تحِل الذكرى الـ75 للنكبة الفلسطينية في ظل مواجهة محتدمة بين الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض المسلوبة، وبين العدو الصهيوني الذي يتجرأ على ضم المزيد من الأراضي في القدس والضفة الغربية، حيث إن السياسة الإسرائيلية التوسعية تقوم على ابتلاع كامل الأرض الفلسطينية، وذلك لأسباب دينية وأخرى سياسية.
بالرغم من مُضي كل تلك السنوات على النكبة، فإن الشعب الفلسطيني لم ينسَها، وما زال يتجرع آلامها ومرارتها حتى اليوم، فمنذ عام 1948 و"إسرائيل" لم تتوقف ولو لحظة عن مُسلسلها الإجرامي من قتل واعتقال وهدم وتشريد للفلسطينيين، طالت خلالها المجازر الصهيونية "البشر والشجر والحجر".
لكن الجديد اليوم هو الإعلان البواح من الاحتلال الإسرائيلي وممارسته الانتهاكات الممنهجة ضد المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس وباقي الأراضي الفلسطينية، في محاولة منه للسيطرة على المدينة، والعمل على تغيير معالمها الإسلامية والعربية بطرق شتى، بُغية إضفاء الطابع اليهودي عليها، عبر تغيير الطابع الديمغرافي للسكان الفلسطينيين ومحاربة وجودهم.
لا يخفى على أحد أن القدس هي لُب الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، الذي يسعى عبر حكوماته اليمينية المتطرفة لتحقيق التقسيم الزماني والمكاني بالمسجد الأقصى، ومن ثم إقامة الهيكل المزعوم.
تحاول حكومة بنيامين نتنياهو تلبية رغبات المستوطنين في دخول مسيرة الأعلام الاستفزازية إلى الحي الإسلامي في مدينة القدس، والواضح أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في السنوات الأخيرة أصبحت جميعها حكومات دينية أصولية، تقود إجراءاتها لحرب دينية مُعلنة ضد الفلسطينيين، حيث تعتزم جماعات الهيكل اليهودية المتطرفة إحياء ما يسمى بيوم "توحيد القدس العبري"، من خلال اقتحامها للمسجد الأقصى بمسيرة أعلام ضخمة.
الخلفية التاريخية لـ"مسيرة الأعلام"
تعود البدايات الأولى لتنظيم مسيرة الأعلام إلى عام 1968م، أي بعد عام من نكسة حزيران (يونيو) 1967م، وقيام "إسرائيل" باحتلال الشطر الشرقي من القدس المحتلة، وبالتالي شقت أزقة البلدة القديمة وصولاً إلى باحة حائط البراق. وبتنظيم المسيرة الاستفزازية يوم الخميس يكون قد مر 54 عاماً على أول مسيرة نظمت فيها، إذ يعتبر "تسفي يهودا كوك" هو الأب الأول للمسيرة، والزعيم الروحي والتاريخي للصهيونية اليهودية.
"تسفي يهودا كوك"، القائد الروحي للحزب الوطني الديني "المفدال"، الذي ضم كل أجنحة وحركات التيار الديني الصهيوني، بينها "هبوعيل همزراحي"، أولى حركات التيار الديني الإسرائيلي، وأصبح لاحقاً يُعرف بتيار الدينية الصهيونية.
بدأت المسيرة بمبادرة فردية انطلقت عام 1968 كمسيرة متواضعة في الذكرى السنوية لاحتلال الشطر الشرقي من القدس، واستمرت المسيرة "متواضعة" حتى عام 1974، إذ طُورت إلى طقس يُظهر حجم التأييد للتيار الديني الصهيوني، بقيادة الرابي كوك، الذي كان يعتبر أن إقامة "إسرائيل" هي مجرد محطة في طريق الخلاص النهائي لليهود مع نزول المسيح اليهودي المنتظر.
المقدسيون ومسيرة الأعلام الإسرائيلية
الواضح للعيان أن مسيرة الأعلام ستتخللها هجمة شرسة على المقدسيين، ستكون هي الأشد ضراوةً، لا سيما أن من يقودها هم الوزراء الإسرائيليون الأكثر تطرفاً في الحكومة اليمينية؛ لذا فإنهم سيبذلون جهدهم من أجل زيادة التضييق والضغط على أهالي مدينة القدس.
كانت المقاومة الفلسطينية قد أطلقت تحذيرات للحكومة الصهيونية بألا تتجاوز الخطوط الحمراء، وألا تتمادى بتسيير مسيرة الأعلام في الأحياء الإسلامية، وبالرغم من تلك التحذيرات فإن حكومة الاحتلال الإسرائيلي مازالت تُصر على تنظيمها في مدينة القدس، مروراً بها من باب العامود والبلدة القديمة، وصولاً إلى حائط البراق، حيث إن الاستمرار فيها سيكون بمثابة مُفجِّر للأحداث بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
إن قضية القدس والمسجد الأقصى خط أحمر للفلسطينيين، لا يمكن تجاوزه، وجميع تلك الإجراءات الاستفزازية التي يقوم بها الاحتلال تؤجِّج الحرب الدينية.
ففي العام 2021 عندما لوَّح الاحتلال الصهيوني ومستوطنوه بتنظيم مسيرة الأعلام، ودخولها باحات المسجد الأقصى، كانت للمقاومة كلمة هددت فيها العدو وقطعان مستوطنيه بأن خروج المسيرة واستباحتها للأقصى سيؤدي إلى فتح النار من كل صوب وحدب، فلم يخضعوا لتلك التهديدات، وأقاموا مسيرتهم، وبالتالي نفّذت المقاومة تهديداتها، وأمطرت القدس وتل أبيب برشقات كبيرة من الصواريخ، حيث فروا منها كالجرذان، وكانت الشرارة الأولى لبدء معركة "سيف القدس"، التي أدت إلى كسر شوكة حكومة نتنياهو وأطاحت بها.
ما المطلوب اليوم للتصدي للحرب الدينية التي تقودها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين؟ العمل على دعم وتعزيز صمود المقدسيين في المدينة، من أجل القدرة على الثبات أمام آلة البطش الصهيونية، ولعب الدور لمواجهة ظروف الحياة، وعقبات الاحتلال ومخططاته، ولن يتم ذلك إلا إذا توفرت استراتيجية شاملة تشترك فيها كافة القوى والفصائل الفلسطينية، لدعم المقدسيين في التصدي لجحافل المستوطنين وقوات الاحتلال وقوات الأمن الإسرائيليلة.
وحول السيناريوهات المتوقعة، يمكن أن يتم إلغاء مسيرة الأعلام أو تغيير مسارها، وبالتالي ستفقد معناها ورمزيتها بالنسبة للاحتلال، وبالتالي ستفشل هذه المرة كسابقاتها. أما السيناريو الثاني، وهو الأرجح، أن يُصر الاحتلال على إقامة المسيرة، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى انفجار الوضع واندلاع مواجهة شاملة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.