في عام 1990 اتخذ عمدة مدينة إسطنبول، نور الدين سوزين، قراراً بدمج أندية شركة المياه والكهرباء والمطافئ تحت اسم "النادي الرياضي لبلدية إسطنبول".
لم يكن للقرار أي حيثيات رياضة تذكر، بل كان قراراً اقتصادياً من الدرجة الأولى لتقليل الإنفاق على أندية مهجورة في مدينة كانت تئن من الفساد والإهمال.
خلال 7 أعوام من الصعود والسقوط الرياضي استطاع "النادي الرياضي لبلدية إسطنبول" الصعود إلى دوري الدرجة الثانية، وكان قاب قوسين أو أدنى من الصعود إلى الدوري التركي الممتاز في عام 1998، ولكن هدفاً قاتلاً أنهى حلم الصعود إلى دوري الأضواء في الدقيقة الـ86.
احتاج النادي الجديد إلى قرابة عقد من الزمان للتعافي من صدمة الفشل في الصعود للدرجة الأولى، حيث عرف أضواء الشهرة للمرة الأولى في تاريخه عام 2007، عندما حصد التذكرة الثانية للصعود للدوري التركي الممتاز، أو ما أطلق عليه "السوبرليغ"، لكن النادي الذي أُسس بأموال دافعي الضرائب عانى الأمرّين في الدوري الممتاز.
مدرجات خاوية وشعب غاضب
إسطنبول، المدينة الصامدة في وجه تقلبات الزمان منذ عام 660 قبل الميلاد، مقسمة كروياً إلى 3 أحزاب، حزب أول يشجع نادي غلطة سراي، وحزب يؤازر نادي بشكتاش، وآخر لا يكلّ ولا يمل من نصرة فنربخشة.
لذا عانى نادي بلدية إسطنبول الأمرّين لجذب مشجعين لحضور مبارياته رغم محاولاته الترويج لها بكل السبل الممكنة، لكن الحضور لم يتعدَّ يوماً حاجز الألفي مشجع فقط، وإذا استثنينا أقارب اللاعبين والطاقم الفني والإداري وأصدقاءهم ستكون المدرجات شبه خاوية، زاد الطين بلة إقامة مباريات الفريق على أرضية ستاد "أتاتورك" الأولمبي، الذي يتسع لأكثر من 70 ألف مشجع، ما جعل صورة النادي في أعين جماهير الأندية التركية رديئة، في أفضل الأحوال.
استغلال نادي "بلدية إسطنبول" للملعب التاريخي الذي شهد نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2005 المثير، دون قدرته على جذب الجماهير، لمدة 7 سنوات، جعل من نادي البلدية هدفاً للانتقادات الشعبية والرياضية وكذلك السياسية.
ففي تلك المعركة الرياضية وجد النادي نفسه في ملعب السياسة، ففي انتخابات بلدية إسطنبول عام 2014، قال مرشح حزب الشعب الجمهوري مصطفى ساريغول في تجمع انتخابي حاشد في منطقة (سلطان غازي)، إنه "إذا تم انتخابي رئيساً للبلدية فسوف أغلق نادي البلدية".
خسر ساريغول الانتخابات أمام مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم، قدير طوباش، لكن الفائز اتفق مع الخاسر على ضرورة حل النادي. هنا تدخل الاتحاد التركي لكرة القدم برفض قاطع لذلك المقترح السياسي، مؤكداً على ضرورة استمرار النادي لتواجده في "السوبر ليغ" موضحاً خطورة حل النادي.
وبالفعل، تم التوصل إلى تسوية مرضية لكل الأطراف، في يونيو 2014، عندما تم نقل النادي إلى منطقة جديدة وأعيدت تسميته بـ"إسطنبول باشاك شهير"، كما تم نقل ملكية النادي من بلدية إسطنبول إلى وزارة الشباب والرياضة، كما تم إنهاء عقد استخدامه ملعب "أتاتورك"، وانتقل لملعب "فاتح تيريم" ذي الـ17 ألف مقعد في منطقة باشاك شهير.
منطقة "باشاك شهير" التي يقع فيها النادي الآن عبارة عن بلدة على بعد 30 كيلومتراً من وسط مدينة إسطنبول التاريخية. تم بناء "باشاك شهير" أو "مدينة السنابل" في الترجمة العربية، في حقبة التسعينيات خلال فترة رئاسة رجب طيب أردوغان للبلدية، وعاشت المنطقة طفرة اقتصادية هائلة خلال فترة توليه منصب رئيس الوزراء.
ونتيجة لذلك، تعتبر البلدية معقلاً انتخابياً لحزب العدالة والتنمية، إذ ذهبت أكثر من نصف أصواتها للرئيس رجب طيب أردوغان في انتخابات 2014 و2018 الرئاسية، كما خرجت منها تظاهرات حاشدة ضد محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016.
مع ذلك الارتباط الوثيق بين المدينة والحزب الحاكم من جهة، وبين المدينة والرئيس من جهة أخرى، لم يكن من المستغرب أن يكون للرئيس التركي أردوغان دور في شهرة نادي "باشاك شهير".
أيضاً، الرئيس الحالي للنادي، غوكسل غوموشداغ، وقائد الفريق السابق إيمري بولوز أوغلو، كلاهما عضو في حزب العدالة والتنمية، حيث تزوج غوموشداغ من ابنة أخت زوجة أردوغان.
ولم تستغرب الجماهير من مشاركة الرئيس الحالي ولاعب كرة القدم السابق رجب طيب أردوغان في المباراة الافتتاحية لملعب الفريق الجديد، لكن تم التعجب من حجب النادي القميص رقم "12"، وهو القميص الذي ارتداه الرئيس التركي في المباراة تكريماً له.
نزاع سياسي
ينخفض منسوب الغموض شيئاً ما عندما نقرأ تصريح أردوغان التالي "أنا فخور بنادي باشاك شهير لأنني أسسته"، لكن التصريح الذي تلقفه الجميع في هدوء وسكون لم يحظَ بإعجاب عمدة إسطنبول السابق، نور الدين سوزين، الذي شعر بالضيق من كلمات أردوغان هذه. قال سوزين: "لقد أسست الفريق، وهم فقط غيروا اسمه".
بدأت القصة عند سؤال أردوغان عن رأيه في نادي "باشاك شهير" بعد فوزه ببطولة الدوري التركي الممتاز موسم (2019-2020)، فأجاب الرئيس: "أنا فخور بنادي باشاك شهير لأنه فريق أسسته في عهدي كعمدة لإسطنبول".
"لقد قمت ببنائه، وليس أردوغان"، هكذا كان رد العمدة الأسبق للمدينة نور الدين سوزين، والذي تولى العمودية بين عامي 1989-1994. يقول العمدة سوزين إن "باشاك شهير" هو فريق انبثق عن نادي "بلدية إسطنبول لكرة القدم"، وإنه هو مؤسس نادي "بلدية إسطنبول" في عام 1990، ولذا يرى أن نادي "باشاك شهير" هو مجرد اسم جديد لنادٍ قديم، وينسب سوزين الفضل لنفسه في تأسيس النادي الذي استطاع الفوز بالدوري التركي مرة واحدة، وكسر هيمنة الستة الكبار على اللقب الأغلى.
صانع النهضة الحقيقي
أدار المدير الفني عبد الله أفجي النادي تحت مسماه القديم، بين عامي 2006 -2011، محققاً أول صعود لنادي "باشاك شهير" إلى دوري الدرجة الأولى، بالإضافة إلى قيادة النادي إلى نهائي كأس تركيا في 2011، قبل الهزيمة بركلات الترجيح أمام نادي بشكتاش.
بعدها ترك أفجي النادي لمدة عامين، ملبياً نداء المنتخب التركي، قبل أن يعود مرة أخرى في عام 2014، ليخدم 5 سنوات أخرى.
استطاع أفجي في ولايته الثانية نقل الفريق من تصنيف "المستضعفين" الذين يصنعون المفاجآت، إلى مصافّ الأبطال. أضاف أفجي أبعاداً أعمق لشخصية النادي والفريق، بدونها ما كان ليُتوج باللقب، وما كان ليهزم مانشستر يونايتد في مباراة سيتذكرها أهالي باشاك شهير طويلاً.
بالإضافة إلى تاريخ باشاك شهير المثير للجدل وقصة صعوده وتطوره، فإن طريقة إدارة النادي جديرة بالإعجاب. أوضح أفجي في مقابلة مع محطة TRT التركية الجانب التشغيلي: "لدينا تكامل وترابط بين جميع مؤسسات النادي، ولدينا نوعية اللاعبين الذين يحاولون باستمرار تطوير أسلوب لعبهم".
قال أفجي ذات مرة: "فريقنا لا يتأثر حقاً بسياسات النادي مثل الفرق الكبرى، نحن قادرون على فرض التفوق على منافسينا من الناحية التكتيكية وبقوة أسلوب لعبنا لأننا فريق متوازن للغاية".
تلك نقطة مهمة للغاية، نعلم جميعاً أن السياسة تلعب دوراً مهماً في إدارة الأندية الكبيرة، وتؤثر على أدائها ونتائجها، هنالك موازنات دائماً واعتبارات أخرى غير تلك الفنية، يدرك باشاك شهير تلك الحقيقة، لكنه لا يعاني منها، لأن الفريق حديث العهد، لا يوجد بداخله نجوم أصحاب سطوة أو يتمتعون بحب جماهيري جارف، وهو ما يجبر المدربين على إشراكهم، الأفضل يلعب، بهذه البساطة.
على كلٍّ لم يستطع أفجي مقاومة إغراءات نادي بشكتاش، لينتقل لـ"الأبيض والأسود"، لكن بعدما ترك وراءه فريقاً قوياً قادراً على المنافسة على الألقاب، وهو ما أدركه عندما رأى فريقه السابق يتوج بلقب الدوري في موسم (2019-2020).
طموح باشاك شهير
هناك هدف واضح لنادي باشاك شهير، وهو أن يصبح النادي علامة تجارية شهيرة في أوروبا، يريد النادي أن يُنظر إليه من قبل الأجيال الجديدة كبديل أو منافس للثلاثة الكبار في تركيا: غلطة سراي، وفنربخشة، وبشكتاش.
عند الحديث عن الثلاثة الكبار في تركيا ومستقبل باشاك شهير، يجب الإشارة إلى وقوع الثلاثة الكبار ضحية لقوانين ولوائح اللعب المالي النظيف، وأن لدى الثلاثة مجتمعة ديون ضخمة لبنوك مختلفة، بينما يسير باشاك شهير في اتجاه مختلف يبدو أكثر نجاحاً واستقراراً.
الكثير من أنصار النادي الحاليين هم مشجعون لأندية أخرى، وأغلبيتهم من سكان البلدية التي شهدت قفزات اقتصادية ضخمة في العقدين الأخيرين، فلقد شاهدوا ما يفعله باشاك شهير في الملاعب، وتحمسوا لتجربته، وبدأوا في متابعته، ومع الوقت نما حب النادي في صدورهم ونقلوه لأبنائهم، كما أن الصفقات الجماهيرية للنادي، مثل ضم الدولي الألماني مسعود أوزيل، والفرنسي غايل كليشيه، والبرازيلي روبينيو، وغيرها من الصفقات التي ميّزت النادي إعلامياً عن باقي الأندية التركية، حفّزت الكثير من الجماهير الكروية بشكل عام على التوافد إلى مدرجات ملعب "فاتح تيريم". لكن ما زال أمام نادي باشاك شهير الكثير ليصبح قطباً رابعاً في اسطنبول.