لا يخفى على أحد المعركة الاقتصادية المحتدمة بين الصين من ناحية والغرب من ناحية أخرى، والصراع المحموم على التكتلات الاقتصادية، ما جعل العديد من الاقتصادات الناشئة في مأزق بسبب المواءمة بين القوى الاقتصادية الكبرى لتحقيق منافع من كل الأطراف.
المغرب يعد أحد البلدان التي تحاول التوفيق بين احتياجاته الاقتصادية وبين الصراع الغربي الصيني على الهيمنة الاقتصادية، لكنه حتى الآن ناجح في هذا التحدي الصعب.
طنجة تجمع الغرب والصين
ففي مدينة طنجة القديمة نحو الجنوب حيث توجد الشركات الغربية بأعداد كبيرة، بينما تأتي الشركات الجديدة باستمرار في محاولةٍ لركوب موجة النمو القريبة من الساحل. ولهذا تجد أن مصنع Renault SA الذي يضم 8,000 عامل يقع على الجانب المقابل من الطريق السريع أمام مدينة طنجة للسيارات، التي تبلغ مساحتها 1,500 فدان.
وتستضيف المدينة عشرات الشركات مثل شركة توريد المقاعد Lear Corp التي يقع مقرها في ميشيغان، وشركة تصنيع المكونات الفرنسية Valeo، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
واليوم، تُعزز الصين وجودها داخل المغرب في محاولة لبلوغ المزيد من الأسواق العالمية. وضمت قائمة المشغلين الجدد في تجمع صناعة السيارات شركة تصنيع كابلات الألياف الضوئية ZTT Group، وهي شركة نشطة في خطة بكين الكبرى لتغطية الكوكب بالبنية التحتية لمبادرة الحزام والطريق.
وفي الشهر الماضي، وقّعت شركة تصنيع البطاريات Gotion High-Tech Co مذكرة تفاهم مع المملكة المغربية، وذلك من أجل بناء مصنع لبطاريات السيارات الكهربائية في المغرب بتكلفة تبلغ 6.4 مليار دولار، ليصبح بالتبعية واحداً من أكبر مصانع بطاريات السيارات الكهربائية في العالم.
وقال أحمد بنيس، المدير الإداري للمناطق الصناعية طنجة المتوسط، خلال مقابلةٍ أجراها مطلع الشهر الجاري: "لدينا اليوم العديد من الشركات الصينية التي تدرس دخول المغرب، وستصدر بعض الإعلانات في القريب العاجل".
وستتجه العديد من تلك الشركات صوب مدينة طنجة التقنية (طنجة-تيك). إذ إنها مصممة برؤيةٍ لاستيعاب عشرات الشركات الصينية داخل "مدينة ذكية" تضم بنية تحتية عامة، إلى جانب المناطق السكنية والمرافق السياحية.
ويُمكن وصف كل ما سبق بمصطلح العولمة كما شاع تصوره خلال العقود التي أعقبت نهاية آخر مواجهة بين القوى العظمى. لكن الصراع المتصاعد بين واشنطن وبكين يترك الكثير من الاقتصادات الأصغر عالقةً في المنتصف، وتحت ضغوطات للاختيار بين الجانبين، وذلك بدايةً من جنوب إفريقيا ووصولاً إلى السعودية.
"المغرب يؤمّن نفسه"
قال جيوف بورتر، مؤسس شركة North Africa Risk Consulting: "يراقب المغرب ما تفعله الدول الأخرى حتى يتمكن من الموازنة بين المصالح المتنافسة". وأردف أن مسؤولي الحكومة الأمريكية تحديداً "يُدركون أن المغرب يؤمّن نفسه. وسيجادل هؤلاء بأن المغرب يحق له فعل ذلك، لكنه سيضطر للاختيار بين الجانبين عندما تحتدم الأمور".
بينما يراهن مسؤولو المغرب على قدرتهم أن يتجنبوا حدوث ذلك في الوقت الراهن. حيث يرون أن موقع البلاد على أعتاب أوروبا وإفريقيا، وتجارتها الحرة مع الولايات المتحدة، تجعلها وجهةً جذابة للشركات الراغبة في الإنتاج لهذه الأسواق من كافة أنحاء العالم.
وتعتمد لوجستيات التصنيع في المغرب على ميناء المياه العميقة "طنجة المتوسط"، وعلى الشركات الأجنبية المتمركزة هناك لنقل البضائع. حيث يجري يومياً تحميل 50 أو 60 شاحنة بضائع، تديرها شركة XPO Inc من كونيتيكت، على متن العبارات المتجهة إلى إسبانيا مروراً بمضيق جبل طارق.
ويستحوذ الشحن بين المغرب وأوروبا على غالبية أعمال شركة XPO، كما تضم قائمة عملائها الرئيسيين اثنتين من شركات تصنيع قطع غيار السيارات الصينية. ويقول لويس غوميز، المدير الأوروبي لـXPO، إن شركته تشهد نمواً في إيراداتها بالمغرب بنحو 30% سنوياً.
ويساعد ميناء طنجة المتوسط على زيادة تدفق التجارة، وهو ميناء ينافس بعض المنافذ التجارية الأوروبية الأقدم من حيث حجم التجارة واتصاله بالأسواق العالمية. ولا يزال هذا الميناء في طور التوسع من أجل توفير مساحة رسو أكبر لسفن الحاويات، وزيادة قدرة تصدير السيارات.
كما يبني المغرب ميناءً ضخماً آخر بالقرب من مدينة الناظور على البحر المتوسط أملاً في تكرار قصة نجاح طنجة.
يُذكر أن مسألة الموانئ قد أثارت جدلاً كبيراً بشأن الأمن القومي، نظراً لنفوذ الصين المهول في مجال الشحن البحري. لكن أكبر شركات الشحن الأوروبية هي التي تدير غالبية محطات الحاويات في ميناء طنجة المتوسط، ومنها شركة Hapag-Lloyd AG الألمانية. ويقول رولف هابن يانسن، الرئيس التنفيذي للشركة الألمانية، إن موقع طنجة يخدم مجموعة متنوعة من الاحتياجات.
حيث أوضح في مقابلة أجراها: "إذا كنت ستنقل حمولةً من آسيا على سبيل المثال، فيمكنك استخدام طنجة من أجل توزيع الحمولة في غرب المتوسط. أو يمكنك استخدام طنجة لنقل الحمولة إلى شمال أوروبا. كما يمكنك استخدام طنجة لنقل الحمولة إلى إفريقيا، أو الولايات المتحدة، أو حتى أمريكا الجنوبية. وسيسعدنا استثمار المزيد من الأموال هناك".
"حقول خاوية"
تمتد علاقة المغرب بالغرب إلى ما هو أعمق من روابط التجارة والاستثمار. إذ يُعتبر المغرب واحداً من الدول التي تصنفها الولايات المتحدة كـ"حليف رئيسي من خارج دول الناتو"، بتعداد سكانٍ يبلغ 37 مليون نسمة واقتصاد يوازي حجم اقتصاد ميسيسيبي. ويجعله هذا التصنيف مؤهلاً للاستفادة بمزايا التعاون الدفاعي والأمني المفيدة في نزاعات الأراضي الإقليمية. وتزيد هذه العلاقات من تعقيد الاستراتيجية الصينية هناك.
إذ أطاحت الولايات المتحدة بفرنسا في العام الماضي لتصبح أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب، بحسب الأرقام الحكومية، بينما تسللت الصين إلى المراكز الـ10 الأولى.
وتوجد شركات مثل Huawei Technologies Co وZTE Corp على الأرض داخل المغرب، حيث تنشط بقوةٍ في مجال توظيف صغار المهندسين. ومن المتوقع أن تكون هناك نحو 200 شركة تقنية صينية أخرى تعمل في المغرب بحلول عام 2027، وذلك في حال نجاح خطط المنطقة الصناعية عالية التقنية.
وكانت جوليان فورمان، المديرة العامة الأوروبية في شركة Polydesign Systems، من بين المسؤولين التنفيذيين الأمريكيين القلائل الذين شهدوا عن قربٍ تحول البلاد على مدار عقدين. حيث تنشط شركتها في مجال صناعة الأجزاء الداخلية والمقاعد، وتُدير مصنعاً يضم 1,600 عامل في منطقة طنجة الحرة، وتشحن منتجاتها من هناك إلى جميع أنحاء العالم.
وقد بدأت الشركة عملها هناك بـ50 موظفاً في عام 2001، "عندما كانت المنطقة مجرد حقول خاوية ترعى فيها الأغنام". وتؤمن جوليان بواقعية المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بالتنافس الأمريكي-الصيني، لكنها ترى أنها مخاطر يمكن التغلب عليها.
واستشهدت ببعض مزايا التصنيع هناك بالنسبة للزبائن العالميين، ومنها أن معدلات الغياب ودوران الموظفين في المغرب أقل بكثير من مصانع وسط أوروبا التي كانت تديرها. وإذا أرادت شركة Polydesign العمل في بلدٍ مرتفع التكلفة مثل المملكة المتحدة -التي تتمتع بقدرة أتمتة أكبر- فسوف ترتفع تكلفة العمالة بمقدار 10 أو 12 ضعفاً.
بوينغ وهواوي
ما تزال هناك العديد من العقبات التي تواجه حملة الاستثمار والتوظيف التي استخدمت نحو نصف الأراضي المخصصة لها. إذ تقول فيدريكا مارزو، الخبيرة الاقتصادية في البنك الدولي، إن سوق العمل المغربي مثلاً "لا يبدو في وضعية جيدة للتغلب على هذا التحدي". فالمشاركة النسائية منخفضة، بينما تندر خيارات رعاية الأطفال خارج العائلة، في ما تمثل التنقلات اليومية مشكلة عويصة للعديد من العاملين.
وأثناء تغيير مناوبات العمل في مصنع Renault مثلاً، تسد قوافل الحافلات حركة المرور حتى تنقل الموظفين من وإلى مصنع طنجة. وتتحرك يومياً نحو 150 حافلة محملة بالركاب الذين يقضون ثلاث ساعات إجمالاً في التنقل ذهاباً وإياباً. وربما افتتح المغرب خط قطارٍ سريع يربط طنجة بالعاصمة الرباط ومدينة الدار البيضاء عام 2018، لكنه ليس مفيداً للعديد من عاملي المغرب الريفيين بسبب سعر التذكرة وقلة المحطات.
وتحتاج القوى العاملة الشابة إلى مهارات أفضل، وذلك إلى جانب تسهيل التنقلات وتحقيق توازن أكبر بين الجنسين. وهنا تأتي المنافسة الحقيقية بين الولايات المتحدة والصين على الأرض. حيث جاء تدشين برنامجين في أبريل/نيسان ليبرهن على حجم تنافس القوى الكبرى في إطارٍ مصغر.
إذ تحالفت عملاقة الطيران الأمريكية بوينغ مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل، من أجل إطلاق برنامج تدريبي مدته أربعة أشهر في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، ليُفيد بذلك العشرات من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً. وفي الوقت ذاته، نظمت وحدة هواوي في المغرب مجموعة من الصفوف الرئيسية داخل كلية هندسة محلية، مع برامج لتعزيز مهارات تقنية المعلومات.
وقالت رابعة العلامة، المديرة الإدارية لغرفة التجارة الأمريكية في المغرب، إن الصين تُعَدُّ أكثر حزماً في ما يتعلق بتوظيف وتدريب الطلاب المحليين. حيث تعيش رابعة بالقرب من نحو 150 مسؤولاً تنفيذياً صينياً شاباً يعملون في شركتي هواوي وZTE. ويتحدث المسؤولون الصينيون اللهجة المحلية، كما يندمجون مع المجتمع بصورةٍ جيدة.
وذكرت رابعة أن شركة هواوي مثلاً "تذهب إلى الجامعات، وتُؤسس الأكاديميات، وتُقدم الهبات، وتُعطي المنح للطلاب من أجل الذهاب إلى الصين. وأتمنى أن تقدم الولايات المتحدة منحاً للطلاب أيضاً".