلا يعتبر كلاهما خارج المسابقة، وبينما كانت بعض المسابقات تتطلب رقصاً "حقيقياً"؛ اكتفت المسابقات الأخرى بحركة القدمين فقط بما يشبه قيام الشخص "بالمراوحة في مكانه".
سُمح للمتسابقين بمغادرة حلبة الرقص للراحة أو استخدام الحمام أو تناول الطعام لـ10 دقائق أو 15 دقيقة كل 6 ساعات أو 3 ساعات، حسب ما يراه المنظمون مناسباً.
وشهدت تلك المسابقات حضور أطباء للعناية؛ حيث فقد الكثير من المتسابقين وعيهم، وتعرضت أقدامهم للتورم وظهور البثور بسبب الرقص لأيام متواصلة، لكن بعض المتسابقين ابتكروا طرقاً للبقاء في المسابقة لأطول فترة ممكنة.
كان بعضهم يتناوبون بالنوم وهم واقفون، بينما يحملهم شريكهم حتى لا تلمس ركبتهم الأرض، وكان بعض المتسابقين يقومون بمهام يومية مثل كتابة الرسائل، وقراءة الجريدة، وحتى الحلاقة، باستخدام مرآة معلقة حول رقبة شريكهم في الرقص.
خلال مسابقة "ماراثون الرقص" أقيمت عام 1928 في مينيسوتا، رقص "كالوم ديفيلييه" و"فوني كوتشينسكي" لمدة 443 ساعة أو ما يقرب من 19 يوماً على التوالي.
ولكن حتى هذا الإنجاز الخارق تم تحطيمه من قبلهم بعد 4 سنوات فقط في سباق الماراثون الأسطوري في إحدى ضواحي بوسطن، حيث رقصوا على مدار 24 ساعة في اليوم، مع 15 دقيقة راحة فقط كل ساعة، تفوق "ديفيلييه" و"كوتشينسكي" على منافسيهم لمدة 157 يوماً من ديسمبر 1931 إلى يونيو 1932، وحصلا على جائزة 1000 دولار، (حوالي 20 ألف دولار اليوم).
كان "ديفيلييه" فخوراً جداً بإنجازه لدرجة أن شاهد قبره، الذي صممه بنفسه، كتب عليه: "حرمان من الراحة وقتال على الحلبة".
حيل المروجين لجذب المشاهدين
جذبت هذه المشاهد الغريبة جمهوراً هائلاً، دفع بفارغ الصبر رسوم الدخول ليلة بعد ليلة لمشاهدة الراقصين وتشجيع متسابقيهم المفضلين. اجتذب ماراثون مدينة نيويورك عام 1928 ما يقرب من 12 ألف متفرج يومياً، وتابعه ملايين آخرون في الصحف.
ولكن نظراً لأن مشاهدة الأشخاص المنهكين وهم يتجولون في نعاس حول حلبة الرقص سرعان ما أصبحت مملة، بدأ مروجو الماراثون في ابتكار طرق مبتكرة للمحافظة على الجمهور، حتى لو على حساب صحة المتسابقين.
أحياناً كانوا يقومون بسباقات السرعة، حيث تسرع الموسيقى فجأة، وعلى المتسابقين الرقص بسرعة، أو "الحمام الفضي"، حيث يتم تشجيع المتفرجين على رمي العملات المعدنية على الراقصين. وشملت عوامل الجذب الأخرى السحوبات، ومصارعة الوحل، وتصويت الجمهور على المتسابقين المفضلين، والمراهنة على الأسماء الفائزة.
خلال بعض المسابقات، تم تقليص فترات الراحة تدريجياً من 15 إلى 10 دقائق، ثم 5، ثم بلا راحة، ما تسبب في سقوط المتسابقين وانهيارهم على الأرض.
ومثل برامج تلفزيون الواقع اليوم والتحديات المنتشرة على الإنترنت، أصبح ماراثون الرقص مزيجاً ضاراً بين الرقص المنهك والمنافسة الشديدة بين المتسابقين والمروجين والمنظمين لتلك الأحداث.
مع اختلاق الروايات والقصص حول المتنافسين، وتوظيف راقصين محترفين للظهور على أنهم هواة، أو حتى دفع أموال للمتسابقين ليقاتلوا بعضهم داخل الحلبة من أجل تحقيق أقصى قدر ممكن من "الدراما".
موت وإصابات خطيرة وحظر للمسابقة في العديد من الولايات الأمريكية
مع استمرار بعض تلك المسابقات على مدار أيام أو أسابيع أو حتى أشهر، وبسبب طمع المروجين واستغلالهم لحاجة المتسابقين للفوز بالجائزة، تحولت تلك المسابقات من مجرد إرهاق إلى كابوس حقيقي.
في العديد من المرات عندما يحين وقت فترة الاستراحة، غالباً ما كان المتسابقون يفقدون الوعي، ليتم إيقاظهم بعد 15 دقيقة باستخدام بوق هوائي. أما أولئك الذين لا يمكن إيقاظهم، فقد تم صفعهم، واستخدام روائح قوية لإيقاظهم، أو إلقاؤهم في أحواض من الماء المثلج لإعادتهم إلى أقدامهم.
وفي الساعات الأخيرة من الكثير من تلك المسابقات، لم يكن من غير المألوف أن ينهار المتسابقون من الإرهاق على حلبة الرقص.
حتى وصل التعب بأحدهم للموت، وهو الشاب "هومر مورهاوس" البالغ من العمر 27 عاماً، والذي توفي عام 1923 بسبب قصور القلب بعد الرقص لمدة 87 ساعة متواصلة مع فترات راحة قصيرة جداً.
كما شهدت تلك المسابقات، بعد 6 أو 7 أيام من الحرمان من النوم أعراض انهيار عقلي لدى بعض المتسابقين، مثل الهلوسة، وفقدان الوعي، حيث تم الإبلاغ عن قيام بعضهم بقطف أزهار خيالية من حلبة الرقص، أو الفرار من الأشباح الوهمية.
في عام 1928، تعرضت امرأة من سياتل تدعى "غلاديس لينز" للكم في فكها عندما أصيب شريكها في الرقص المنهك بهلوسات غريبة بسبب الحرمان من النوم والتعب. وبشكل مأساوي وبعد أن رقصت "غلاديس لينز" لمدة 19 يوماً متتالية واحتلت المركز الخامس فقط، انتحرت.
صدمت وفاة لينز سلطات سياتل، ما دفع المدينة إلى تمرير مرسوم يحظر ماراثون الرقص داخل حدود المدينة. سرعان ما حذت مدن أخرى حذوها، بما في ذلك تاكوما وبوسطن ونيويورك، حيث أغلق مجلس الصحة التابع له ماراثوناً ضخماً في ماديسون سكوير بعد انهيار متسابق يبلغ من العمر 21 عاماً وبدأ يتقيأ الدم، بعد 400 ساعة من الرقص.
بحلول أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، تلاشت سباقات "الماراثون الراقصة" بسبب تلك القوانين، وأيضاً مع دخول أمريكا في الحرب العالمية الثانية لم يعد هناك جمهور مهتم بمثل تلك المسابقات.