تعاقب على حكم الجزائر خلال الفترة العثمانية العديد من الدايات، ولعلّ الكثير من الجزائريين لا يذكرون منهم سوى القليل من الشخصيات، مثل الداي حسين الذي سقطت الجزائر في فترة حكمه في يد الاحتلال الفرنسي، أو مصطفى باشا الذي اغتاله رجال الانكشارية وهو يصلّي في المسجد. لكن الداي شعبان، أو "الحاج شعبان" مثلما كان الجزائريون في ذلك الوقت يسمونه، يعدّ أبرز دايات الجزائر، فعلى الرغم من أن فترة حكمه لم تتعدَّ 6 سنوات من سنة 1689 إلى 1695، إلّا أنها كانت الأكثر أهمية في تاريخ الجزائر، فقد شكلت تلك الفترة الإرهاصات الفعلية للأطماع الفرنسية في احتلال الجزائر، كما أنها شهدت حروباً بين الجزائر وجيرانها في تونس والمغرب.
الحاج شعبان.. الإسكافي الملتزم الذي وضعه رياس البحر حاكماً على الجزائر
لا يعرف الكثير عن حياة الحاج شعبان قبل توليته حكم إيالة الجزائر سنة 1689، غير أنه عمل إسكافياً في إحدى فترات حياته، قبل أن يصبح ضابطاً في البحرية الجزائرية ويترقى ليصبح أحد ريّاس البحر.
ومن حسن حظه أنّ فترة ترقيته إلى رتبة رايس تزامنت مع عودة طائفة رياس البحر إلى الحكم، وذلك بعد انتصارهم على طائفة الانكشارية التي كانت تعيّن الأغوات والباشوات لحكم الجزائر، فكان الحاج شعبان أحد رياس البحر الذين عيّنوا الحاج محمد باشا أول داي للجزائر سنة 1671، والذي مكث في الحكم حتى سنة 1682.
وبعد أنّ اغتالت طائفة رياس البحر الداي حسين ميزو مورتو سنة 1688، على خلفية الصراع على الحكم، اختير الحاج شعبان مطلع عام 1689، داياً رابعاً على الجزائر.
وعلى عكس بعض حكام الجزائر، يشهد للحاج شعبان أنه كان متقياً وملتزماً ومحبوباً بين الأهالي الجزائريين، إذ يصف فترة حكمه أحد الرحالة الفرنسيين وهو (François Pétis de la Croix) في مذكراته التي كتبها سنة 1711 بقوله: "إنه رجل يتصف بالحكم والبشاشة ويغلب عليه الحياء، وهو ملتزم بأحكام الشرع ومتمسك بعقيدته الإسلامية، يؤثر حياة التقشف، إذ كان قانعاً براتبه السنوي الذي كان يقدر بـ 117 إيكو"، كما وصفه أحمد برناز في كتاب "الشهب المحرقة" بقوله: "كان في فترة حكمه مهما قعد في دار السلطان للحكم، لم يدع الصدق في يده، وإنه في أوقات فراغه يقرأ القرآن ويصوم الإثنين والخميس وثلاثة أشهر والأيام البيض".
كما عرف بطموحاته وكفاءته الحربية ويقظته، كما عُرف بميله إلى طائفة الأوجاق العسكريين، وذلك لكونه كان أحد أفراد هذه الفرقة العسكرية العثمانية، ولولاء أفرادها لحكمه.
أبرم اتفاقيات مع فرنسا تسببت في ما بعد باحتلالها الجزائر!
وفقاً لمقال تاريخي للمؤرخ مولاي بلحميسي بعنوان "إرشاد الحيران في أمر الداي شعبان"، تزامن تولي الحاج شعبان لحكم الجزائر، مع توقيع سلفه حسين ميزو مورتو لمعاهدة السلام التاريخية بين الجزائر وفرنسا، فكان أول توجهٍ في السياسة الخارجية للداي شعبان، هي طمأنة الفرنسيين بأنه سيحافظ على المعاهدة، بل الأكثر من ذلك، فإن بعض المؤرخين يعتبرون الداي شعبان هو من وضع أول الإرهاصات لاحتلال فرنسا للجزائر سنة 1830.
إذ وافق الداي الجديد على إبرام المعاهدة التجارية بين الحكومة الجزائرية وفرنسا والإذن لها باستخراج المرجان من سواحل بونة وطبرقة وفتح مراكز تجارية أخرى بين بونة وبجاية وذلك في مايو/أيار 1689.
كما وقّع في نفس السنة على معاهدة سلمٍ مع فرنسا لمدة 100 عام، وهي المعاهدة التي جعلت فرنسا تعيش في سلام وهي تشاهد الأسطول الجزائري يخوض في الحروب ضد الدول الأوروبية والإقليمية حتى أنهك مع نهاية مدة المعاهدة.
ولم تقتصر معاهدات الداي شعبان على ذلك، فقبل سنة 1690 منح صخرة الباستيون للفرنسيين لإقامة قاعدة عسكرية عليها، وهي جزيرة صغيرة مقابلة للجزائر العاصمة، والتي كان لها دورٌ في احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830.
وبينما كانت تعيش فرنسا قبل تولية الداي شعبان عرش الجزائر نزاعاتٍ وحروبٍ أهلية، وأزماتٍ اقتصادية، ساهمت فترة حكمه في إعادة الاستقرار إلى فرنسا التي استفادت كثيراً من الامتيازات التي منحتها لها حكومة الداي شعبان، كما عرفت الفترة تضاعف الديون بين البلدين.
دخل في حروبٍ مع تونس والمغرب
على الرغم من أنّ الداي شعبان كان منهكاً في بداية فترة حكمه لإرضاء طائفة رياس البحر الناقمين على سلفه، إلا أن الأوضاع التي كانت تعيشها إيالة تونس العثمانية حينها بعد محاولة انقلاب على الباي، دفعت شعبان إلى التدخل في تونس.
ففي عام 1694، نزل أمير تونسي يدعى الكاهية محمد بن شكر بالعاصمة الجزائر من أجل لقاء الداي شعبان، في ذلك اللقاء حرّض ابن شكر شعبان على باي تونس وطلب دعمه للإطاحة به، وذلك بحسب مقالٍ أكاديمي بعنوان: "مشروع توحيد الإيالات المغاربية في عهد الداي شعبان".
اقترح ابن شكر على الحاج شعبان خطته للإطاحة بمرادي بايات تونس، وذلك بقطع علاقات الجزائر مع تونس في الخطوة الأولى، ومن تم الهجوم على قوات الباي، وكان من بين الأسباب الرئيسية لهذا التدخل التحالف المعلن بين باي تونس ومولاي اسماعيل سلطان المغرب.
قبل داي الجزائر خطة ابن شكر، وغزا الأراضي التونسية وانتصر على باي تونس في معركة الكاف، وواصل الزحف إلى العاصمة تونس التي انتصر فيها بعد حصارٍ قصير، بحيث نصب الداي شعبان باياً جديداً تابعاً للجزائر.
وبينما كان الداي شعبان في طريق غزوه لباي تونس، استغلّ السلطان المغربي مولاي إسماعيل العلوي تأزم الأوضاع الداخلية في الجزائر، وأراد غزو غرب الجزائر، لكن الداي شعبان أعاد السيطرة على الأراضي التي فقدها، وأرجع الجيش المغربي إلى ما وراء نهر ملوية، واستمرت المشاحنات بين الجزائر والمغرب إلى غاية نهاية 1694، حين أوفد السلطان العثماني وفداً من إسطنبول لإقامة الصلح بين الداي شعبان والسلطان إسماعيل العلوي وتم الاعتراف بنهر ملوية كحدود بين الدولتين.
مات مخنوقاً بسبب خزانة أمواله
كانت الانقلابات والاغتيالات السمة البارزة لفترة حكم الدايات في الجزائر، فقليلٌ من حكام الجزائر خلال هذه الفترة من سلم من الأمرين، ومثلما قدم إلى السلطة بانقلاب طائفة رياس البحر على الداي حسين ميزو مورتو، جاء الدور على الداي شعبان.
فتعرّض الداي شعبان لعدة محاولات اغتيال، في إحداها كاد يقتل وهو في يهمُّ بالخروج من المسجد الكبير في الجزائر بعد أنّ حاول مجهول اغتياله لكن حرس الداي شعبان ألقوا القب عليه وعلى خلية كبيرة وقفت وراؤه وتم إعدام الجميع.
لكن نهاية الداي شعبان، كانت في قصره، إذ انقلب عليه ضباط الانكشارية الذين أرادوا السطو على خزانة أمواله، فقاموا باعتقاله 6 أيامٍ كاملة حيث تعرّض لشتى أنواع التعذيب من أجل الكشف عن مكان خزانته الذهبية، ولما فشل الضباط في إجباره على الحديث، قاموا بخنقه في 15 أغسطس/آب 1895، وذلك حسب مذكرة بعنوان "هيبة الجزائر الدولية في عهد الداي شعبان".