منذ الاعتراف بها ديناً رسمياً للدولة الرومانية، نمت المسيحية في شمال إفريقيا بسرعة أكبر بكثير من أي مستعمرةٍ رومانية أخرى، مع ذلك حاولت روما فرض كنيستها الكاثوليكية على المسيحيين الأفارقة الذين كانوا تابعين لكنيسة قرطاج، الأمر الذي أدى إلى صدامٍ كبيرٍ بين أنصار الكنيستين، برز في هذا الصراع القس الأمازيغي دوناتوس الذي قاد حركةً دينيةً مسيحية مطلع القرن الرابع تدعو إلى التوحيد، وتحمل أفكاراً ثوريةً ضدّ الرومان المحتلين للشمال الأفريقي.
كانت حركة القس الأمازيغي تدعو إلى إقرار المساواة بين الناس، والعمل على مساعدة الفقراء عدم الاعتراف بأية سلطة غير سلطة اله، وهي الأمور التي جعلت غالبية سكان شمال إفريقيا تعتنق المذهب التوحيدي للأب دوناتوس.
أزعج ذلك السلطات الرومانية التي كانت لتوّها اعترفت بالمسيحية ديناً رسمياً للدولة في عهد الإمبراطور قسطنطين سنة 313م، وذلك بعد قرونٍ من محاربته، ورأت في القس الأمازيغي شخصاً خارجاً عن القانون.
وما زاد حقد الرومان على دوناتوس أن كنيسة روما كانت تدين على مذهب التثليث؛ بينما كانت حركة القس الأمازيغي تدعو إلى التوحيد، الأمر الذي أقام صراعاً دموياً بين الجهتين، سقط في فصوله الآب دوناتوس قتيلاً في سجون روما سنة 355م.
دوناتوس القس الأمازيغي الذي لم يخشَ قمع الإمبراطور دقلنديونس
لا يُعرف سوى القليل عن حياة القس الأمازيغي، وذلك بسبب ضياع مراسلاته وأعماله المكتوبة. مع ذلك، ظهر دوناتوس لأوّل مرة في سجلات الكنيسة الرومانية باسم Donatus of Casae Nigrae، وذلك في شهر أكتوبر/تشرين الأوّل من العام 313، وهو العام الذي اعترف فيه الإمبراطور قسطنطين بالدين المسيحي، وذلك بعد قرونٍ من قمع المسيحيين بكلّ وحشية من قبل الحكام الرومانيين، كان أكثرهم قسوة: الإمبراطور دقلديانوس الذي قتل أزيد من مليون مسيحي خلال فترة حكمه.
في تلك الفترة العصيبة على المسيحية من أواخر القرن الثالث الميلادي، ولد Donatus في مدينة تيفست (تبسة الحالية) بالجزائر، ولم يخشَ دوناتوس القمع المسلط على المسيحيين سواء في إيطاليا أو شمال إفريقيا ليدرس منذ صغره الدين المسيحي.
انتقل دوناتوس بعد وفاة الإمبراطور دقلينديوس إلى كنيسة قرطاج، وتدرج في مناصب الكنيسة حتى صار سنة 313 م أسقفاً لكنيسة قرطاج وكبير أساقفة شمال إفريقيا.
قبل ذلك، كان الجدل قائماً بين كنيستي روما وقرطاج، فكلٌّ من الكنيستين اتخذت منهجاً في العقيدة مخالفاً للأخرى، وفي الأخير تغلبت كنيسة روما على قرطاج، وذلك بعدما اعتنق الإمبراطور قسطنطين المذهب الكاثوليكي ودعمه.
أسّس مذهباً مسيحياً جديداً اعتنقه أغلب البربر
في تلك الأثناء، قرّر Donatus أنّ يعلن عن حركةٍ دينية تدعى "الحركة الدوناتية" التي اشتقت من اسمه دوناتوس.
وخلال فترة قيادته للحركة الدينية تلك، والتي دامت حوالي 40 عاماً، أشرف القس الأمازيغي على توسع الطائفة الدوناتية المسيحية لتشمل غالبية شمال إفريقيا.
كان الكهنة والأساقفة الدوناتيون أقرب إلى الأهالي والفلاحين الأمازيغ، مما ساعد على انتشار الطائفة التي كان البربر يرون فيها أنّها حركة دينية ذات صبغة أمازيغية قومية.
ناهيك على المبادئ التي دافع عنها دوناتوس نفسه، من التوحيد ورفض التثليث، والدعوة إلى مذهب ديني جديد يقوم على إقرار المساواة بين الناس ويعمل على مساعدة الفقراء ولا يعترف بأية سلطة غير سلطة الإله الخالق، كما كان يأمر الأمازيغيين بطرد كبار الملاك من أراضيهم وأصحاب النفوذ من المسيحيين الكاثوليك من بلادهم.
قاد الأمازيغ في ثورة مسلحة ضد الرومان
سرعان ما انتشرت الدوناتية في الكثير من الولايات والممالك الأمازيغية، وخاصة في الجزائر (نوميديا) وتونس (إفريقية).
وبعد أن كانت مجرد حركة سلمية، تحولت الدوناتية إلى مقاومة مسلحة في وجه الرومان الكاثوليك، إذ جاء في كتاب "أضواء على تاريخ الجزائر القديم" أنه في عام 347، وبمدينة باغاي، الواقعة في الجزائر حالياً، اتحدت الدوناتية بثورة الريفيين، وحوّل دوناتوس كنيسة المدينة إلى مخزن للمؤن والذخيرة وتم تحصينها كي تستطيع الصمود.
كما تشكلت مجموعة من التنظيمات العسكرية، أبرزها جماعة الدوارين، التي كانت تهاجم مزارع الأرستقراطيين الرومان لتحرير عبيدها، وتخليص المظلومين من البربر، وبالفعل نجحت الحركة في تقليص نفوذ المذهب الكاثوليكي الروماني في ذلك الوقت بشمال إفريقيا.
وأمام اتساع رقعة ثورة البربر الدينية المسلحة ضد الأرستقراطيين والكاثوليك، بدأت الحكومة الرومانية من خلال جيوشها المنتشرة في شمال إفريقيا، والتي شرعت في حصد رؤوس الدوناتيين، وقتلت منهم الآلاف.
كما قامت باعتقال زعيمهم دوناتوس سنة 347 م، والذي نُفي إلى بلاد الغال عام 347 حتى وفاته عام 355 داخل السجن مشنوقاً. وفي الوقت الذي قتل فيه القس الأمازيغي، كانت الكنيسة الدوناتية هي الكنيسة المسيحية المهيمنة في شمال إفريقيا، لكن ذلك لم يدُم طويلاً، إذ استعانت الكنيسة الرومانية بالقديس أوغسطين في تحويل شمال إفريقيا إلى المذهب الكاثوليكي وذلك بعد أن قامت بدمج مذهب دوناتوس.