نصير اللاجئين وبطل القوميين ومرشح الرأسماليين والفقراء.. كيف جمع أردوغان بين أشياء تبدو متناقضة؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/05/29 الساعة 11:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/30 الساعة 15:24 بتوقيت غرينتش
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان/الأناضول

سيدة تركية محجبة ورجل أعمال علماني صاحب شركة كبرى، وشيخ كفيف محكوم عليه بالإعدام في بلد عربي كانوا جميعاً يرقصون فرحاً بفوز أردوغان، في نفس الوقت كان رجل أعمال من البلد ذاته الذي جاء منه الشيخ الكفيف المحفّظ للقرآن سعيداً بفوز الرئيس التركي رغم اختلافه السياسي معه.

وفي الأغلب إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اتفقا على شيء واحد لأول مرة منذ السنوات، فهو الترحيب بفوز رجب طيب أردوغان في انتخابات الرئاسة التركية.

فليلة الأحد 28 مايو/أيار 2023 اجتمعت كل المتناقضات في الاحتفال بفوز أردوغان برئاسة تركيا، كان متوقعاً أن ترى لاجئين سوريين يحتفلون مع مواطنين أتراك محافظين ونساء محجبات مع منكوبي الزلزال.

ولكن أيضاً احتفل بفوزه فتيات غير محجبات متأنقات، وملاك مصانع ورجال أعمال أثرياء أعطى أبناؤهم وزوجاتهم أصواتهم لكليجدار أوغلو في الأغلب.

هرب الشيخ الكفيف الذي حوكم بتهمة القنص في بلده إلى تركيا بعد أن أُخلي سبيله على ذمة القضية، ولكن تم إعادة تعديل التهمة لتصبح أكثر ملاءمة لإعاقته ويصدر بحقه حكما غيابي بالإعدام، وكان يمكن أن يتم تسليمه لو هزم أردوغان بالانتخابات.

أما رجل الأعمال الثري فرغم أنه من أشد مؤيدي النظام في بلده، ولكنه نقل استثماراته إلى تركيا هرباً من الأوضاع الاقتصادية والضرائب ومنافسة المؤسسة العسكرية، ومشكلات البيروقراطية ليؤسس مصنعاً في البلد الذي يحكمه رجب طيب أردوغان الذي يختلف معه أيديولوجياً.

ليستحق أردوغان لقب نصير المستضعفين وداعم الرأسماليين.

أردوغان أصر على سياسته الاقتصادية حمايةً للصناعة التركية

خلال حملته الانتخابية كان أكبر تحدٍّ واجهه أردوغان، تداعيات التضخم وتراجع سعر الليرة خلال العام الماضي، والذي عزاه خصومه لإصراره على خفض سعر الفائدة، ولكنه أصر على هذا التوجه، الذي هاجمه الاقتصاديون بسببه، ولكن رجال الأعمال الأتراك كانوا هم أكثر من يعلم أهمية هذا القرار، فعن طريق خفض سعر الفائدة حافظ الاقتصاد التركي على نموه وزادت الصادرات وازدهرت شركات الصناعة التركية لينافس بعضها الشركات الأوروبية وتتحول لكيانات أوروبية عملاقة (شركة بيكو التركية من أكبر منتجي الأجهزة الكهربائية في أوروبا)، وتتحول تركيا لأكبر مصدِّر للسيارات لأوروبا.

كان ثمن هذه السياسة باهظاً، هو تراجع الليرة خلال السنوات الماضية، ولكن البديل كان ليكون مكلفاً أكثر ركوداً وبطالة وتراجعاً للصناعة وتسريحاً للعمالة، وهو ما قد يؤدي لتراجع لاحق للعملة.

لهذا لم يكن غريباً أن يطالب رجال أعمال مصريون مراراً حكومتهم بالتقصي بسياسة تركيا في تخفيض الفائدة، وتحرير حقيقي لسعر الصرف، مثلما سبق أن قال محمد السويدي، رئيس اتحاد الصناعات في بداية أزمة الدولار، ومثلما قال الملياردير المصري سميح ساويرس مؤخراً.

النخب الليبرالية الغربية تنتقده بينما الشركات الأوروبية تبرم معه الصفقات

تعرَّض أردوغان دوماً لنقد النخب الليبرالية واليسارية والغربية في بلاده، واتهموه بالاستبداد وحاولوا تشبيهه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدو المهاجرين واللاجئين، بينما على الأرض اللاجئون كانوا يخشون أن تلقى بهم  المعارضة إلى الموت على أعتاب حدود سوريا إذا خسر أردوغان، الذي أصر على خطابه بشأن استضافة الأنصار (الأتراك) للمهاجرين (اللاجئين) رغم خطاب المعارضة التحريضي ضد اللاجئين خاصة في الجولة الثانية للانتخابات.

اتهمه الليبراليون في الغرب والمعارضة العلمانية، في بلاده بظلم النساء، بينما نساء بلاده المحجبات اللاتي عانين لعقود من الاضطهاد الذي وصل لوضعهن في غرف للتعذيب تسمى غرف الإقناع يواصلن دعمه بحرارة، ويخشين أن يعدن مرة أخرى مواطنات من الدرجة الثانية إذا خسر الانتخابات.

واصل قادة الرأسمالية المالية الغربية التي تقود حركة الأموال الساخنة، انتقاد سياسة أردوغان الاقتصادية وتوقعوا انهيار الليرة بعد أن خفض الفائدة من أكثر من 24 % إلى أقل من 10 %.

الرئيس التركي بعد الإعلان عن فوزه بالانتخابات/الأناضول

بينما كان كبار الصناعة الغربيون يمتدحون مناخ الاستثمار في بلاده، حتى إن شركة فولكس فاغن الألمانية الشهيرة (ثاني أكبر شركة في العالم لصناعة السيارات) سبق أن كالت المديح لتركيا ومناخ صناعة السيارات بها، عندما كانت تخطط لنقل مصنعها الكبير الذي يبني سيارات باسات الشهيرة من ألمانيا إلى تركيا، واصفة الوضع الاستثماري وشبكة الصناعات المغذية والطرق والأيدي العاملة المدربة الرخيصة بأنها أفضل كثيراً لدى تركيا من نظرائها في دول أوروبا الشرقية.

وعندما ألغت الشركة قرارها كان السبب جائحة كورونا والانصياع للغضب الغربي من العملية العسكرية التركية ضد الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا، التي يراها الغرب حليفاً ونموذجاً لليسار الذي ينصف الأقليات بينما أسست هذه الإدارة كياناً عنصرياً يحكم فيه أقلية كردية أغلبية عربية، حسب تقارير مراكز بحثية غربية.

وفي خضم الدعم الغربي لهذه الإدارة في مواجهة أردوغان، تتجاهل التطهير العرقي الذي مارسته بحق عرب شمال سوريا، وأنه بينما يقود أردوغان دولة ديمقراطية، يرشح فيها حزب الشعوب الديمقراطي أعضاء في البرلمان وأحياناً الرئاسة رغم صلاته المعروفة بحزب العمال الكردستاتي، تختفي أي مظاهر للديمقراطية في الإدارة الكردية التي يدعمونها بالمال والسلاح رغم علاقتها بحزب العمال الكردستاتي المصنَّف إرهابياً في تركيا والغرب، وهي العلاقة المثبتة في تقارير مراكز دراسات غربية.

أردوغان محيّر للعقل السياسي الغربي

يبدو أردوغان محيراً للعقل السياسي الغربي التقليدي، الذي تعوَّد على أن السياسي اليميني المحافظ في الغرب يحظى بتأييد رجال الأعمال، وتقوم سياسته على رأسمالية صرفة والعداء للهجرة واللاجئين، وأحياناً العنصرية، كما أنهم يفترضون أن السياسي قوي مستبد بالطبيعة، والسياسي البراغماتي انتهازي بالضرورة.

ولكن أردوغان بدعمه للاجئين والفقراء، يبدو يسارياً أكثر من أغلب اليساريين الغربيين، ومخلصاً لقواعد السوق أكثر من عتاة الرأسماليين الأمريكيين.

ويبدو براغماتياً، ولكنه أيضاً لديه التزام راسخ تجاه أيديولوجيته القومية التركية، والإسلامية، وحلفائه التقليديين حتى لو دفع بعض الثمن لقاء ذلك.

جمع أردوغان بين ما يبدو أنه متناقضان؛ دعم كبار رجال الأعمال في بلاده حتى العلمانيين منهم، وتأييد القوميين والمحافظين واللاجئين وحتى بعض الأكراد.

بالطبع العقل التحليلي الغربي الاستعلائي يميل إلى تفسير ذلك بغفلة مؤيديه وضعف ثقافتهم السياسية، وليس البحث عن أسباب واقعية لهذا الجمع الغريب بين المتناقضات.

منح رجال الأعمال الاستقرار وسياسة صديقة للتصدير والصناعة

منح أردوغان رجال الأعمال الأتراك استقراراً اقتصادياً، لم يعرفوه منذ نشأة تركيا الحديثة، واقتصاداً داعماً للإنتاج والتصنيع والتصدير، حتى عندما ضحى باستقرار الليرة أحياناً، كان هدفه الحفاظ على النمو الاقتصادي، وبالفعل كانت تركيا صاحبة واحد من أفضل معدلات النمو الاقتصادي بين دول العشرين في ظل جائحة كورونا، وكان هبوط الليرة وبالاً أدى لارتفاع الأسعار، ولكنه ساعد في نمو الصادرات بشكل يساهم في حل مشكلة تركيا الرئيسية، وهي عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات.

ثم عالج أردوغان التضخم بزيادة ثلاث مرات للأجور خلال عامين أوصلت الحد الأدنى للأجور لأعلى مستوى في تاريخ البلاد، حيث بلغت نحو 455 دولاراً، وزيادة إضافية للحد الأدنى لأجور الموظفين الحكوميين لمستوى 15 ألف ليرة، (750 دولاراً) بنسبة 45 %.

ومنذ تولى حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان الحكم في عام 2002، حقق الاقتصاد قفزة نوعية، إذ استطاع الحزب إنقاذ البلاد من واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية التي وقعت في نهاية التسعينيات، وذلك بعد انهيار الليرة التركية، وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية، وأفلست على إثرها نصف البنوك التركية، ووصلت معدلات البطالة مستويات خرافية، فيما بلغ سعر العملة التركية في ذلك الوقت نحو 1.5 مليون ليرة لكل دولار، ووصل سعر الفائدة إلى 1000% ثم 3000%.

بالنسبة لرجال الأعمال الأتراك، فإن بعض المشكلات الناجمة من تراجع الليرة والتضخم، مجرد مزاح أمام احتمال تكرار مثل هذه الأزمات، خاصة أن المعارضة تضم نفس الأحزاب وبعض الشخصيات التي كانت موجودة في ذلك الوقت والنظام البرلماني الذي تدعو له هو الذي أوصل البلاد لهذه المحنة عام 2000.

كما اتبعت حكومة أردوغان سياسة هجومية في دعم الصادرات جعلت المنتجات التركية تغزو منطقة تمتد من أوروبا وروسيا شمالاً، إلى إفريقيا جنوباً مروراً بأسواق آسيا الوسطى وإيران والعالم العربي، حتى أن أكبر مشكلات تركيا في الخارج ليست سياستها الخارجية، بل هي نمو صادرات البلاد بطريقة تمثل مشكلة للمنتجين المحليين في أسواق التصدير، خاصة في ظل إبرام أنقرة لسلسلة من اتفاقيات التجارة الحرة مع أوروبا وعدد من الدول العربية.

حوَّل البلاد إلى قِبلة للاجئين والسياح وأخيراً المليارديرات الروس

ولم تتحول تركيا فقط لقِبلة اللاجئين المضطهدين الفقراء القادمين من سوريا وأفغانستان، كما تقول المعارضة، بل أيضاً قِبلة السياحة والتسوق والسياحة العلاجية التي يؤمها الأثرياء الأوروبيون والعرب والروس والإيرانيون.

كل ذلك تتم إدارته عبر نظام أمني حازم ومرن في الوقت ذاته يتعامل مع عشرات الملايين من السياح واللاجئين والمواطنين، يتنوعون بين المحافظين إلى المتحررين، تتوفر لأغلبهم مساحة كبيرة من الحرية، وتنوع اجتماعي ليس له مثيل في ظل محيط يتراوح بين انغلاق إيران الثيوقراطية وروسيا الاستبدادية وأوروبا المعادية للاجئين، والتي يتصاعد فيها العداء للإسلاموفوبيا والعالم العربي المحافظ والمضطرب.

نظام للأمان الاجتماعي صديق للفقراء والطبقة الوسطى

في المقابل، منح أردوغان عمال بلاده نظاماً للأمان الاجتماعي والاقتصادي، أتاح لهم تعليماً وصحة جيدين للغاية، يفوقان مستوى تركيا الاقتصادي، (نصيب الفرد من الناتج المحلي في تركيا يدور حول مستويات مماثلة لدول أمريكا اللاتينية الرئيسية ودول جنوب شرق أوروبا، في حين نظام الأمان الاجتماعي بها يمكن مقارنته بدول جنوب أوروبا وشمال شرقها).

وفّر أردوغان لعمال بلده، وطبقتها الوسطى، سوق عمل مرناً يوفر لهم فرص الترقي، وأجوراً ليست الأعلى، بعد أن أكلها التضخم، ولكنها تكفي للعيش الكريم، ومستوى خدمات وبنية أساسية منافسة لدول أغنى.

كما وفّر للمتقاعدين رواتب مريحة، بل خلال جائحة كورونا طلب منهم عدم الخروج من منازلهم على أن توفر لهم الحكومة احتياجاتهم على أعتاب أبوابهم.

شبكة الحماية الاجتماعية للعمال والفقراء والطبقة الوسطى توفرت دون هدر اقتصادي وسياسات دعم السلع المدمرة للميزانية العمومية والمشجعة على عدم العمل، أو تلك التي تحابي فقط عمال القطاع العام مثلما حدث في العديد من الدول العربية أو السياسات المالية الفاسدة التي أدت لأزمة الديون اليونانية التي كادت تؤدي لكارثة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي.

بالطبع تظهر العديد من المشكلات المتعلقة بالتضخم وآثاره مثلاً على السكن، ولكن أردوغان الذي لدى بلاده قطاع مقاولات ضخم وعد بحل هذه المشكلة، ويبدو أن فقراء تركيا يثقون في وعوده مثلما هو حال متضرري الزلزال الذين سارعوا لانتخابه في موقف صدم المعارضة وأخرجها عن طورها، حتى إن أحد رؤساء البلديات التابعة لحزب الشعب الجمهوري طرد النازحين من مناطق الزلزال من مساكنهم المؤقتة، بسبب انتخابهم لأردوغان.

والنتيجة أن تركيا نفّذت منذ تولي حزب العدالة الحكم إصلاحات طموحة، حسب وصف تقرير للبنك الدولي، وتمتعت بمعدلات نمو عالية بين عامي 2006 و2017 دفعت بالبلاد إلى أعلى مستويات الدخل المتوسط ​​الأعلى وخفضت الفقر. حيث انخفضت نسبة الأشخاص الذين تقل دخولهم عن 6.85 دولاراً أمريكياً يومياً (خط الفقر) إلى النصف تقريباً، لتصل إلى 9.8% بين عامي 2006 و2020.

ما قدّمه أردوغان لفقراء تركيا أكبر من الوظائف والضمان الاجتماعي.. قصة الأتراك السود والبيض

ولكن ما قدمه أردوغان لفقراء تركيا أكبر من الوظائف والضمان الاجتماعي وخدمات الصحة الجيدة، فقد وفر لهم شعوراً بأنهم مشاركون في حكم بلد كانت تحكمه لعقود نخبة المدن الكبرى العلمانية المعزولة عن الطبقات الفقيرة، وحتى الوسطى المنحدرة من الأناضول.

حتى شاع بين علماء الاجتماع والسياسة الدراسين للشأن التركي قبل حكم حزب العدالة تقسيمهم المجتمع التركي إلى فئتين: هما الأتراك البيض الأثرياء العلمانيون الذين لديهم السلطة والموارد، والأتراك السود المحافظون الذين تعرضوا للإقصاء والإجراءات الاستئصالية بحقهم.

وهذا ما عبّر عنه سكان مناطق الزلزال الذين صوتوا بكثافة لأردوغان في الجولة الثانية؛ حيث قال بعضهم حسب قناة الجزيرة إن خيارهم لم يكن يتعلق بالإعمار والوظائف، بل كان خياراً سياسياً.

لم يقض أردوغان على الأتراك البيض، بل سمح للأتراك السود بالصعود بجانبهم، لتنشأ طبقة يطلق عليها البعض الأتراك الرماديين، بل تحسن وضع الطبقات العليا العلمانية الاقتصادي بحكم نمو اقتصاد البلاد، وظلت ممثلة في أروقة رجال الأعمال والشركات والنخب بقوة، ولكن صعد بجانبها طبقة مماثلة من المحافظين الناجحين، ولكن الأهم أنه أنهى شعور التميز الذي كان لدى الأتراك البيض، وشدد على أن تركيا للجميع، وأكد رغم جذوره الإسلامية المحافظة على عدم التدخل في الشؤون الشخصية والتعرض للحريات.

فلم يستبدل العداء القديم للمحجبات بقيود على الملابس المتحررة مثلما فعل النظام الإيراني.

وألقى خطاب النصر بعد فوزه بالانتخابات من حي في إسطنبول لم ينتخبه.

جعل أردوغان لمحافظي وفقراء بلده سبباً ليشعروا أنهم جزء من الحكم، حتى لو ظل أغلب النخب والأثرياء في البلاد من العلمانيين الذين يصوتون لحزب الشعب الجمهوري كما ظهر في تصويت إزمير والأحياء الثرية في اسطنبول لمرشح المعارضة كمال كليجدار.

خطاب قومي يحاول المصالحة بين العثمانية والأتاتوركية

كل ذلك جرى مع محاولة أردوغان، إعادة صياغة الخطاب القومي التركي ليتصالح مع ماضيه العثماني والجمهوري على السواء، فهو يحتفل بمئوية الجمهورية التركية، وفتح القسطنطينية، ويطلق سلسلة من الأسلحة في 2023، عام الاحتفال بمئوية الجمهورية التي أنهت الخلافة العثمانية، بأسلحة تحمل كثير منها أسماء قادة عسكريين عثمانيين.

يحاول أردوغان، إعادة صياغة أفضل ما في تاريخي تركيا العثماني والجمهوري، ويحاول إعادة الدمج بين دأب الطبقات الكادحة المحافظة ومرونة الرأسمالية التركية العلمانية، ويحاول أن يمنح الأكراد بعض الحقوق، بينما يصل بمستوى الحرب ضد حزب العمال الكردستاني لمستوى غير مسبوق.

صديق بوتين وداعم أوكرانيا عندما كانت قضية منسية

وفي السياسة الخارجية، يركز على أن بلاده من أهم أعضاء الناتو، ويهاجم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما قال إن الناتو مات إكلينيكياً، ثم يؤكد على ضرورة اعتماد تركيا على نفسها في الصناعات العسكرية، ويشتري السلاح من روسيا غريمة بلاده التاريخية.

يهاجم حلفاء روسيا في سوريا وليبيا، حتى كاد جيشا روسيا وتركيا يدخلان في مواجهة عسكرية، في إدلب عام 2020، وقبل ذلك وقعت أزمة كبيرة مع موسكو إثر إسقاط تركيا لطائرة روسية اخترقت أجواءها عام 2015، ولكن بسرعة يصل لاتفاق لتقسيم النفوذ مع موسكو، في سوريا وليبيا.

وفي القوقاز، يساعد أذربيجان، في الحرب ضد أرمينيا المدعومة من موسكو بطريقة أفضت لاستعادة باكو لمعظم أراضيها، وبطريقة مناسبة لموسكو، التي باتت تشعر أن يريفان أكثر حاجة لها من أي وقت مضى، فيما خرج الغرب من معادلة القوقاز، وهُمش قبل ذلك في ليبيا وسوريا بعد أن رفض مراعاة مصالح أنقرة.

وفي أوكرانيا، ساعدت تركيا بقيادة أردوغان كييف، في أحلك الظروف، وقبل الحرب الحالية بسنوات، حينما كانت أوكرانيا قضية منسية بالنسبة للغرب، بل إن ألمانيا وفرنسا باعتا أوكرانيا حرفياً، حيث عقدت برلين اتفاقاً لبناء خط نورد ستريم 2، الذي يساعد روسيا على تصدير الغاز لألمانيا دون المرور عبر أوكرانيا، ما أدى ليس فقط لفقدان كييف للموارد المالية المتأتية عبر رسوم العبور، بل جعل روسيا أكثر استعداداً للهجوم عليها لأنها لن تخشى من قطع خطوط الغاز.

في ذلك الوقت، كانت تركيا من أكبر الداعمين العسكريين لكييف في وقت كانت ألمانيا ترفض تزويدها بالسلاح وتكتفي بعد نقاش بإرسال خوذ لها، بينما أنقرة أبرمت معها اتفاقات لبناء أسلحة مشتركة من شأنها ليس فقط تقوية كييف عسكرياً بل أيضاً إنقاذ صناعتها العسكرية العملاقة المتداعية، كما قدمت أنقرة لأوكرانيا طائرات بيرقدار قبل سنوات بشكل أغضب روسيا، وهي الطائرات نفسها التي أنقذت كييف من السقوط في معركة الربيع قبل أن يصل المدد الغربي، حتى إن الأوكرانيين ألفوا لها أغنية.

ولم يستغل أردوغان المأزق الروسي بعد حرب أوكرانيا والحصار الغربي لموسكو للانتقام من غريمه القديم بوتين بسبب قضاء الأخير على المعارضة السورية الحليفة لتركيا، ولكن على العكس وطد علاقته به بطريقة مفيدة للجميع.

تركيا استفادت من الطاقة والسياحة الروسية، ومن أموال رجال الأعمال الهاربين من الحصار، ومن مدن الغرب التي صادرت أموالهم مثل لندن بسبب حرب لا ناقة ولا جمل لهم فيها.

بالنسبة لروسيا أصبحت تركيا، منفذها الرئيسي نحو الغرب بعد الحصار الغربي، والغرب مرتاح بدوره لتنفيذ أنقرة اتفاق مونترو لعام 1936، الذي يمنع دخول السفن الحربية الروسية للبحر الأسود، ودور أنقرة كوسيط في اللحظات الحرجة بين واشنطن وموسكو خوفاً من وقوع حرب نووية بالخطأ.

أما أوكرانيا، فلقد واصلت أنقرة دعمها بالسلاح حتى ولو بوتيرة أقل من السابق، كما تقوم تركيا بدور مهم للغاية لكييف وهو الوساطة، بدأت بمحاولة لوساطة إبرام هدنة ثم التوسط في صفقة حبوب البحر الأسود التي أنقذت القمح الأوكراني من أن يفسد في المخازن، كما أنقذت إفريقيا من مجاعة. 

وهو دور يثق فيه الطرفان، فالتحالف القديم بين أوكرانيا وتركيا القلقتين بالفطرة من روسيا، يجعل كييف واثقة في شريكها التركي، خاصة في مبادرة ذات طابع عسكري وأمني مثل مبادرة البحر الأسود.

وموسكو التي جربت التنسيق مع الأتراك في قضايا كان الطرفان في حالة شبه مواجهة في سوريا وليبيا، أصبحت لديها تجربة مهمة في التنسيق التنافسي السياسي والعسكري مع أنقرة.

أما إيران فرغم التنافس الكبير بشأن سوريا، والذي وصل لقصف تركي لقوات حزب الله في شمال سوريا في فبراير/شباط 2020، ازدهرت التجارة بين البلدين، وكانت تركيا من أكثر الدول ممانعة للعقوبات الأمريكية الفردية ضد إيران (ولكنها كانت تنصاع في نهاية المطاف)، ولم يتوقف التنسيق بين البلدين والعلاقات الشخصية بين قيادتيهما، حتى إن أردوغان نعى قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني الرجل الذي له الدور الأكبر في هزيمة حلفاء تركيا بسوريا، والذي أمر باغتياله صديقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو العزاء الذي أغضب كثيراً من مؤيدي أردوغان الإسلاميين في العالم العربي.

أردوغان أبرم صداقات دائمة ولكن ليست عداوات دائمة

عبر هذه المسارات التي تبدو متعرجة يأتي أسلوب أردوغان الشخصي ليلقي بظلاله على استراتيجيات تركيا وعلاقتها، فهو يجمع بين العلاقة الحميمية الشخصية كالتي نسجها مع بوتين وترامب وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد والرئيس الأذربيجاني إلهام حيدر أوغلو علييف، والعلاقات المتقلبة التي بها مسحة من الخلاف الشخصي يفاقمها عادة سرعة غضب أردوغان، وحساسيته لما يعتبره مساساً بكرامة تركيا، مثلما كان الأمر مع الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمريكي جو بايدن، ولكن سرعان ما تتغلب المصالح الراسخة على هذه الخلافات الشخصية.

في الداخل أبرم تحالفاً متيناً مع حزب الحركة القومية كشريك لا تابع، شراكة ظن البعض أنها سوف تؤدي لنهاية الحركة القومية السياسية، ولكن ها هو نصيبها من كعكة البرلمان يزيد في الانتخابات الأخيرة.

عبر هذه العلاقات شديدة التعقيد رسخ أردوغان انطباعاً لدى منافسيه والمتعاملين معه على أنه مفاوض شرس ولكن مرن، يجيد توجيه الضربات لخصومه إذا دعت الحاجة، وخصم عنيد ولكن لا يدخل في مباريات صفرية، ولكن الأهم أنه شريك موثوق، ورجل يلتزم بكلمته ويجيد عقد الصفقات وإن كان يميل لعقد التحالفات الدائمة.

عبر تحسينه للعلاقة مع دول الخليج ومصر مؤخراً، ومحاولته القوية للتطبيع مع الأسد، مع تعزيز تحالفاته القديمة مع قطر وأذربيجان وحكومات طرابلس في ليبيا، أظهر أردوغان أنه مؤمن بأنه لا خصومات دائمة في السياسة، ولكن يؤمن بفكرة التحالفات والصداقات الدائمة باعتبارها جزءاً مهماً من رصيده المادي والمعنوي، ويظهر ذلك في استمرار احتضانه لحركات الإسلام السياسي في العالم العربي رغم ضعفها وتحولها لعبء عليه أحياناً، وظهر ذلك في رفضه تسليم أي معارضين عرب ودفاعه عن اللاجئين السوريين في بلاده.

ويظهر التحليل لسيرة أردوغان أنه يؤمن جزئياً بمقولة: "في السياسة لا عداوات دائمة"، ولكنه في المقابل يؤمن بأنه في السياسة وفي الحياة "هناك صداقات دائمة".

تحميل المزيد