يتابع العرب باهتمام كبير الشؤون التركية ومجموع الأحداث والتطورات التي تشهدها تركيا منذ بداية هذه الألفية.
والانتخابات العامة الأخيرة يوم 14 مايو 2023، تؤكد حجم هذا الاهتمام وتضاعف درجته، ولكن السؤال هو: لماذا هذا الاهتمام العربي الشعبي والرسمي بمجموع الأحداث والشؤون التركية؟
إن هناك مجموعة من الأسباب، في ظني، هي التي جعلت هذا الاهتمام العربي بالشؤون التركية العامة يتمدد ويتواصل منذ عقدَين من الزمن. وفي الخطوط التالية إضاءة وتحليل.
أما السبب الأول، فهو تاريخي، وتوضيح هذا الأمر أن العرب والأتراك كلَيهما كان لهم دور في صناعة التاريخ كبير وكان لهم أيضاً، حضور مُهيمن وإنجازات حضارية كبرى: فالعرب دخلوا التاريخ قبل الأتراك، وصنعوا حضارة هي نسيجُ وَحْدها لا تزال أجيال الإنسانية المتعاقبة تستفيد من ثمارها. ولكن حين صَغُرت همتُهم وانحصرت اهتماماتهم واخْتفت مساحات المُثُل والأفكار في حياتهم، زالت قوتُهم وتَسلم المشعل منهم الأتراك الذين بسطوا نفوذهم في العالم العربي وفي مناطق واسعة من العالم، وأدَّوا دورهم التاريخي الكبير في مسيرة الحضارة الإسلامية.
هذا اللقاء التاريخي بين العرب والأتراك الذي دام 400 سنة أو يزيد، والذي بدأ بدخول العثمانيين المنطقة العربية، لأسباب مختلفة، منذ بدايات القرن الخامس عشر ما زالت آثاره شاخصة إلى اليوم وما زالت معانيه محفورة في الضمير الجمعي العربي. ولم تستطع سياسات التتريك الظالمة، في أواخر الدولة العثمانية، التي كانت سبب القطيعة التاريخية بين الشعبَين العربي والتركي وأحد أسباب انهيار الدولة الإسلامية الكبرى، التي تزعمتها الآستانة آنذاك، أو وصف الوجود العثماني بالاحتلال للأرض العربية… كل أولئك ،إذنْ، لم يستطع أن يَكسر هذه الروابط التاريخية القوية بين الشعبين الممتدة في الزمان والمكان. وكأن العرب حين يلتفتون جهة الأناضول ويُولُون اهتمامهم شَطْر تركيا ويتابعون شؤونها وأحوالها وتفاصيلها، إنما يجددون عهدهم بحليف قديم وشريك معتبَر وجار قريب تربطهم به عوامل الحضارة ولقاء التاريخ وعلاقات الجغرافيا وأواصر الرحم.
التاريخ، إذنْ، والجغرافيا وعوامل الحضارة والانتماء هي أحد أسباب هذا الاهتمام العربي الشعبي والرسمي بمجموع الأحداث والشؤون التركية.
ولكن الذي ينبغي الإشارة إليه في هذا المقام، أن هذه الروابط التاريخية والقيم الثقافية المشتركة والعلاقات والأواصر التي كانت مُغَيَّبة أو مدفونة، في تركيا منذ إلغاء الخلافة الإسلامية في 29 أكتوبر 1923، وتأسيس الجمهورية التركية التي قامت على الكمالية، هذه الروابط التاريخية والأبعاد الحضارية والقيم الثقافية المشتركة التي تصنع اليوم هذا الاهتمام العربي وهذا التواصل والارتباط إنما نفخ الروحَ فيها وبعثها من مرقدها، فأحياها مجموعُ الظروف السياسية والثقافية والنفسية التي أعقبت نتائج الانتخابات النيابية في نوفمبر 2002، التي شهدت فوز حزب العدالة والتنمية وحصوله على 365 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان، وعددها 550 مقعداً آنذاك.
أما السبب الثاني، لهذا الاهتمام العربي الواسع بتركيا وشؤونها، فهو التجربة التي يخوضها هذا البلد منذ بداية هذه الألفية إذْ هي تجربة فريدة استطاعت تحقيق القفزة النوعية في قطاعات عديدة وتحقيق جملة من القرارات والمواقف والسياسات في ظروف وأوضاع مشحونة بالإكراهات والمتناقضات.
والعرب حين يتابعون الشؤون التركية والتحولات النوعية التي تحققت في هذا البلد، وفصول النهضة والبناء التي شملت قطاعات حيوية واستراتيجية كالصناعات العسكرية والبُنَى التحتية الواسعة والمشاريع الكبرى ومشاهد الانتخابات والسلوك السياسي ومجموع الأحداث والتطورات، فإنهم يتساءلون:
كيف استطاعت تركيا، بلدُ الانقلابات العسكرية التي دخلت دوامة السلبية والتبعية والتخلف والفقر منذ أول انقلاب عسكري في 27 مايو 1960 – كيف استطاعت تجاوز أزمتها والخروج من نَفَقها المُظلم؟ وكيف استطاعت تركيا الجديدة أو تركيا ما بعد الحكم العسكري أنْ تحقق في عقدين من الزمن، إقلاعاً ظاهراً بإنجازاتها في الداخل والخارج، فتصبح دولة قوية ومحترمة وأكبر إنجاز حققته، على المستوى الخارجي، هو حضورها القوي في مسرح العلاقات الدولية وتأثيرها الظاهر في الأحداث والسياسات، متوسلةً بقوتها الناعمة وقوتها الصلبة ويُحْسب لها كل حساب على المستوى الإقليمي والدولي؟ والعرب حين يتساءلون هذا التساؤل يستحضرون في الوقت نفسه، وجود تركيا الفعال في كثير من المناطق والأمصار، وكذلك حضورها النوعي في حوض البحر الأبيض المتوسط، شرقِه وغربه، وفي أوروبا وإفريقيا وآسيا، وفاعليتها في الأحداث الدولية وفي كثير من القضايا والنزاعات والتكتلات، تُنافس الكبار، وكلمتها مسموعة وهي تصنع لنفسها مكاناً محترماً في نادي الدول الكبرى ذات القوة والفاعلية والتأثير.
وكذلك يتساءل العرب وهم يتابعون المشهد التركي بفصوله المختلفة ومظاهر القوة البارزة فيه: كيف استطاع الأتراك، وهم أحفاد السلاطين الذين حكموا أجزاء كبيرة من العالم، أنْ يَنهلوا من ثقافتهم ويَتَشرَّبوا بتُراثهم وأنْ ينجحوا في الاستمداد من مجموع القيم التي قامت عليها الإمبراطورية العثمانية كالقوة والصرامة والسيادة والنِدّيّة وإثبات الذات وتحقيق الوجود واستقلالية القرار السياسي ورفض التبعية والإملاءات والاعتزاز بالهوية والانتماء.
وكأن العرب الذين يئنون تحت أنظمة الاستبداد المترهِّل، الذي قتل فيهم إنسانيتهم ودفن مواهبهم وعطل طاقاتهم، وصيّرهم أرقاماً متشابهة – كأن العرب بهذا التساؤل وهذه الالتفاتة وهذا الاستحضار، إنما يجدون في التجربة التركية مثالاً ممكنٌ اتباعُه أو الاستفادة منه، ومتنفَساً لأوضاعهم الصعبة أو مَخرجاً مأمولاً لظروفهم البائسة، ونموذجاً قد يُحْتذَى به يتطلعون إليه ويُؤَمِّلون قيامه في أوطانهم.
ولكن هل يمكن للعرب أنْ يستفيدوا من التجربة التركية؟ وما مظاهر هذه الاستفادة وحدودها؟ أسئلة كبيرة وجادة من هذا القَبيل موضوعة أمام صُناع القرار وذَوي النباهة والفكر وكل المهتمين بإصلاح الأوضاع العربية القاتمة التي بلغت مستويات لا تُضاهَى من التخلف والانكسار والبؤس والسلبية والإفلاس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.