أزمة فاغنر تمثل نقطة فارقة في علاقة روسيا والصين، والأهم في نظرة بكين إلى النموذج الروسي للحكم والعمل العسكري، هكذا يرى كثير من المحللين الغربيين.
فطوال معظم الحرب الجارية في أوكرانيا، سادت حقيقة بديهية في معظم الطيف السياسي الأمريكي، من اليسار إلى اليمين، حول التأثيرات غير المباشرة لنتائج الصراع. وهو أنَّ انتصار أوكرانيا من شأنه تقوية موقف الولايات المتحدة في مواجهة الصين عالمياً، في حين أنَّ النصر الروسي سيحقق العكس، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لكن هناك لغزاً أكثر إثارة للاهتمام، ومن المفاجئ أنه لم يحظَ حتى الآن باهتمام كبير من الصين وروسيا وأوكرانيا، وهذا يتضمن الطريقة التي تنظر بها بكين إلى المحاولة الأخيرة من رئيس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، لقيادة جيشه الخاص من الحدود الجنوبية الغربية الروسية إلى موسكو.
تقول المجلة الأمريكية إن الوصف الوحيد المناسب هنا هو "اللغز"؛ ليس لأننا لا نعرف ما الذي دفع بريغوجين حقاً إلى التمرد أو من فعل ذلك من بين المتآمرين المحتملين من داخل نظام بوتين، لكن لأنَّ التفكير الصيني رفيع المستوى بشأن الأحداث العالمية الأبرز غامضٌ تماماً.
الرئيس الصيني وصفت شراكة بلاده مع روسيا بأنها بلا حدود
ما هو معروف علناً هو أنَّ زعيم الصين، شي جين بينغ، أدلى ببيان قوي بشكل غير عادي عن تعاطفه مع روسيا وبوتين في أوائل العام الماضي، عندما تحدث عن صداقتهما على أنها "بدون حدود".
ومنذ ذلك الحين، تسعى الصين جاهدة لتوضيح أنَّ هذا لا يعني أنَّ البلدين قد دخلا في تحالف، وفي الوقت نفسه تحاول تحقيق توازن دقيق ومكلف، بينما تُظهر الدعم لموسكو بطرق مختلفة من خلال البيانات العامة والتبادلات الدبلوماسية رفيعة المستوى. ولتجنب تكبد تكاليف باهظة في علاقتها المضطربة بالفعل مع واشنطن، فقد تطلّب ذلك من بكين أن تتجنب ظهور حتى الحد الأدنى من الأسلحة الفتاكة بين صفوف الجيش الروسي.
ولتجنب إلحاق ضرر جسيم بالعلاقات مع أوروبا، توجَّب على الصين الثبات على موقف يوحي بأنها غير حريصة على انتصار روسيا بقدر اهتمامها بالوصول لنوع من النتائج العادلة والسلمية.
ومع ذلك، كيف ينظر الصينيون أنفسهم إلى الأحداث الأخيرة في روسيا؟ إذا كانت بكين مؤمنة بفكرة أنَّ روسيا والصين تدافعان معاً عن الاستبدادية ضد الهجمات اللانهائية مما يُتصوَّر أنها الليبرالية الغربية والديمقراطية، فإنَّ هذه الأوهام انتهت الآن. ولم تعد هناك أية طريقة ممكنة لفهم أو تفسير أساليب بوتين التي يمكن أن تجعل الصين مرتاحة من خلال الاقتران الأيديولوجي الوثيق أو حتى مقارنة بين البلدين.
الرئيس شي ينظر إلى ما فعلته فاغنر ببوتين بازدراء
دار كثير من الجدل حول استبداد الصين المتزايد تحت حكم الرئيس شي جين بينغ، لكن من الصعب تخيل أنَّ شي ينظر إلى المشهد المتدهور لروسيا بأي مشاعر أقل من الازدراء الصامت.
ومن المعروف أنَّ الرئيس الصيني طلب من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني دراسة المشهد واستنباط الدروس من زوال الاتحاد السوفييتي في عهد ميخائيل غورباتشوف. وخلص تقييمه الشامل لكيفية انهيار تلك القوة العظمى السابقة هو أنها فقدت أعصابها؛ مما يعني أنها لم تكن لديها الشجاعة للقتال دفاعاً عن نظامها الخاص والحفاظ عليه. ومن الواضح أنَّ بوتين لديه الإرادة لمواصلة القتال من أجل السلطة، لكن هل يرى الرئيس شي أنَّ بوتين لديه نظام يستحق القتال من أجله؟ إنَّ تاريخ الصين منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن يقول عكس ذلك.
الصين الحديثة تأسست على سيطرة الحزب الشيوعي على الجيش بسبب معاناتها من أمراء الحرب
كان أحد المبادئ التأسيسية لماو تسي تونغ، الذي أدى انتصاره على القوميين في حرب أهلية طويلة إلى تأسيس جمهورية الصين الشعبية، أن يظل جيش البلاد في جميع الأوقات تحت سيطرة واضحة لا لبس فيها وفي خدمة الحزب الشيوعي الصيني. وتمسّك جميع الزعماء منذ ماو بهذا النهج، وأكثرهم الرئيس شي، الذي عزز من هذا المبدأ.
لكن تاريخ الصين يحمل في طياته أسباباً أقدم للشعور بالنفور من انحلال روسيا المستمر في عهد بوتين. لعقود من الزمن قبل انتصار الحزب الشيوعي الصيني في عام 1949، كانت البلاد ممزقة باستمرار بسبب الديكتاتورية العسكرية لأمراء الحرب.
وامتدت فترة أمراء الحرب في الصين من عام 1916 إلى عام 1928، حيث تم تقسيم السيطرة على البلاد بين عشرات المجموعات العسكرية والفصائل الإقليمية في بعض الأوقات.
كثير من هذه الميليشيات كانت من الجيوش الإقليمية التي تأسست في نهاية عهد أسرة تشينغ الإمبراطورية لمحاربة التمردات المحلية، وتم اختيار الجنود من قبل قادتهم، لذلك تشكلت روابط الولاء الشخصية بين الضباط المحليين والقوات.
بوتين يبدو وكأنه يعيد بناء التاريخ الروسي على النمط الصيني
وبسبب هذه النقطة تحديداً، يأتي مشهد روسيا اليوم تحت تركيز نقدي حاد في الصين. وكما لو أنَّ بوتين يتابع نسخة عكسية من التاريخ الصيني، فقد اعتمد الرئيس الروسي بشكل متزايد على أمراء الحرب والميليشيات لتعزيز سلطته والسعي إلى تحقيق أهداف استراتيجية.
وشمل هذا الاعتماد جولة قاتلة سابقة في الشيشان مطلع القرن الحالي، عندما لجأ بوتين إلى القوات الموالية لأحمد قديروف للمساعدة في إخماد تمرد انفصالي هناك. وفي العام الماضي بأوكرانيا، ذهب بوتين حتى إلى أبعد من تعزيز تلك الاستراتيجية من خلال الاعتماد بشدة على مجموعة فاغنر شبه العسكرية التابعة لبريغوجين (وبصورة أقل، المقاتلين الشيشانيين) من أجل غزو مكون سابق في الاتحاد السوفييتي وأكبر دولة في أوروبا من حيث المساحة وإعادة ضمها إلى روسيا.
وربما كان من الأفضل لبوتين الانتباه لما كتبه ميكافيللي في القرن السادس عشر: "المرتزقة ووحدات المساعدة العسكرية عديمو الفائدة وخطيرون. وإذا تمسك المرء بدولته على أساس هذه الأسلحة فلن يقف قوياً ولا آمناً، لأنهم مفككون وطموحون وبلا انضباط". بينما من جانبها، لا تحتاج الصين، مع تقاليدها العميقة في فن الحكم، إلى هذا التحذير، خاصةً أنَّ تاريخها في القرن الماضي غني جداً بالأمثلة التحذيرية من دور الميليشيات وأمراء الحرب.
وقد تكون إحدى المفارقات أن كثيراً من القادة المستبدين في العالم وليس الصين، خاصةً ذوي الخلفية العسكرية، روجوا في إعلام بلادهم لنموذج حكم الرئيس الروسي باعتباره مثالاً على الدولة القوية التي يسيطر فيها الجيش على كل شيء، بينما أعاد بوتين إحياء الميليشيات في روسيا بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية في العشرينيات.
بعد أزمة فاغنر.. قادة الصين لا يريدون ربط أنفسهم ببوتين
ويساعد هذا في تفسير سبب صمت بكين لفترة طويلة بعد تمرد بريغوجين قصير الأجل. فقد كان الأمر محرجاً، وطوال مدة التمرد، لم يرغب أحدٌ بالصين في الارتباط بشكل وثيق مع روسيا. وعندما بدأت بكين أخيراً في التعليق، اكتفت بالتعبير عن رغبة لطيفة في أن تتمكن جارتها بطريقة ما من الحفاظ على استقرارها الوطني.
ولا يوحي أي من هذا بأنَّ الصين ستتخلى عن روسيا أو بوتين. إذ كيف يمكنها فعل ذلك؟ فالبلدان جاران مسلحان نووياً ومرتبطان بالعديد من الأشياء؛ من اعتماد روسيا المتزايد على الصين لشراء الهيدروكربونات إلى تدفق المهاجرين الاقتصاديين الصينيين إلى الأراضي الحدودية ذات الكثافة السكانية المنخفضة في الشرق الأقصى الروسي.
وليس هناك شك في أنَّ الصين قد شكّلت نفسها بقوة على غرار الاتحاد السوفييتي. وحتى حكم ماو الشخصي والمحاولات العديدة التي صدرت عن روسيا لتعريف عقيدتها السياسية ومراقبتها لم تغير ذلك. لكن ما انتهى، على الأقل طالما بقي بوتين في السلطة، هو أي تصور أنَّ البلدين ما زالا يشتركان في أيديولوجية جوهرية. وحتى من وجهة نظر بكين، يجب أن تبدو سلطوية بوتين مُنَفرة. لا تثق بالابتسامات؛ إذ صارت روسيا مشكلة أكثر من كونها حليفة