من عملية حصار المقاومة الفلسطينية في جنين لقوات إسرائيلية وإعطاب سياراتها المدرعة، وصولاً إلى العملية الفدائية الأخيرة التي استهدفت مستوطنين إسرائيليين وما تبعها من إعلان حركة حماس مسؤوليتها عنها في سابقة لم تحدث منذ سنوات من قبل حركة المقاومة المتمركزة في غزة، تشير تلك الشواهد إلى أن الضفة الغربية على موعد مع فصل جديد.
تطورات متلاحقة تشهدها الضفة الغربية في الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ فبراير/شباط 2022، حين اندلعت سلسلة العمليات الفدائية التي استهدفت جيش الاحتلال والمستوطنين وأسفرت عن مقتل 33 منهم، ليصبح ذلك العام الأكثر دموية في صفوف الاحتلال الإسرائيلي منذ 2015.
وعلى إثر ذلك، بادر الجيش لتنفيذ عملية "كاسر الأمواج" التي استهدفت ملاحقة المقاومة الفلسطينية، واغتيال كوادرها. ونتيجة لهذه العملية أسفرت الهجمات الإسرائيلية في المقابل عن استشهاد 224 فلسطينياً.
ومع بداية العام الحالي 2023، بدا للمراقبين أننا أمام عام أكثر دموية على الاحتلال والفلسطينيين معاً، فقد أسفرت الشهور الستة الأولى عن مقتل 27 إسرائيلياً، مقابل استشهاد 161 فلسطينياً، مما يؤكد أننا ما زلنا بانتظار ستة أشهر كاملة، يبدو أنها حبلى بالمزيد من العمليات والهجمات الفدائية.
تطورات نوعية في الضفة الغربية
جديد عمليات المقاومة الفلسطينية هذا العام هو ارتقاؤها لمستويات متقدمة غير المعهودة في العام السابق، من حيث اقتصارها في حينه على عمليات إطلاق النار العشوائية، وهجمات الطعن بالسكاكين والدعس بالسيارات، بل وصولها لمراحل متقدمة من تنفيذ عمليات دقيقة ومحترفة تركزت في إطلاق النار على مواقع الجيش ومركبات المستوطنين.
والأخطر من ذلك بدء استخدام المقاومة للعبوات الناسفة ضد الدبابات الاسرائيلية، فضلاً عن كونها من المرات النادرة التي تعلن فيها حركة حماس مسؤوليتها عن واحدة من العمليات الأكثر قسوة على الاحتلال خلال السنوات الأخيرة جنوب مدينة نابلس، وقتلت أربعة من المستوطنين الإسرائيليين، وأصابت آخرين.
قبل عملية نابلس بيوم واحد، وقع الجيش الإسرائيلي في كمين محكم بمخيم جنين بعد تفجير عبوة ناسفة وزنها 40 كغم أسفل عدد من المركبات العسكرية التي اقتحمته، وأوقعت سبعة من الجرحى الإسرائيليين، وتبنّته كتيبة جنين التابعة للجهاد الاسلامي.
هذه هي المرة الأولى التي تستخدم المقاومة الفلسطينية هذه العبوات، بهذا الاحتراف، منذ أكثر من عشرين عاماً منذ أحداث انتفاضة الأقصى التي أوقعت عشرات القتلى من جنود الاحتلال خلال اقتحامها مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية إبان تنفيذها عملية السور الواقي.
مثَّلت العمليات المتواصلة في الضفة الغربية خلال الأسابيع الأخيرة تحولاً خطيراً من وجهة النظر الإسرائيلية، كونها أنبأتهم أن القادم سيكون أسوأ وأخطر وأشد تعقيدًا، دون إخفاء تخوّفهم بأنه يحمل إشارات سلبية بأن الجيش لم يفقد السيطرة على المدن الفلسطينية فحسب، بل فقد الثقة بقدرته على دخولها، والخروج منها، كما كان الحال في السنوات الماضية.
المقاومة الفلسطينية في الضفة هدف استراتيجي لحماس
في الوقت ذاته، فلم يعد سرّاً أن حماس تضع تصعيد المقاومة في الضفة الغربية إلى مكانة هدف استراتيجي لها، تبذل في سبيل تحقيقه معظم مقدراتها المالية ومواردها العسكرية واتصالاتها الإقليمية، باعتبار ذلك مساراً إجبارياً لمدّ نفوذها إلى كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد أن باتت هي المسيطرة الحصرية على قطاع غزة.
يأتي هذا في وقت عكفت فيه المخابرات الإسرائيلية على التحذير مما تسميه "محاولات حثيثة من حماس لتنفيذ عمليات أشدَ خطورة مما تشهده الأسابيع الماضية، وتتمثل بتنفيذ عمليات اختطاف للجنود والمستوطنين".
تراقب إسرائيل ترجمة حماس لتهديداتها إلى عمليات على الأرض. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، اعتقلت إسرائيل حجازي قواسمة ناشط حماس من الخليل، الذي اعترف أنه التقى بمسؤولين كبار في حماس في الخارج، وعرضوا عليه مليون دولار مقابل تنفيذ عملية خطف.
وفي أبريل/نيسان 2022، اعتقلت خلية لحماس من القدس خططت لهجمات إطلاق نار على إسرائيليين، وعملية خطف جنود، وهجوم باستخدام طائرة بدون طيار على القطار الخفيف.
مع العلم أن العمليات المسلحة الحالية لحماس تعيد إلى أذهان الإسرائيليين ما نفذته الحركة من هجمات في سنوات انتفاضة الأقصى بين عامي 2001-2004، لاسيما الاستشهادية، التي أوقعت مئات القتلى الإسرائيليين، ودفعت الاحتلال لتنفيذ اجتياح عسكري واسع للضفة الغربية باسم "السور الواقي"، وتزداد الدعوات الإسرائيلية الحالية لإعادة تنفيذها اليوم مع تصاعد الهجمات الفلسطينية.
العبوات الناسفة.. خطر يهدد الإسرائيليين
بالتزامن مع العمليات المتصاعدة، فقد تحدثت العديد من التقارير عن جهود متواصلة يبذلها الجناح العسكري لحماس، كتائب عز الدين القسام، في مخيم جنين لتصنيع عبوات ناسفة في ورش بدائية لتصنيع المتفجرات، فيما زعمت لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست الكشف عن قيام قوة من حزب الله بالتسلل داخل إسرائيل، وإقامة موقع عسكري مسلح، دون تحديد مكانه بالضبط، لكنها وصفته بالحدث غير العادي والخطير.
الصدمة القاسية التي أصيب بها الاحتلال من استخدام العبوات الناسفة للمرة الأولى في جنين سبقها بأيام اتخاذ قرار إسرائيلي بتحصين الجزء السفلي من المركبات العسكرية لتأمين حماية الأجزاء الداخلية لسيارات الجيب الخاصة بوحدات النخبة العاملة بأعماق الضفة الغربية، بعد التخوف من الزيادة الواضحة في حالات وضع العبوات الناسفة على المحاور التي تتحرك فوقها القوات، خاصة حشو هذه العبوات بمتفجرات عالية الجودة.
أعاد استخدام العبوات الناسفة في الضفة الغربية لأذهان الإسرائيليين تهديدات قاسية عاشوها في جنوب لبنان وغزة قبيل الانسحاب منهما، حين استخدم حزب الله وحماس العبوات الناسفة كسلاح أساسي لاستهداف مركباته.
كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها الإسرائيليون، ولا تزال دون إجابة، عقب تفجير العبوة الناسفة في جنين، بعد أن اخترقت تحصينات آلياته المتطورة المحصنة ضد العبوات وإطلاق النار، مما يكشف عن إخفاق وفشل أمني بعدم توفر المعلومات عن وجود عبوات بهذا الحجم.
ويبقى السؤال عند الإسرائيليين: هل هي محلية الصنع، أم هُربت بطرق التفافية، وهل وضعت لحظة الاقتحام، أم قبله بوقت كافٍ؟
المخاوف الإسرائيلية تجاه تهديد العبوات الناسفة أن نوعاً منها يستخدم في سياق اشتباك مسلح مع قوات الجيش، وأخرى تتفجر في هدف أو موكب عسكري أو استيطاني، وثالثة موجهة تستهدف دبابة أو آلية عسكرية، بحيث تنوعت أشكال استخداماتها، حتى غدت كابوساً خطيراً يؤرق إسرائيل.
سلاح المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية
عديدة هي الأهداف المرشحة أمام المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، أهمها اقتحام المستوطنات المحيطة بالفلسطينيين، وقد حاولت بعض الخلايا الفلسطينية العمل حولها من خلال استهداف مركبات المستوطنين على طرق تحركها من وإلى المستوطنات، باعتبار الوصفة الأخيرة التي اكتشفتها المقاومة بتنفيذ العملية بعد الوصول إلى بيت "العدو"، وليس مهاجمته من الخارج.
وقد ثبت نجاح هذا الأسلوب في بعض العمليات؛ فقد تمكنت المقاومة من اكتشاف وصفة جديدة لكيفية مواجهة المستوطنات المحصنة والمنيعة، بتنفيذ عدة عمليات عسكرية نوعية في الضفة الغربية، مما يعتبر تحقيقاً لكابوس إسرائيلي قديم، والإحساس السائد إسرائيلياً هو "انهيار سور آخر من أسوار الردع"، في دلالة واضحة على حالة التدهور والإحباط التي أصيب بها الجيش والمستوطنون.
ولعل ما يثير قلق قوات الاحتلال ذلك المستوى المرتفع للمقاومين الفلسطينيين، حيث لم يعد يطلقون النار في الهواء بصورة عشوائية، بل من خلال قناصين يطلقون النار بدقة كبيرة، بعضهم مزود بأسلحة ذات أهداف دقيقة، ويعرضون بشكل كبير القوات الإسرائيلية في مدن الضفة الغربية لخطر كبير.
مع العلم أن المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، ورغم الحصار المفروض عليها من كل الجهات، لكنها استطاعت الوصول للمواد الأولية والوسائل القتالية، وتخزين كميات كبيرة منها، فلم يعد الأمر يقتصر على مسدّسات فردية، بل بنادق مطورة أمريكية الصنع من طراز إم16، وعبوات ناسفة شديدة الانفجار، وذخيرة بعشرات آلاف الرصاصات.
تتركز أهم مصادر السلاح لدى المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية في شراء الأسلحة المسروقة من مخازن جيش الاحتلال، الذي بات يشكو من تحوّل قواعده العسكرية إلى هدف مفضّل لعمليات السطو، ومن خلالها تمكّنت قوى المقاومة من التغلّب على مشكلة شحّ السلاح، حيث يتم شراؤه من تجار إسرائيليين، وهو أمر محفوف بكثير من المخاطر، حيث يعتمد على كثير من البدو من الداخل، أو المستوطنين الذين يبيعونه بمبالغ مالية كبيرة.
المؤسسة الأمنية الإسرائيلية كشفت قبل أيام فقط عن تصاعد ظاهرة سرقة الأسلحة والأدوات القتالية من مستودعات الجيش، وتباع بالسوق السوداء داخل الخط الأخضر، والضفة الغربية، وبالتفاصيل فقد تم سرقة 323 بندقية "إم 16″، 75 بندقية "إم 4″، 84 بندقية "تافور"، 32 رشاشا "نيغيف" و"ماغ"، 13 مسدس "غلوك"، 82 قاذف بندقية، 527 قنبلة يدوية، 47 صاروخ "لاو"، 37 قاذف قنابل، 386 عبوة ناسفة، 12 قنبلة إنارة، 35 صندوق ذخيرة، و500 ألف رصاصة حية.
العجز الإسرائيلي
تزامن تصاعد الهجمات الفدائية الفلسطينية في الضفة الغربية مع زيادة انتقادات المستوطنين ضد الجيش والحكومة، واتهامها بالإهمال في حمايتهم، والعجز أمام منفذي العمليات، معتبرين أن مواصلتها تضعهم تحت الضغط والقلق، وأن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتجاهلهم، معتبرين أن معجزة فقط هي التي تمنع وقوع قتلى في كل عملية، مع استهداف عشرات التجمعات الاستيطانية كل يوم بعمليات إطلاق النار، ومن مسافة صفر.
تكشف المتابعة الحثيثة لما تنشره وسائل الإعلام الاسرائيلية في الأسابيع الأخيرة، عن حجم الغضب الداخلي على الحكومة والجيش، واتهامهما بالتقصير في حماية أمن المستوطنين، وإليكم عينة من عناوين الصحف ونشرات الأخبار الإسرائيلية، ومن أهمها: إما أن تحلوا مشكلة المسلّحين، أو لتذهبوا للجحيم! نتنياهو فشل في ردع المسلحين، فليذهب للبيت!
ومن العناوين الإسرائيلية الأكثر انتشاراً: الحكومة العاجزة الفاشلة لا تحكم! الفلسطينيون جعلوا الإسرائيليين يعيشون بأجسامهم، وتحولوا مهاجرين خارجها! مسلحو حماس يحظرون التجوال في المستوطنات! الإسرائيليون يذوقون طعم الفشل الأمني على أجسادهم! لا توجد ضربة قاضية للمسلحين! العمليات المسلّحة أثبتت نفسها! بفعل العمليات الفلسطينية: الدولة تحترق، الأمن يتقوض، الاقتصاد يتدهور! المسلحون يحدّدون أيامنا وأعمارنا، يتعقبون خطواتنا، يمسكون برقابنا، ويمصّون دماءنا، ولم نعد نشتري بضاعة الانتصار على الفلسطينيين!
في المقابل، فإن قوات الاحتلال التي تقف حائرة أمام تمدد عمليات المقاومة الفلسطينية، فقد تراوحت مواقفها بين العمليات العسكرية المباشرة، واستحداث الأساليب التقنية والتكنولوجية المتطورة، بهدف الحدّ من التطور المتنامي للمقاومة، مما يكشف ابتداءً بأن تصاعد هذه الهجمات شكّل معضلة مزمنة أمام جيش الاحتلال، وأدت ضراوتها إلى أن يعترف الإسرائيليون العسكريون والسياسيون بالصعوبات الجمة، والتعقيدات الكثيرة.
عديدة هي الإجراءات التي يتخذها الجيش الإسرائيلي للرد على المقاومة في الضفة الغربية، أهمها إقامة المناطق الأمنية، وتطوير سلاح الجو، وتكثيف استخدام الوسائل التقنية والتكنولوجية، وتطوير أجهزة التجسس، وزيادة الاجتياحات والتوغلات العسكرية، وتصعيد عمليات الاغتيال ووحدات المستعربين، واستخدام الدروع البشرية، وفرض العقوبات الجماعية ضد الفلسطينيين.
زيارات طهران
تؤكد حماس -بحسب مصادر مطلعة- استعدادها لتلقي كل مساعدة تأتيها من كل الجهات حول العالم، وليس إيران فحسب، لمساعدتها على تحقيق هدفها الوطني التحرري، لاسيما الدعمين المالي والعسكري، بما يستنزف الاحتلال، ويعمل على إنهاكه، وهو ما يتوافق مع الهدف الإيراني بمشاغلة إسرائيل عنها، وإبعادها عنها، بإشعال المزيد من الجبهات المحيطة بها.
وبصورة لافتة، دأبت الماكينة الدعائية الإسرائيلية على تحميل إيران وحزب الله محاولة إشعال الوضع في الضفة الغربية بكل الوسائل، أهمها جلب الأموال، وتحويل دفعات دسمة للمسلحين المنتشرين في مخيمات جنين وبلاطة ونابلس القديمة.
ولعلها فريدة تلك المصادفة التي تصاعدت فيها عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، مع توافد قادتها إلى إيران.
فقد أعلنت حركة حماس مسؤوليتها عن عملية مستوطنة "عيلي" جنوب مدينة نابلس شمال الضفة، مع تواجد قيادتها في العاصمة طهران، ولقائها مع الرئيس إبراهيم رئيسي، وقائد قوات الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي، والعميد علي أكبر أحمديان أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي، وبحث المجتمعون مجمل التطورات السياسية على المستوى الفلسطيني والإقليمي والدولي، وأكدوا "استمرار التعاون فيما يخدم المقاومة في كل المجالات".
فيما التقى المرشد الإيراني علي خامنئي، قبل وصول وفد حماس بأيام مع قيادة حركة الجهاد الإسلامي، وأكد لها أنّ "الضفة الغربية ساحة معركة رئيسية للفصائل الفلسطينية ضد إسرائيل، وأن القوّة المتنامية لحركات المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة هي المفتاح الرئيسي لمحاربة الاحتلال الإسرائيلي، وأنّ وحدة العمل في الساحة السياسية والميدانية مهمة للغاية، وأنّ إيران ستبقى مستمرة في دعمها لشعب فلسطين وفصائل المقاومة".
وفي أغسطس/آب 2022، أكد قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، أن "الضفة الغربية يتم تسليحها حالياً ضد الإسرائيليين، لأن غزة ليست وحيدة في ساحة المقاومة، بل إنها انتقلت للضفة الغربية، التي يجري تسليحها بنفس الطريقة التي تم فيها تسليح غزة، وهي عملية قيد التنفيذ، دون تقديم مزيد من الإيضاحات حول احتمال تدخل إيران في عملية التسليح".
لا تخفي إيران أنها تبذل جهوداً حثيثة وكبيرة لتزويد المقاومة في الضفة الغربية بالسلاح والمال، في محاولات واضحة لإشغال إسرائيل عنها، وهو ما أكده قادة المقاومة الفلسطينية أنفسهم، لاسيما حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وصولاً لإنشاء "ستاليننغراد فلسطيني" في شمال الضفة الغربية، بمساعدة من حزب الله وحماس، من خلال محاولة إقامة منظومة إطلاق صواريخ في جنين، تم اكتشافها مؤخراً.