إذا كنت تعاني من صدمة نفسية حادة بعد وفاة أحد أفراد أسرتك، أو تمر بطلاق مؤلم، أو تعالج من مرض خطير، أو حتى فقدت وظيفتك، فإن حقيقة أنك تحت ضغط كبير وتعاني نفسياً هو أمر طبيعي ولن يفاجئ أحداً على الإطلاق.
في المقابل، فإن الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يشعرون بأنهم تحت ضغط نفسي هائل، لا يواجهون أي كوارث حياتية كبيرة وواضحة مثل مرض أو وفاة، بل يجدون أنهم مستهلكون عاطفياً دون أسباب واضحة.
وهنا قد يكون السبب الغامض وراء الإنهاك النفسي، وتأثيره على الصحة العقلية والجسدية، هو ما بات يُعرف بـ"الإجهاد المجهري"، أو عوامل "الإجهاد الدقيق".
ما هو "الإجهاد المجهري"؟
في كتابٍ جديد صادر مطلع عام 2023 بعنوان "الإجهاد المجهري" أو (The Microstress Effect)، للكاتبين الأمريكيين روب كروس وكارين ديلون، يتضح أن المضايقات الصغيرة يمكن أن تؤثر بشكل كبير على الصحة العقلية والجسدية للإنسان بشكل يضاهي التعرُّض للأزمات الحياتية الكبرى.
هذه الضغوطات تُعد صغيرة وغير مؤثرة تماماً، لذلك عادة ما تمر دون أن يلاحظها أحد أو يتم تجاهلها بسرعة وحتى نسيانها. ولكن إذا واجه الشخص عشرات المضايقات وعوامل الضغط الصغيرة يومياً، فقد يكون التأثير التراكمي كارثياً على السلامة النفسية والعقلية.
ويوضح جويل ساليناس، اختصاصي الأعصاب السلوكي بجامعة نيويورك الأمريكية، في كتابه تأثير الإجهاد المجهري: "تخيل أن الرياح ترتطم بجبل بشكل تدريجي، صحيح أن قوة الرياح ليست مثل تأثير قنابل تي إن تي مثلاً في إحداث الدمار في جسم الجبل، ولكن مع مرور الوقت يمكن للرياح أن تجعل الجبل يتآكل ببطء، وحتى أن تنقل مكانه بالكامل".
هذا بالضبط ما يحدث في حال التعرض المتواصل والمستمر لمسببات الإجهاد الدقيقة في حياتنا اليومية.
التأثير اليومي لعوامل "الإجهاد الدقيق"
يُعرّف "الإجهاد الدقيق" على أنه تراكم المحفزات التي تحدث خلال روتيننا اليومي. ووفقاً للمؤلفين، نحن معتادون جداً على هذه المحفزات لدرجة أننا لا نلاحظها فعلياً ولا يسجلها دماغنا كمسبب للتوتر. وبمرور الوقت، يمكن أن يتسبب ذلك في خسائر فادحة وتأثيرات طويلة المدى على صحتنا العقلية والجسدية.
وفي حين أن الإجهاد الحاد "كبير ومرئي وواضح" و"يمكن للجميع التعرف عليه"، إلا أن الإجهاد الدقيق ناتج عن لحظات نسجلها على أنها "مجرد عثرة ومضايقة بسيطة"، بحسب تقرير عن الظاهرة النفسية نشرته مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو" (Harvard Business Review).
لا تؤثر هذه المحفّزات البسيطة بشكل مباشر، ولكنها تتركنا مع شعور شديد بالإرهاق الذي لا يمكننا بسهولة إيجاد سبب له.
تنتج غالب عوامل الإجهاد المجهري أو الدقيق نتيجة التواصل والاحتكاك مع الآخرين، سواء كانوا أشخاصاً قريبين منك شخصياً أو مهنياً.
وبشكل عام هذا لا يحدث لأن هؤلاء الناس سيئون وتربطك بهم علاقات سامة؛ هو يحدث فقط لأن الإنسان يجري تفاعلات كثيرة معهم على مدار اليوم، ولأن العلاقة لها بعض الأهمية بالنسبة لك فتتواصل يومياً مع زملائك أو عائلتك دون حدود.
كيف يتسلل الإجهاد تدريجياً ويؤثر على الصحة النفسية
وقد يبدأ تراكم مسببات الإجهاد الدقيق بمجرد أن يستيقظ الشخص من النوم، فهو يقوم بتشغيل هاتفه، وهناك بريد إلكتروني أرسله شخص ما في وقت متأخر من الليلة الماضية يطلب فيه القيام بشيء ما، فيبدأ الشعور بالذعر والقلق في التسلل إليك؛ لأنك كنت ترغب في قراءة البريد الإلكتروني والانتهاء من الأمر الليلة الماضية.
في هذه الأثناء، هناك موعد عليك اللحاق به، أو أفراد الأسرة يخبرونك بأنك تحتاج لتغيير ضوء الحمام، أو تسرع لكي لا يتأخر أطفالك عن موعد باص المدرسة، ثم عند الوصول للعمل هناك تحديات أخرى لا حصر لها سواء من زملائك أو مرؤوسيك في العمل.
صحيح أنه لم يحدث شيء فظيع خلال اليوم بشكل عام، لكن كل هذه العوامل والالتزامات وعمليات التواصل مع الآخرين منهكة للغاية، وقد تترك الشخص مصاباً بالإعياء التام للانخراط في أي نشاط، أو متحفزّاً بشكل مفرط، ومستعداً للانخراط في عراك حاد مع أقرب الناس إليه.
أنواع الإجهاد الدقيق
ويمكن تقسيم عوامل الإجهاد الدقيق والمجهري إلى ثلاثة أشكال، ويمكن أن يساعد هذا التصنيف في تحديد طرق التغلب على ما يلي:
1- الإجهاد المجهري بسبب استنزاف القدرات
هناك أشياء تمنعنا من إنجاز الأمور، مثل التي ننجزها باعتبارها عوائق مثل تلقي رسالة بريد إلكتروني في اللحظة الأخيرة لساعات العمل، أو مكالمة في العمل تؤدي إلى اضطرارك إلى إجراء المزيد من المكالمات ورسائل البريد الإلكتروني.
2- الإجهاد المجهري بسبب الاستنزاف العاطفي
هذه هي الضغوط التي تؤثر على طاقتنا. وهي مثل الشجار مع الزوج أو الزوجة قبل مغادرة المنزل، حتى ولو كان شجاراً بسيطاً على مكان وضع مفاتيح السيارة، وهو ما يجعلك تشعر بالذنب أو الإحباط طوال اليوم ويؤثر على تفاعلاتك مع الآخرين.
3- الإجهاد المجهري الذي يتحدى الهوية
تُعد تلك المضايقات من أكثر المحفزات صعوبة في قابلية اكتشافها. فهي الأشياء التي تجعلنا نشعر بأننا لسنا أنفسنا والمواقف التي نُطالب بأن نتصرف فيها بطريقة مختلفة عما نفعله بشكل طبيعي.
مثلاً، عندما تضطر إلى أن تكون اجتماعياً أكثر من طبيعتك في مقابلة مع عميل في وظيفتك، أو عند مقابلة والدي زميل طفلك في المدرسة وتحتاج أن تكون لبقاء وتستمر في إجراء محادثة معهما بالرغب من تأخُّرك على موعد العمل، وغير ذلك الكثير.
طرق إدارة الإجهاد المجهري والوقاية منه
تشير النصائح الشائعة لإدارة الإجهاد إلى أننا نستفيد من بعض الممارسات الإيجابية التي تساعد في التعامل مع الضغط والقلق اليومي المتكرر، مثل ممارسات التأمل أو اليقظة أو الامتنان أو الصلاة.
ولكن بدلاً من إضافة إجراءات إيجابية إلى اليوم فقط، يمكن الاستفادة أكثر من التخلص من العوامل اليومية الصعبة والتفاعلات السلبية التي يمكن أن يكون لها 5 أضعاف تأثير التفاعلات الإيجابية، بحسب مجلة "كوارتز" (Quartz) للمعرفة والمنوعات.
كذلك تمثل العلاقات الداعمة نقطة مركزية في تعزيز المقاومة الذاتية لمسببات القلق المتكررة يومياً، وذلك مثل صديق مقرب أو زوج أو أحد الوالدين وأفراد الأسرة.
وكلما كان هناك مجموعة أكبر من الأشخاص الذين يمكنهم لعب أدوار مختلفة في مساعدة الشخص على التعامل مع الأوقات الصعبة، كانت العملية أسهل وأقل تأثيراً على الصحة النفسية والعقلية.
وفي النهاية، لا تحتاج الضغوطات اليومية الصغيرة إلى إصلاحات واسعة النطاق، بل من خلال توجيه انتباهنا وإدارة الأمر، يمكننا أن نريح أنفسنا من أعباء كبيرة وربما نجد توازناً أكثر بقليل من ذي قبل.