في مواجهة أزمة اقتصادية مدمرة، قرر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤخراً أن الوقت قد حان لإجراء محادثات "مع ما تبقى" من المعارضة السياسية في مصر، مما يمنح أعضاءها مقعداً على الطاولة، بعد ما يقرب من عقد من القمع والسجن والنفي. لكن بالنسبة لشخص مثل السيسي، فإن المصالحة لا تصل إلى أبعد من ذلك، كما تقول صحيفة New York Times الأمريكية.
ما مدى جدية "الحوار الوطني" في مصر؟
تقول "نيويورك تايمز"، ما إن دُشِّنَ الحوار الوطني حتى بدأت الحكومة تطويق المحادثات، في إشارة إلى أنه بعد سنوات من القمع السياسي والسيطرة العسكرية على الاقتصاد، لا تزال القيادة مترددة في طي هذه الصفحة.
مُنع الإسلاميون من الحوار، ولم يُدعَ الكثير ممن ينتمون للمعارضة الليبرالية. كانت الموضوعات الحاسمة، بما في ذلك أي شيء يتعلق بمسألة الأمن القومي غير المحددة، خارج إطار الحوار. وفي اليوم التالي للمحادثات التي انطلقت الشهر الماضي، استيقظت مصر على أنباء تفيد باعتقال رجال الأمن العديد من أقارب وأنصار الشخص الوحيد حتى الآن الذي أعلن أنه سيتحدى السيسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
تحدّث السيسي عن رسم مسار سياسي واقتصادي جديد لمصر وسط تفاقم التضخم، وفقدان العملة نصف قيمتها منذ العام الماضي، ودفع الطبقة الوسطى نحو الفقر. ومع ذلك، فإن الإصلاح الاقتصادي الذي وعدت به الحكومة انحصر في الحديث، ولم يتخذ إجراءاتٍ إلا قليلاً.
لطالما حذّر الاقتصاديون والمحللون من أن الاقتصاد المصري الراكد الذي تهيمن عليه الدولة، إلى جانب إنفاق السيسي السخي على الأسلحة وطفرة البناء التي أدت إلى نمو قصير الأجل، ولكنها أدت إلى ارتفاع مذهل في فاتورة الديون، كانت وصفةً غير سليمة.
أصبحت نقاط الضعف هذه واضحة للغاية بعد غزو روسيا لأوكرانيا العام الماضي، عندما ارتفعت أسعار واردات القمح والوقود، وتناقصت عائدات السياحة الروسية والأوكرانية، وسحب المستثمرون الأجانب الدولارات من مصر.
ورغم الجهود الرسمية لتصوير الأزمة على أنها تداعيات لا مفر منها للحرب، فإن السخط يتردد صداه على نحوٍ جهوري -في بلدٍ يمكن أن يؤدي فيه انتقاد السلطات علناً إلى الاعتقال.
"السيسي يشعر بالضغط"
يقول محللون للصحيفة الأمريكية، إن محادثات المعارضة هي من المؤشرات على أن السيسي يشعر بالضغط. وجاءت حالة أخرى عندما قال عضو في البرلمان الأسبوع الماضي إن الانتخابات الرئاسية، المتوقعة العام المقبل، سوف يُقدَّم موعد انعقادها إلى نهاية هذا العام.
نظر محللون ودبلوماسيون إلى الموعد الجديد للانتخابات على أنه إشارة إلى أن المؤسسة الحاكمة تخشى أن تنخفض شعبية السيسي بشكلٍ أكبر قبل التصويت.
ورغم الأمل الضئيل في إجراء انتخابات حرة ونزيهة حقاً، فإن السيسي والجهاز الأمني/العسكري مهتمون بالمظاهر. ويقول محللون ودبلوماسيون إن الإقبال الكبير على التصويت سيشجع الرئيس على المطالبة بالدعم الشعبي قبل إجراء إصلاحات اقتصادية مؤلمة.
إن المخاطر بالفعل كبيرة للغاية على مصر حتى تصلح نفسها. عانت مصر، أكبر دولة في العالم العربي من حيث عدد السكان، والحليف الاستراتيجي طويل الأمد للولايات المتحدة، من نوبات من عدم الاستقرار على مدار 12 عاماً منذ انتفاضات الربيع العربي عام 2011، عندما انتهت تجربة ديمقراطية قصيرة وصاخبة بانقلاب عسكري جلب السيسي إلى السلطة.
يقول المحللون إن انتشار الفقر والمعاناة على نطاق واسع للعديد من سكان البلاد، البالغ عددهم 105 ملايين، أصبح أمراً واقعاً الآن. وقد يؤدي الانهيار الاقتصادي إلى إثارة الاضطرابات التي يمكن أن تمتد إلى أجزاء أخرى من الشرق الأوسط، ودفع الهجرة الجماعية إلى أوروبا.
"ما من سبيل آخر ليُسمع صوتنا"
في غضون أشهر، قد تضطر البلاد إلى الاختيار بين الوفاء بمدفوعات ديونها وإطعام الأعداد الكبيرة من المصريين الفقراء الذين يعتمدون على الخبز المدعوم من الحكومة.
ويقول محللون ودبلوماسيون إن الرئيس أطلق سراح ما لا يقل عن ألف سجين سياسي خلال العام الماضي، ربما في محاولة منه لتهدئة الغضب العام المتزايد.
لكن في الوقت نفسه، فإن الاعتقالات الجديدة للنشطاء السياسيين والباحثين وشخصيات المعارضة وحتى مشجعي كرة القدم تفوق بكثير عمليات الإفراج هذه. ويتوقع القليلون أن يؤدي ما يسمى بالحوار الوطني إلى نتائج كبرى، باستثناء كومة من الأوراق وفرص التقاط بعض الصور.
قال ضياء رشوان، المنسق المُعيَّن من الحكومة للحوار الوطني، في مؤتمرٍ صحفي عُقِدَ الشهر الماضي إن على المصريين التمييز بين الاعتقالات "المعزولة" و"الظواهر الأوسع"، بما في ذلك الانفتاح الذي يمثله الحوار. وزعم أن الرئيس لا يمكنه التدخل في العملية القضائية.
وقال خالد داود، عضو الحركة المدنية الديمقراطية، وهي ائتلاف من أحزاب المعارضة، إن الحركة وافقت على مضض على المشاركة في الحوار الوطني على قناعةٍ بأن ما من سبيلٍ آخر ليُسمَع صوتها، حتى بعد إلقاء القبض على بعض أعضائها في الفترة السابقة.
المصريون يزدادون فقراً
تقول الصحيفة الأمريكية، إنه عندما وصل السيسي إلى السلطة، وعد بالاستقرار والازدهار بعد اضطرابات ثورة 2011، وأشاد به البعض باعتباره منقذاً للبلاد. وقد سمحت الأهمية الاستراتيجية لمصر، في المنطقة وخارجها، للرئيس منذ فترة طويلة بمراوغة الحساب بشأن الإنفاق المسرف للدولة، والاقتصاد الراكد والقمع السياسي.
وبينما شجب بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي سجل مصر في مجال حقوق الإنسان، لا تزال الولايات المتحدة وأوروبا تنظران إلى حكومتها على أنها شريك أمني قيم، وركيزة أساسية لا غنى عنها للاستقرار الإقليمي. وقد دأبت ممالك الخليج الثرية والمقرضون الدوليون المدعومون من الغرب على إنقاذ مصر مراراً وتكراراً، ودعموا قيادتها الاستبدادية.
يطالب هؤلاء الداعمون الآن بتغييرات عميقة، بما في ذلك الحد من سيطرة الجيش على العديد من الصناعات والسماح للعملة بالتداول بقيمتها الحقيقية بدلاً من تقويتها بشكل مصطنع. ووافقت مصر على عدة شروط من هذا القبيل العام الماضي، مقابل 3 مليارات دولار إنقاذاً من صندوق النقد الدولي.
ومع ذلك، تحقَّق فقط الحد الأدنى من النتائج، مما أدى إلى تآكل التصنيف الائتماني الوطني وتأخير جزء ثان من قرض صندوق النقد الدولي، المُقرَّر أصلاً في شهر مارس/آذار.
كان من المفترض أن يصل حوالي ملياري دولار بحلول 30 يونيو/حزيران عن طريق مبيعات الأصول المملوكة للدولة إلى جيران مصر الخليجيين، الذين أصبحوا أقل استعداداً لمساعدة السيسي، إلا من أجل الربح. لكن المحللين يقولون إن القيادة العسكرية للبلاد تسير بخطى بطيئة في الخصخصة بدافع الرغبة في الاحتفاظ بالسيطرة والأرباح التي تأتي معها.
وأثار الشلل الوشيك التساؤل حول مقدار الأموال التي قد يدفعها الخليج والغرب لتحقيق الاستقرار في مصر إذا لم تنقذ نفسها. وفي غضون ذلك، يزداد المصريون فقراً.