قلما استأثرت انتخابات رئاسية بالاهتمام كما الانتخابات الرئاسية التركية المزمع إجراؤها في 14 مايو/أيار المقبل، يستوي في ذلك المعنيون الأوائل، أي الشعب التركي، ودور جوار تركيا، في روسيا واليونان، وإيران، وأذربيجان وسوريا، والمحيط الإقليمي، وبخاصة في العالم العربي، وبدرجة أكبر الغرب. تختلف زوايا الاهتمام، باختلاف هذه الأطراف.
لا حاجة للتذكير أن الغرب يترقب مرحلة ما بعد أردوغان، ويعتبر منافسه كمال كليجدار أوغلو محاوراً بديلاً، بل حليفاً، بيد أن مآل الانتخابات يحددها الشعب التركي، ولا يمكن لاستطلاعات الرأي المتقاربة أن تقوم بديلاً عن الحسم الشعبي. يظل كل شيء ممكناً. إعادة انتخاب أردوغان لكي يدشن عقداً ثالثاً، في السلطة، وارد، كما أنه من المحتمل أن يتم انتخاب منافسه كمال أوغلو، عن تحالف أحزاب، ليفضي الأمر إلى نوع من توازن السلطة، مع بقاء حزب العدالة والتنمية في المشهد السياسي، وإلى توجه جديد سواء في السياسة الداخلية أم الخارجية.
من المؤكد أن السياق الداخلي الذي تَجري فيه الانتخابات الرئاسية المقبلة يختلف عن سابقاتها، مع وضع داخلي يتسم بركود اقتصادي جراء الأزمة العالمية، ويبرز بشكل جلي مع انخفاض قيمة الليرة واستشراء التضخم، وكذلك مع سياق دولي مُحْتَد مع الحرب الروسية الأوكرانية التي تَجري على مقربة من تركيا، وتجعلها معنية بمسارها وتداعياتها.
طبعاً لا يمكن أن ننكر عنصرين متداخلين أسبغا على الانتخابات المقبلة طابعاً خاصاً، وهما شخص الطيب رجب أردوغان، الذي قاد البلاد لأكثر من عقدين من الزمن، متجاوزاً مدة حكم منشئ الجمهورية التركية و"أب الأمة" مصطفى كمال أتاتورك. عبَر أردوغان بالبلاد محطات دقيقة وصعبة للغاية، منها الانتقال من نظام حكم برلماني إلى نظام حكم رئاسي، وواجه تحديات داخلية كبرى منها مظاهرات حديقة غيزي سنة 2013، والمحاولة الانقلابية لسنة 2016، فضلاً عن تحدي الأعمال الإرهابية على الحدود الجنوبية، سواء من تنظيم الدولة الإسلامية أو من الجماعات الكردية المعروفة بحروفها اللاتينية PKK.
يضاف إلى ذلك الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشطراً من شمال سوريا. قاد أردوغان تركيا باسم حزب طبع الحياة السياسية داخلياً وعلى المستوى الإقليمي، وهو حزب العدالة والتنمية الذي قطع مع الكمالية وتوجهها العلماني، داخلياً، وإدارة ظهرها لمحيطها الإقليمي. تبنى حزب العدالة والتنمية ما عُرف بالعثمانية الجديدة، بطابعها المحافظ داخلياً والارتباط بالمحيط الإقليمي، خارجياً. انطبعت فترة حكم أردوغان، بعنصر جديد، هو ما عُرف بالفضاء الأزرق، أي بسط سيادة تركيا في كل من البحر الأسود، والبحر الأبيض، واستقلال طاقي، وسياسية أمنية حاسمة مع صناعة عسكرية متطورة.
العنصر المميز لهذه الانتخابات هو أنه لأول مرة يصطدم أردوغان بتحدٍ حقيقي، من خلال المرشح كليجدار أوغلو عن ائتلاف لعدة أحزاب.
تقييم حصيلة كل من أردوغان وحزب العدالة والتنمية يعود بالأساس للشعب التركي. وبغض النظر عن النتائج التي رغم توقعات كثير من مراكز استطلاعات الرأي، لا يمكن التنبؤ بها.
أيّا كان الرئيس المرتقب، فهناك ثوابت لا يمكن الخروج عنها، ستكون مزيجاً من الكمالية والعثمانية الجديدة، وهو التوجه الذي سبق للرئيس أردوغان أن انتهجه، في نوع من التطبيع مع المحيط القريب بأسلوب انطبع بالبراغماتية، وبرز جلياً بعد تداعيات الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا، وفي سياق الحرب الروسية الأوكرانية، وفي نفس الاتجاه لم ينْأَ المرشح كمال أغلو عن القيم الناظمة للمجتمع التركي، ولم يصطف إلى جانب العلمانية الراديكالية. لن تشهد نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة قطيعة.
أياً كان الرئيس المرتقب، فلن يطال التغيير الجوانب المرتبطة بالسيادة، سواء فيما يخص الأمن القومي والفضاء الأزرق، والتوازن ما بين روسيا وأوكرانيا.
لكن الأولويات ستختلف، وكذلك الأسلوب. لم يُخف المرشح عن حزب الشعب أسبقية الوضع الداخلي، وأولوية الاقتصاد على دور إقليمي لتركيا في دول الجوار أو المحيط. ويُعتبر ملف حقوق الإنسان، وحرية التعبير، مع المحاكمات والمتابعات التي طالت المعارضين، من الملفات التي وعد كليجدار بأنها ستشهد تعاملاً مختلفاً. يُنظر إلى المرشح كمال كليجدار أوغلو من قِبل الغرب، سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، كمحاور مفضل، بالنظر إلى سياق الحرب الروسية الأوكرانية، ووضع الناتو، والتزامه في حال انتخابه، برفع الفيتو عن انضمام السويد إلى حلف الناتو، أو النأي عما تنظر له فرنسا بتوجس، وتنعته بأممية إسلامية.
أياً كانت نتائج اقتراع 14 مايو/آيار المقبل، فلن يحدث تغيير في بنية السلطة، سواء فيما يخص الطابع السيادي، أو التوازن الإقليمي.
وكما ورد في موقع بلومبيرغ؛ على الغرب أن يقلل من توقعاته بشأن الانتخابات المقبلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.