يندر أن تُخلّد شخصية واحدة في ذاكرة الأمريكيين مثلما حدث مع بنجامين فرانكلين؛ فقد كان الرجل بارعاً في مجالاتٍ مختلفة، ولا عجب أن صورته مطبوعة على عملة الـ100 دولار الأمريكية، بعدما ترك بصمته في حقول السياسة، والعلم، والأدب معاً.
يُعتبر بنجامين فرانكلين واحداً من الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة الأمريكية، وكان دوره محورياً في إعلان استقلال بلاده عن بريطانيا؛ فصار رمزاً من رموز الدولة، له معهد علمي، وجائزة سنوية، ومهرجانات تُقام باسمه.
فمن هو بنجامين فرانكلين؟
وُلد عام 1701، وبدأت مسيرته السياسية أوائل العشرينيات من عمره، عندما انخرط في "جمعية بنسلفانيا". سرعان ما بزغ نجمه داخل الجمعية وأصبح أحد أكثر أعضائها نفوذاً، لاسيما أنه كان مدافعاً قوياً عن وحدة المستعمرات الأمريكية واستقلالها عن بريطانيا.
وانطلاقاً من هنا، لعب دوراً فعالاً في تشكيل "خطة ألباني للاتحاد" عام 1754، التي تُعتبر أول اقتراحٍ رسمي مُعتمد لتنظيم المستعمرات الأمريكية التي تسيطر عليها بريطانيا في ظلّ حكومة واحدة مركزية.
ورغم أن الخطة لم تنجح في نهاية المطاف، فإنها أرست أساسيات المناقشات المستقبلية حول الوحدة بين المستعمرات الأمريكية.
تم اختيار بنجامين فرانكلين في عام 1776 عضواً في "المؤتمر القاري" الشهير، الذي كان مسؤولاً عن صياغة إعلان الاستقلال أمريكا. وكان دوره محورياً في عملية الصياغة، حين قدّم اقتراحات مهمة وراجع الوثيقة المبدئية، كما كان أحد الموقّعين على "إعلان الاستقلال" الذي أعلن انفصال الولايات المتحدة عن الحكم البريطاني.
بعد الثورة الأمريكية، التي استمرت 8 سنوات، تابع بنجامين فرانكلين مسيرته السياسية. وقد كان أحد المنوط بهم صياغة دستور الولايات المتحدة، الذي حدّد أُسس عمل الحكومة الفيدرالية. ومن أبرز مساهماته في الدستور الدعوة إلى أن تكون الهيئة التشريعية للبلاد ذات مجلسين، وهو ما تم اعتماده بالفعل.
لعب كذلك دوراً مهماً في الحقل الدبلوماسي، بعدما شغل منصب السفير الأمريكي في فرنسا بين عامَي 1776 و1785، حيث عمل على تأمين الدعم الفرنسي للثورة الأمريكية، ما ساهم في قلب الموازين لصالح الأمريكيين.
لبنجامين فرانكلين إنجازات اجتماعية وإدارية أخرى؛ ففي العام 1757، تم تعيينه رئيساً للبريد، وهو المنصب الذي شغله لأكثر من 20 عاماً، عمل خلالها على تحسين كفاءة وموثوقية النظام البريدي، مما ساعد على تعزيز التواصل والتجارة داخل المستعمرات.
كما كان ممن شجعوا على إنشاء أول قوة للشرطة في فيلادلفيا، وهيئة محلِّية لمكافحة الحرائق، وافتتاح مكتبات عامة، من دون أن ننسى أنه كان من المؤسّسين لجامعة بنسلفانيا الشهيرة، وجمعيتها الفلسفية.
فرانكلين.. السياسي العالِم
إلى جانب أدواره السياسية، كان بنجامين فرانكلين عالماً فذاً وله إسهامات علمية في العديد من المجالات، أشهرها دوره في اكتشاف الكهرباء منتصف القرن 18، حين أجرى عام 1752 ما عُرف بـ"تجربة الطائرة الورقية" التي أظهرت العلاقة بين البرق والكهرباء.
سيّر فرانكلين طائرة ورقية بعد أن صنع طرفَي خيطها من مادتين:
- جزء علوي مصنوع من خيط القنّب، متصل بالطائرة الورقية، ومثبت بمفتاح معدني.
- جزء سفلي يمسكه بيده، مصنوع من الحرير تحت غطاء يعزله عن المياه.
وعندما ضربت العاصفة الرعدية الطائرة الورقية، ابتلّ خيط القنب بماء المطر، وقام بتوصيل الشحنة الكهربائية، بينما ظلت خيوط الحرير التي يمسكها فرانكلين جافة بسبب العازل.
وقد لاحظ فرانكلين أن خيط القنب استقام عندما أخذت الشحنات الكهربائية في التراكم. وحين وضع إصبعه بالقرب من المفتاح المعدني، شعر بشرارةٍ حادة نتيجة انتقال الشحنات السالبة المتراكمة على المفتاح إلى يده، موجبة الشحنة. وقد أدت اكتشافاته إلى اختراع مانع الصواعق.
كان بنجامين فرانكلين حاضراً أيضاً في مجال الأرصاد الجوية، خصوصاً أنه كان شغوفاً بدراسة الطقس. فأجرى عدداً من التجارب لفهم أنماطه، ولاحظ سلوك العواصف، كما جمع بيانات عن درجة الحرارة وضغط الهواء، بل وطوّر نظرياته حول تكون الأعاصير.
قدّم العالِم الفذ أيضاً إسهاماتٍ في مجال البصريات، لأنه كان مهتماً بخصائص الضوء ووضع نظرية حول طبيعة الألوان، بما في ذلك ظاهرة انكسار الضوء وإمكانية فصل ألوان الطيف المختلفة باستخدام المنشور الزجاجي.
حتى الطب لم يسلم من فضول بنجامين فرانكلين؛ فقد أجرى عدة تجارب في مجال التطعيم، من بينها اختبار فاعلية التلقيح ضدّ الجدري، وله اختراعات عدة في مجال الأجهزة الطبية، مثل النظارات ثنائية البؤرة.
وطوال حياته، كان فرانكلين مدافعاً قوياً عن تقدّم العلوم، وقد ساعد في تأسيس الجمعية الفلسفية الأمريكية عام 1743، التي كانت مهتمة بتعزيز البحث العلمي. كما ساهم في إنشاء أول مكتبة عامة في الولايات المتحدة، والتي حَوَت العديد من الكتب والوثائق العلمية.
هكذا سطّر اسمه في الحقل الأدبي
كان بنجامين فرانكلين أديباً موهوباً يُجيد صياغة المقالات والرسائل والشعر والهجاء. وقد بدأت مسيرته ككاتب في العشرينيات من عمره، عندما بدأ الكتابة لصحيفة أخيه الأكبر جيمس فرانكلين "The New-England Courant"، من أوائل الصحف الأمريكية.
فاكتسب من خلالها شهرةً واسعة، بسبب أسلوبه الذكي والساخر، حتى صارت الصحيفة واحدة من بين الأكثر شعبية في المستعمرات.
منذ عام 1722، بدأ فرانكلين في نشر سلسلة من المقالات تحت اسم مستعار لأرملة تُدعى "سايلنس دوجود". وقد قدّم في تلك المقالات تعليقاً ساخراً عن الحياة في المستعمرات، محققاً نجاحاً باهراً، رسّخ من مكانته ككاتبٍ موهوب وذي شعبية جارفة.
لبنجامين فرانكلين عدد من الأعمال المعروفة، مثل "تقويم ريتشارد المسكين"، تتضمن أشياء مثل الرموز الفلكية، ونصائح عملية، ودعابات، وأشعار، وتنبؤات بأحوال الطقس. وقد كان ذلك التقويم ناطقاً ذكياً بأفكار فرانكلين، خصوصاً حين توسع وأصبح من أكثر المطبوعات رواجاً وتأثيراً في عموم الولايات الأمريكية.
كان فرانكلين أيضاً صحفياً بارزاً، فهو من مؤسّسي صحيفة The Pennsylvania Gazette، إحدى أبرز الصحف الأمريكية وقتئذٍ. ومن خلالها، تمكن بنجامين فرانكلين من التعبير عن آرائه السياسية والترويج لمشاريعه المختلفة، كما طرح كتاباته الخاصة، بما في ذلك المقالات والشعر والمقاطع الساخرة.
من أشهر أعمال فرانكلين الساخرة رسمه الكاريكاتوري Join Or Die، الذي نُشر في الجريدة الرسمية عام 1754، وهو عبارة عن رسمٍ لثعبانٍ قُسّم إلى قطع، كل قطعة تمثل مستعمرة مختلفة.
مثّل ذلك الرسم دعوةً جدية، بطابعٍ كاريكاتوري، للعمل من أجل اتحاد المستعمرات الأمريكية ضدّ المحتلين الإنجليز، ويعتبر اليوم إحدى الأيقونات التي ترمز إلى الوحدة والنضال السياسي.
إلى جانب ما تميزت به كتاباته من ذكاء وسخرية وفهم متعمق للطبيعة البشرية، وما ساهمت به من تشكيل الرأي العام في أمريكا الاستعمارية؛ فقد كان بنجامين فرانكلين أيضاً مدافعاً قوياً عن حرية الصحافة، وعمل على حماية حقوق الصحفيين والناشرين، وكان أول من ساهم في ترسيخ مفهوم الصحافة الحرة في الولايات المتحدة.