في تقريرٍ لموقع Visual Capitalist المالي عام 2017، عن أكبر الشركات قيمة على مرّ الأجيال، بلغت قيمة شركة الهند الشرقية الهولندية ما يساوي مجموعه قيمة 7.9 تريليون دولار حالياً.
نتحدث هنا عن شركة كانت رائدة في النصف الأول من القرن الـ17، وكانت قيمتها في ذلك الوقت ما يتجاوز قيمة 20 شركة ضخمة حالياً، من أكبر الكيانات الاستثمارية في العالم، منها: أبل، ومايكروسوفت"، و"أمازون"، و"فيسبوك"، و"بيركشاير هاثاواي".
عرض التقرير 4 شركات قديمة تجاوزت قيمتها تريليون دولار بحساب العملة الأمريكية اليوم، فجاءت شركة مسيسبي في المركز الثاني بقيمة 6.5 تريليون دولار، أي بفارق أكثر من تريليون دولار بينها وبين شركة الهند الشرقية الهولندية.
العداوة مع البرتغال.. ما قبل تأسيس الشركة الهولندية
نجحت البرتغال على مدى القرنين الـ15 والـ16 في تكوين إمبراطورية استعمارية واسعة النطاق، تشمل البرازيل والسواحل الغربية لإفريقيا، إضافةً إلى أقاليم ومرافئ تجارية عدة في شرق وجنوب شرق آسيا.
ولم تكن لتغطي كل هذه المساحات الشاسعة لولا جهود مجموعة من أنجح وأشهر البحارة البرتغاليين في عصر الاستكشافات الأوروبية، على غرار: فاسكو دي جاما، وبارتولوميو دياز، وبيدرو ألفاريز كابرال.
كان الحكام البرتغاليون يدركون جيداً أنّ توسّع إمبراطورتيهم سيُدخلهم في صراعات مع قوى استعمارية أوروبية أخرى، مثل: إسبانيا، وإنجلترا، وفرنسا، لكنهم لم يتوقعوا أبداً أن الخطر الأكبر سيأتيهم من الهولنديين.
فكيف استطاعت أن تستولي هولندا على معظم المستعمرات البرتغالية في آسيا، خلال القرن الـ17؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نعود إلى جذور الصراع البرتغالي الهولندي الذي بدأ عام 1580، عندما تربع ملك إسبانيا فيليب الثاني على عرش البرتغال (تحت اسم "فيليب الأول").
أسّس فيليب اتحاداً بين المملكتين دام 60 عاماً، وعُرف عبر التاريخ باسم "الاتحاد الإيبيري"، وفيه كان ملك إسبانيا هو نفسه ملك البرتغال.
كان فيليب الثاني الكاثوليكي يمتلك أيضاً المقاطعات الهولندية الـ17، التي كانت تُسمى "الأراضي المنخفضة الإسبانية"، والتي شهدت ثورة البروتستانت عام 1568، في إطار الحرب الدينية التي عاشتها أوروبا وقتئذ.
ورغم استقلال 7 مقاطعات بروتستانتية عقب هذه الثورة، تحت اسم "جمهورية المقاطعات السبعة المتحدة للأراضي المنخفضة"، فإن الحرب استمرت بين المقاطعات الهولندية ومملكة إسبانيا.
كيف تأسّست شركة الهند الشرقية الهولندية؟
أصبح الهولنديون ينظرون إلى البرتغال كعدو جديد، بعدما أصبح الإسباني فيليب الثاني ملكاً عليها. تزامن ذلك مع رغبة هولندا بتوسع نشاطها التجاري باتجاه البحر بعد الاستقلال، في الوقت الذي كانت فيه البرتغال ملكة النشاط التجاري البحري.
في كتابه Les Provinces-Unies à l'époque Moderne، أشار المؤرخ الفرنسي تيري آلان إلى أن هولندا فعلت المستحيل لتحاول إبعاد البرتغال عن سيطرتها على التجارة البحرية.
أكد آلان في كتابه، الذي صدر عام 2019، أن الهولنديين دسّوا جواسيس داخل السفن التجارية البرتغالية. وقد سمحت لهم المعلومات، التي استطاع الجواسيس جمعها، بإرسال 65 سفينة تجارية نحو المحيط الهندي ما بين عامَي 1598 و1602.
ولكن الأرباح التي جنتها السفن من تلك الرحلات كانت قليلة، خصوصاً في ظلّ وجود منافسة كبيرة من شركات دول أخرى.
في العام 1602، تمّ تأسيس مؤسسة كبيرة تضم معظم الشركات التجارية، التي كانت تنشط في مدن أمستردام وروتردام ودلفت الهولندية. كان ذلك بمبادرة من موريس فان ناساو، أمير مقاطعة أورانيا والحاكم العام لجمهورية المقاطعات السبعة المتحدة للأراضي المنخفضة.
هدف ناساو في البداية إلى تحسين أرباح الرحلات التجارية البحرية، وهو من أطلق على المؤسسة اسم "شركة الهند الشرقية الهولندية"، التي تأسّست بعد عامين فقط من إنشاء "شركة الهند الشرقية البريطانية" الشهيرة.
وبحسب موقع GEO، فإنّ تلك الشركة الهولندية كانت تملك رأس مال ضخماً بقيمة ما يساوي أكثر من 3.5 مليون دولار، بفضل 2000 مساهم خاص، ومع الوقت صار هدفها الرئيسي "الاستيلاء على التجارة والملاحة من أيدي البرتغاليين".
ولتحقيق هدفها، منح حُكام المقاطعات الهولندية المستقلة شركة الهند الشرقية الهولندية احتكار تجارة التوابل، كما تم منحها أيضاً حق بناء الحصون العسكرية، وتجنيد مرتزقة وعسكريين لشنّ الحروب إذا لزم الأمر.
توسّع نفوذ شركة الهند الشرقية الهولندية
بعد حصارات بحرية مختلفة، نجحت شركة الهند الشرقية الهولندية في إجبار البرتغال على التخلي عن موانئها التجارية في جزيرة مينداناو الفلبينية عام 1623، تبعها موانئ ولاية غوا في الساحل الجنوبي الغربي للهند عام 1639.
رغم ذلك، فضلت شركة الهند الشرقية الهولندية الانسحاب من تلك المواقع، والتركيز على بسط نفوذها في مناطق كانت تراها ذات أهمية أكبر، أبرزها: سريلانكا في شرق آسيا، وإندونيسيا في جنوب شرق آسيا.
وفي العام 1636، فرضت الشركة سيطرتها على "جزر الملوك"، وهي أرخبيل في بحر باندا الإندونيسي، يُطلق عليها أيضاً اسم"جزر التوابل"، وقد كان البرتغاليون أول من وصل إليها عام 1513.
طرد الهولنديون البرتغاليين نهائياً من المنطقة عام 1636؛ وبفضل جنودها اليابانيين من المرتزقة، سيطرت على مضيق ملقا الاستراتيجي عام 1641.
وبسبب موقعه الاستراتيجي بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة، استولت هولندا تدريجياً على باقي الجزر الإندونيسية، باستثناء تيمور، التي قُسّمت إلى: تيمور الغربية الخاضعة للسيطرة الهولندية، وتيمور الشرقية التي بقيت تحت السيطرة البرتغالية.
كما استولت شركة الهند الشرقية الهولندية على جزيرة سريلانكا لاحقاً في العام 1658، التي كانت تُسمى "تبروبان"، ويُسميها العرب "سرنديب"، وتقع في شمال المحيط الهندي بجنوب شبه القارة الهندية.
وأهمية تلك الجزيرة أن البرتغاليين كانوا أول قوة أوروبية تستعمر الجزيرة عام 1505، وقاموا بنشاطٍ تبشيري كاثوليكي كبير، وتنصير قسري للسكان، رافقه تدمير لمعابدهم الهندوسية.
سبق استيلاء هولندا على الجزيرة معارك دامية مع البرتغال، رافقها حصار بحري دام 20 سنة، فرضته شركة الهند الشرقية الهولندية على الجزيرة؛ لينتهي الأمر بسيطرتها على البلاد عام 1658.
كيف انتهى عصر الشركة الذهبي؟
عام 1621، تمّ تأسيس شركة الهند الغربية الهولندية التي تخصصت في غزو المراكز التجارية البرتغالية في البرازيل وإفريقيا.
هاجمت شركة الهند الغربية الهولندية مستعمرة أنغولا البرتغالية في غرب إفريقيا، كما استولت سنة 1629 على ميناء ريسيفي في البرازيل، وجعلته عاصمة لمستعمرتها الجديدة التي سُميت بـ"هولندا الجديدة"، كما كان يُطلق عليها أيضاً اسم "البرازيل الهولندية".
وعلى مدار 20 سنة كاملة، احتلت شركة الهند الغربية الهولندية نصف الموانئ التجارية البرتغالية الموجودة في غرب إفريقيا والبرازيل، قبل أن تضطر لمغادرتها سنة 1656، بعد سلسلة من الفضائح المالية التي أدت إلى إفلاس الشركة نهائياً.
شهدت السنة ذاتها اندثار مستعمرة "هولندا الجديدة"، وعودتها إلى السيطرة البرتغالية، بعد هجومين مضادين قام بهما التحالف الإيبيري (الإسباني والبرتغالي) عامَي 1640 و1646.
انتهى الصراع البرتغالي الهولندي رسمياً يوم 6 أغسطس/آب 1661، بإبرام معاهدة لاهاي، التي نصّت على أن تحتفظ البرتغال بالبرازيل ومستعمراتها الإفريقية، على أن تفقد سيطرتها على طريق الهند البحري الذي جعلها أكبر قوة بحرية في العالم طوال قرنين.
من جهتها، واصلت شركة الهند الشرقية الهولندية في فرض هيمنتها على جزءٍ كبير من التجارة العالمية مع آسيا، خاصة تجارة التوابل، التي كانت في عصرها الذهبي آنذاك ومطلوبة كثيراً في أوروبا.
مع مرور السنوات، بدأت شركة الهند الشرقية الهولندية في الانهيار بسبب سوء التسيير والفساد المالي وتكاليف الحرب المرتفعة؛ ما دفع بالحكومة الهولندية إلى التدخل وحلّ الشركة سنة 1799، مع التكفل بديونها.
لكنها ورثت ممتلكاتها الاستعمارية، ولذلك أُطلق على الأرخبيل الإندونيسي اسم مستعمرة "الهند الشرقية الهولندية"، منذ العام 1800.
خلال الحرب العالمية الثانية، احتلت اليابان تلك المنطقة وطردت الهولنديين من إندونيسيا. وبعد استسلام اليابان عام 1945، أعلن الإندونيسيون (بقيادة سوكارنو) الثورة الوطنية الإندونيسية، التي أجبرت هولندا على الاعتراف رسمياً باستقلال البلاد عام 1949.
أما بشأن جزيرة "سرنديب"، فقد سقطت من بين يدي شركة الهند الشرقية البريطانية التي استولت على مدنها الساحلية وحولت البلاد رسمياً إلى مستعمرة بريطانية عام 1802، قبل أن تنجح في الحصول على استقلالها عام 1948، وتصبح جمهورية سريلانكا.