لم يكن محمد صلاح أول جندي مصري يهاجم إسرائيل منذ توقيع معاهدة السلام بين البلدين في نهاية السبعينيات، وفي كل هذه الحوادث حاولت القاهرة التعامل بحذر في محاولة لتقليل الغضب الإسرائيلي والاحتفاء الشعبي بهؤلاء الجنود، دون استفزاز الشارع في الوقت ذاته.
في تمام الساعة الـ4:20 بعد ظهر الخامس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1985، رفع جندي مصري في نقطة تفتيش رأس برقة على البحر الأحمر سلاحه. ثم بدأ في إطلاق النار صوب حشدٍ من السياح الإسرائيليين، ليلقى سبعة مدنيين إسرائيليين مصرعهم في الهجوم.
وتحركت حكومة حسني مبارك آنذاك سريعاً حتى تمنع تحوُّل الجندي سليمان خاطر إلى بطلٍ قومي، وتحول دون تهديد معاهدة السلام التي تم توقيعها مع إسرائيل قبلها بست سنوات فقط، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Times of Israel الإسرائيلية.
إذ وصفت السلطات خاطر بأنه مختل عقلياً، ثم عُثر عليه مقتولاً في زنزانته بعد أيامٍ من الحكم عليه بالسجن المؤبد. وقد وصف النظام وفاته بأنها كانت نتيجة الانتحار، لكن رسائل خاطر المنشورة عام 2014 أظهرت أنه كان خائفاً من تخطيط الحراس لقتله.
سليمان خاطر تحوَّل لبطل وأيمن حسن تم تكريمه شعبياً بعد ثورة يناير
ورغم الجهود المبذولة من جانب القاهرة، احتفى ساسة وصحفيو المعارضة بسليمان خاطر على اعتباره بطلاً ونموذجاً يُحتذى به، وانطلقت المسيرات للهتاف باسمه في الجامعات المصرية. ورداً على ذلك، كشفت المنابر الإعلامية الموالية للنظام أن غالبية من قتلهم خاطر كانوا من النساء والأطفال، لكن تلك المحاولة لم تمنع الاحتفاء به في كافة أرجاء العالم العربي وحتى طهران.
وفي 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1990، قام الجندي المصري أيمن حسن بتنفيذ عملية عسكرية على الحدود المصرية الإسرائيلية، حيث هاجم سيارة جيب وحافلتين إسرائيليتين، وأصيب في رأسه، بعد أن قتل 21 ضابطاً وجندياً إسرائيلياً وجرح 20 آخرين ثم عاد إلى الحدود المصرية ليسلم نفسه، حيث لُقب ببطل سيناء.
وحسب موقع صحيفة "المصري اليوم" المصرية، قام أيمن حسن بهذه العملية على خلفية إهانة العلم المصري من قبل إسرائيليين، وارتكاب الإسرائيليين مذبحة المسجد الأقصى الأولى التي راح ضحيتها 21 فلسطينياً، وكان أيمن قد رأى أحد الجنود الإسرائيليين في عام 1990، وهو يمسح حذاءه بالعلم المصري، وتعاظم غضبه بعد أن رأى الجنديَّ الإسرائيلي وهو يمارس الجنس مع جندية إسرائيلية على العلم المصري، وفقاً للصحيفة.
وحُكم عليه في 6 أبريل/نيسان 1991م، بالسجن لمدة 12 عاماً، ثم خرج في عام 2000، وتم تكريمه شعبياً بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011،
القاهرة لم تغير أسلوبها في حادثة الجندي محمد صلاح، والشعب نصَّبه بطلاً
وتزعم صحيفة Times of Israel الإسرائيلية أنه بعد مضي نحو أربعة عقود من حادثة سليمان خاطر، ما تزال القاهرة تعمل بالأسلوب نفسه استجابةً للهجوم الذي شنّه فرد آخر في قوات الأمن المصرية، حيث فتح الأخير النار على القوات الإسرائيلية ليقتل ثلاثةً من جنود الجيش الإسرائيلي.
وحاول نظام عبد الفتاح السيسي، كما حاول مبارك من قبله، الحيلولة دون تحوُّل منفّذ الهجوم إلى بطلٍ قومي وتعقيد علاقاته مع إسرائيل. لكن يبدو أن محاولات الحكومة أخفقت بدرجةٍ كبيرة، كما كان الحال بعد هجوم عام 1985.
إذ أوضح عوفر وينتر، الزميل الأقدم في Institute for National Security Studies وجامعة تل أبيب: "يريد النظام إزالة هذه القضية من أجندة الرأي العام في أسرع وقتٍ ممكن".
مصر لديها أسباب داخلية لتجاوز الواقعة
لدى القاهرة العديد من الأسباب التي تدفعها إلى محاولة تجاوز هذا الهجوم بسرعة.
وتضم هذه الأسباب خوفها من أن تبدو عاجزة عن السيطرة على جنودها.
ويقول إيران ليرمان، نائب رئيس Jerusalem Institute for Strategy and Security ونائب المدير السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، إن مصر حريصة كذلك على إقناع العامة بفكرة أن كل الأمور تحت السيطرة كالمعتاد.
وأوضح ليرمان: "يُشير هذا إلى نمط معروف في وسائل الإعلام والاتصالات الرسمية المصرية، فهم لا يعترفون بوقوع أي خطأ"، حسب قوله.
لكن يبدو أنَّ شغل السيسي الشاغل يتمثل في ضمان ألا يتحول الجندي محمد صلاح إبراهيم إلى شهيد، أو أن يُلهم آخرين لتنفيذ هجمات مشابهة، بعد مصرعه في تبادل لإطلاق النار مع القوات الإسرائيلية.
منع والدته من حضور الجنازة
ولم تعترف حكومة السيسي مطلقاً بأن محمد صلاح تعمّد الهجوم على القوات الإسرائيلية، بل زعمت في المقابل أنه كان يطارد مهربي المخدرات دون أن تذكر اسم الجندي، مما يمثل تعاوناً مع إسرائيل في حماية الحدود.
علاوةً على أن مصر لم تقم جنازة عسكرية حاشدة لمحمد صلاح، بل دفنته سريعاً في مسقط رأسه بقرية العمار الكبرى. ولم يسمحوا لأمه بحضور الجنازة، بل سمحوا بحضور عمه وشقيقه فقط بعد التحقيق معهما.
كما طوّقت قوات الأمن منزل العائلة وقيّدت زيارات المعزين.
وأوضح وينتر: "كانت هناك محاولة لمحو ذكراه؛ حتى لا يتحول إلى سليمان خاطر جديد. وهذا يعلمنا -ويُلمح إلى العامة- أننا لا نتحدث عن بطلٍ أو شخصيةٍ وطنية، بل جندي تصرف بما يخالف أوامره وبما يتعارض مع ما يصفه بالمصلحة الوطنية لمصر".
مصر حريصة على السلام مع إسرائيل ولكن علاقتها توترت بنتنياهو مؤخراً
تُدرك مصر أنها تتشارك مصالحها المهمة مع إسرائيل. لكن العلاقة بين الطرفين شهدت بعض علامات التوتر منذ تولي حكومة نتنياهو السلطة في ديسمبر/كانون الأول 2022.
إذ كان السيسي من أواخر القادة العرب الذين هنأوا نتنياهو على العودة للمنصب، ولم يُدعَ رئيس الوزراء لزيارة رسمية حتى الآن. يُذكر أن رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، قد دُعِيَ إلى شرم الشيخ مرتين، وذلك خلال الفترة القصيرة التي قضاها في المنصب.
لكن مصر ما تزال راغبةً في الحفاظ على التنسيق الأمني الوطيد مع إسرائيل، خاصةً في ما يتعلق بمكافحة أنشطة الإرهاب والتهريب في سيناء. كما تحتاج مصر إلى تعاون متواصل في ملفي الطاقة والسياحة، وكلاهما يمثلان مصدراً مهماً للعملات الأجنبية في الاقتصاد المصري.
وتريد القاهرة في الوقت ذاته، أن تقوي نفوذ السلطة الفلسطينية في غزة على حساب حماس. كما تود التوصل إلى اتفاق طويل الأجل يضمن الهدوء في القطاع.
بينما يضغط المتشددون المؤيدون لنتنياهو من أجل شن حملات قمعية عقابية ضد الفلسطينيين، مما سيُبقي العلاقات مع غزة في حالة حرب.
وقال وينتر: "تنظر مصر إلى هذه الحكومة باعتبارها شريكاً سيزيد صعوبة تحقيق تلك الأهداف".
وقد أصبحت نبرة الإدانات لإسرائيل من السيسي ووزارة الخارجية المصرية أكثر حدة نسبياً، وذلك منذ عودة نتنياهو إلى السلطة.
وفي يوم الإثنين 12 يونيو/حزيران، التقى وزير الخارجية المصري سامح شكري، مع المنسق الأممي الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط تور وينسلاند. وأعرب شكري خلال اللقاء عن قلقه العميق حيال التوغلات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية، وذلك بحسب نص اللقاء الذي نشرته القاهرة.
محاولة تقليل المديح الشعبي لمحمد صلاح أخفقت
لكن يبدو أن جهود القاهرة أخفقت بدرجةٍ كبيرة في كبح جماح المديح الشعبي لمحمد صلاح في الشارع المصري، حيث يرفض الشارع المصري الجهود الرسمية للتطبيع منذ عقود، وما يزال معادياً لإسرائيل إلى حدٍ كبير.
وقال غورين: "رأينا مؤشرات الإعجاب والدعم على المستوى الشعبي، مما يؤكد وجود فجوةٍ بين الموقف الرسمي تجاه إسرائيل وتوجهات الرأي العام".
وقد أشاد كثيرون بما فعله محمد صلاح سواءً في الخطاب العام أو على الشبكات الاجتماعية.
وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو مصوراً للنائب الأردني خليل عطية، الأحد 11 يونيو/حزيران 2023، طالب خلاله بقراءة الفاتحة على روح الجندي المصري محمد صلاح الذي قتل 3 إسرائيليين عند الحدود المصرية، مشيداً به، وذلك خلال كلمة له أثناء الجلسة العامة الختامية للبرلمان العربي والتي عُقدت في مقر الجامعة العربية بالعاصمة المصرية القاهرة.
جاءت كلمة النائب أمام أعمال الجلسة العامة الختامية للبرلمان العربي التي عقدت، السبت 10 يونيو/حزيران 2023، بمقر جامعة الدول العربية في العاصمة المصرية القاهرة، بمشاركة ممثلي البرلمانات العربية.
وقال عطية: "انتصاراً لأهلنا في فلسطين، نحيي مصر ونحيي شهيدها محمد صلاح، وأطالب المجلس الكريم بأن نقف لقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، شهداء الأمة العربية والإسلامية الذين استشهدوا من أجل فلسطين وأخص بالذكر الشهيد المصري محمد صلاح".
وبعد كلمة عطية وقف أعضاء مجلس النواب العربي وقرأوا سورة الفاتحة تخليداً لذكرى الجندي المصري محمد صلاح.
وقال وينتر: "يصفه المعلقون، وبعضهم من معارضي النظام المنفيين، بأنه بطل قومي وشهيد، ويبررون الهجوم على الجنود الإسرائيليين. ويرون في ذلك الهجوم دليلاً على معارضة الشعب المصري للسلام".
واللافت أنه رغم أن السلطات منعت أي احتفاء بمحمد صلاح على الأرض، فإنها لم تحاول منع هذا الاحتفاء على وسائل التواصل الاجتماعي.
وبينما التزمت وسائل الإعلام المصرية الحذر، كان لافتاً أن جنرالاً سابقاً هو سمير فرج الذي يوصف بأنه مقرب من السلطة، ظهر في قناة صدى البلد المحسوبة على النظام في برنامج المذيع أحمد موسى واسع المتابعة، ليصف الجندي محمد صلاح بالبطل والشهيد، ويشيد بأدائه العسكري أمام القوات الإسرائيلية التي انتقدها بشدة، معتبراً أن هذه من أكبر المصائب في تاريخ الجيش الإسرائيلي، ومتحدثاً عن أنه عبَر الحدود لمواجهة المهربين، ودون أن يقدم تفسيراً لاشتباكه مع الإسرائيليين.
وفي الوقت ذاته، هناك أصوات في مصر تُقر بأن السلام مع إسرائيل يخدم المصالح القومية لمصر، ويصورون محمد صلاح بأنه شخص أضر الدولة وقواتها الأمنية.
إلى مدى ستتأثر العلاقات بين مصر وإسرائيل بهذه الحادثة؟
"تعمل مصر على تهدئة التوترات" على الرغم من إحباطها، وذلك بحسب الزميل الأقدم للشؤون الإسرائيلية في Middle East Institute نمرود غورين. إذ أشار غورين إلى وساطة مصر في غزة، وكذلك القمة الإقليمية التي عُقدت بشرم الشيخ في شهر مارس/آذار؛ لتهدئة التوترات قبيل رمضان.
ورغم الشكوى والتبرم من إسرائيل، من الواضح أن مصر عازمةٌ على إظهار مصداقيتها كشريك في ملف الأمن. ففي يوم الأحد 11 يونيو/حزيران، التقى عدد من كبار المسؤولين الدفاعيين المصريين ضباطاً كباراً من جيش الدفاع في القاهرة؛ من أجل عرض النتائج الأولية لتحقيقهم في الواقعة.
بينما أوضح غورين أن العلاقة بين البلدين "تتمتع بحصانةٍ خاصة".