بعد وفاة السلطان المغربي الحسن الأول سنة 1894 دخل المغرب في فتنة كبيرة بعد تولي السلطان عبد العزيز البالغ من العمر 14 سنة الحكم، والذي عرف بأنه كان تحت تأثير والدته، الشيء الذي جعل الصدر الأعظم أحمد بن موسى المعروف باسم "با حماد" ينصب نفسه وصياً على السلطان الصغير في وقت كانت الأطماع الأجنبية تهدد المغرب بقوة من بينها بوحمارة.
بعد الهزيمة التي شهدتها البلاد ما بين عامي 1844 و1860 في كل من معركة إسلي ومعركة تيطاوين، وهو ما جعل المغرب مطمعاً للبعثات الاستعمارية، لكن رغم ذلك استطاع الصدر الأعظم منذ 1894 حماية عرش العلويين من الأطماع الخارجية ومن انقلاب إخوة السلطان الجديد الذين حاولوا الاستيلاء على الحكم.
توفي "با حماد" سنة 1900، ليصبح وزير الحربية المهدي المنبهي ووزير الخارجية فضول غرنيط أهم الشخصيات التي يلجأ إليها السلطان لتدبير شؤون البلاد، لكن كانت فترتهما السبب في اندلاع ما سمي "فتنة بوحمارة" التي استمرت سبع سنوات.
الخلاف على السلطة وكاتب الديوان
بوحمارة هو الجيلالي بن عبد السلام بن إدريس اليوسفي الزرهوني، يعود نسبه إلى قبائل زرهون القريبة من مدينة مكناس، وُلد الجيلالي في ستينيات القرن التاسع عشر، درس في مسقط رأسه ثم انتقل إلى مدينة فاس ليكمل تعليمه في جامعة القرويين، سمي بوحمارة لكثرة ركوبه على ظهر حمارة.
درس الجيلالي العلوم الأصيلة والفقه واللغة، بالإضافة إلى علم الفلك، ما أتاح له الالتحاق بالمدارس العسكرية التي أنشئت في عهد السلطان الحسن الأول، ليتخرج فيها ضابطاً مهندساً ويشتغل كاتباً في ديوان عمر بن الحسن، الابن الثاني للسلطان الحسن الأول. وقد كانت له أيضاً مطامع في الحكم، وبعد وفاة أبيه قاد الخليفة تحركاً لإزاحة أخيه الأصغر عبد العزيز عن العرش، لكنه فشل في آخر الأمر.
حسب موقع "trt arabic"، وجد الجيلالي نفسه وسط خلاف الإخوة الثلاثة على السلطة، وبسبب فشل عمر بن الحسن في السيطرة على الحكم، سُجن بوحمارة أيضاً -لأنه كان يعمل معه- وقضى في السجن ثلاث سنوات ليرحل بعدها شرقاً باتجاه الجزائر.
خلال رحيله أخذ بوحمارة معه العديد من أسرار القصر، بالإضافة إلى ختم السلاطين الذي سرقه من سيده السابق، أواخر القرن 19 وصل الجيلالي إلى الجزائر، وأخذ يجول بين زواياها وأضرحتها، وتتلمذ وتشرّب أصول الطريقة الشاذلية، إلى أن اشتق لنفسه منها تصوفه الخاص، الذي سماه فيما بعد "الطريقة النورانية".
تقوم هذه الطريقة على عدة ركائز، أهمها "الطاعة التامة، وأن الولاية للإمام المتحلي بالخوارق والكرامات، بالإضافة إلى أنه من الضرورة أن يكون الإمام قرشيّاً يقيم الحق بين أهل الإسلام وينجدهم من ضياعهم". وكان بوحمارة يدعي توفره على طاقة خاصة.
العودة إلى فاس وانطلاق فتنة بوحمارة
بعد وفاة الصدر الأعظم "با حماد" بسنتين، عرفت البلاد العديد من أعمال الشغب، ففي سنة 1902 شهدت مدينة فاس اغتيال المبشر البريطاني "ديفيد كوبر"، فيما لجأ القاتل إلى ضريح إدريس الثاني؛ حيث ثم إقناع القاتل بالخروج من مخبئه وقتل بعدها.
حسب موقع "بي بي سي بالعربي"، عاد بوحمارة في نفس الفترة إلى مدينة فاس قبل أن ينتقل إلى الجبال ليطلق ثورته، ويحصل على دعم العديد من القبائل في شرق البلاد، التي نجح في إقناعها بأنه شقيق السلطان عبد العزيز ويعلن نفسه سلطاناً.
لم يأخذ السلطان عبد العزيز مسألة بوحمارة بجدية، ليبعث إليه جيشاً بقيادة أخيه الأصغر الذي هُزم أمام بوحمارة الذي واصل غزوه من شرق المغرب، وصولاً إلى مدينة تازة التي احتلها جيشه الذي وصل عدده إلى 15 ألف رجل.
حينها أطلق السلطان عبد العزيز سراح شقيقه الأكبر محمد ليراه الرأي العام، ويؤكد كذب بوحمارة، ولكن يقين أتباعه لم يتغير، فبعث عبد العزيز جيشاً آخر للقضاء على بوحمارة وكانت الهزيمة أيضاً من نصيب الحملة الجديدة؛ مما منح بوحمارة المزيد من الشرعية.
سنة 1904 وقع انشقاق داخل حكومة بوحمارة؛ إذ تخلى عنه وزير حربه الذي انضم إلى جيوش السلطان بمدينة فاس، ليقرر بوحمارة محاولة اجتياح أراضي مدينة تازة، وهناك سيرتكب جيشه أفظع الجرائم، من سلب ونهب وهتك للأعراض، ما سيثير امتعاض المغاربة على السلطان الذي لا يستطيع حمايتهم، وستتخلى قبائل المنطقة عن مساندته بصفة نهائية.
بسبب كل هذا لجأ السلطان عبد العزيز إلى التحالف مع الفرنسيين للحدّ من عصيان بوحمارة، ليجد هذا الأخير نفسه بين الجيش الفرنسي المتقدم من الشرق، وجيش السلطان الضاغط من الغرب. فخسر وقتها مجموعة مواقع كانت تواليه، مثل الزاوية البودشيشية، التي تخلى عنها شيخها بعد أن وقع تحت تهديد الفرنسيين.
وانتهت هذه المرحلة بسقوط مدينة وجدة في يد الفرنسيين، تمهيداً لاحتلال المغرب كله، في إطار معاهدة الجزيرة الخضراء بوساطة أمريكية. وبحضور 12 دولة أوروبية، قُسِّم المغرب إلى مناطق نفوذ استعماري.
متمرد بين فك الأسود والرمي بالرصاص
بعد تحالف السلطان مع الفرنسيين خرج المغاربة مطالبين بعزل السلطان سنة 1908 بفتوى من فقهاء القرويين، ليحل محله السلطان عبد الحفيظ الذي قاد حملته لاسترجاع الأراضي من قبضة أخيه، لينطلق مع جيشه من مدينة مراكش جنوب المغرب والتوجه إلى مدينة فاس.
خلال هذه الفترة حاول الجيلالي التحالف مع الفرنسيين ومنحهم حق استغلال مناجم منطقة الريف الأوسط، وعهد إلى الإسبان بمنجم الحديد في جبل ويكسان شمال البلاد. لكن هذا أشعل ضده انتفاضة الريف الأولى بقيادة الثائر محمد أمزيان، الذي طرد بوحمارة والإسبان من المنطقة.
ليحاول بعدها مرة أخرى الاستيلاء على مدينة فاس، انطلق مع جيشه من مدينة تازة حيث صادف جيوش السلطان عبد الحفيظ التي تمكنت من الإطاحة بحكم أخيه في مدينة فاس ليستسلم جيش بوحمارة وتفككت خطوطه؛ ما أدى إلى هزيمته.
نجح السلطان عبد الحفيظ في إنهاء ثورة بوحمارة الذي كان يدعي أنه الأخ الأكبر للسلطان "الأمير محمد". أسر بوحمارة هو و400 من رجاله الذين أرسلوا لفاس لكن لم يصل منهم حياً سوى 160 وهناك تعرضوا للتعذيب والإعدام في الميادين العامة.
أعدم جيلالي في 2 سبتمبر/أيلول عام 1909 وتقول بعض الروايات إنه تم إلقاؤه إلى أسود القصر، لكن بعد امتناعها عن التهامه حياً أعدم رمياً بالرصاص.