"هجوم على أكثر مكان محصّن في العالم"، هكذا يمكن وصف الهجوم على الكرملين بواسطة الطائرات المسيرة، والذي يشوبه قدر كبير من الغموض، وسط تساؤلات حول من يجرؤ على اقتحام عرين بوتين المنيع، وهل هي عملية أوكرانية، أم اختراق داخلي، أم ذريعة روسية لتصعيد الحرب؟
وقالت روسيا، الأربعاء، 3 مايو/أيار 2023، إن أوكرانيا هاجمت بطائرات مسيّرة مقر إقامة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الكرملين "إلا أنه لم يُصَب بأذى"، وأضاف الكرملين أن "محاولة اغتيال بوتين عمل إرهابي مخطط له".
وشقت أول طائرة مُسيَّرة سماء موسكو ليلاً، قبل الاصطدام بالمبنى الدائري في الكرملين، الذي يعود لقصر مجلس الشيوخ في القرن الثامن عشر، والذي صار الآن مقر مكتب فلاديمير بوتين. وأظهرت لقطات لاحقة اندلاع حريق صغير على السطح، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Daily Telegraph البريطانية.
وبعد 16 دقيقة، حلّقت طائرة بدون طيار ثانية، مباشرة عبر الميدان الأحمر، وانفجرت فوق المبنى الدائري، مُبعثِرَةً حطامها فوق مجمع القصر الحصين.
لماذا تأخرت موسكو في الإعلان عن الهجوم على الكرملين، وهل كانت تريد إخفاءه؟
أعلنت الحكومة الروسية عن الهجوم في ساعة مبكرة من بعد ظهر الأربعاء، 3 مايو/أيار، بعد نحو 12 ساعة من وقوعه.
لكن يبدو أنَّ هذا كان رداً على اللقطات التي انتشرت على الشبكات الاجتماعية، بدلاً من النشر المنظم للمعلومات، الأمر الذي يثير تساؤلات: هل كان الكرملين يفضّل عدم الكشف عن الهجوم، وأنه اضطر لذلك؟
وليس من الواضح من أين أتت الطائرات بدون طيار.
إهانة للأمن الروسي، والكرملين قال إنها محاولة لاغتيال بوتين
والضحية الوحيدة في غارة الطائرات بدون طيار، يوم الأربعاء، 3 مايو/أيار، هو كبرياء جهاز الحماية الفيدرالي، وهي الوكالة الروسية المُكلَّفة بحراسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتأمين الكرملين.
لكن الهجوم غير المسبوق على رمز الدولة الروسية أرسل موجات صادمة إلى أبعد من حدود موسكو.
وأعلنت الخدمة الصحفية في الكرملين أنَّ هذه كانت "محاولة لاغتيال الرئيس" و"عملاً إرهابياً".
وأضافت، في بيان، أنَّ بوتين لم يكن في الكرملين، ولم يُصَب بأذى.
الأوكرانيون يقولون إنها قصة اختلقها الروس لتبرير شن هجوم عليهم
وفي رواية كييف، حسبما نقلت صحيفة The Times، هذه قصة خيالية اختلقها الكرملين لتبرير شن هجوم جديد على أوكرانيا، حيث تستعد قوات الدولة لهجوم مضاد لاستعادة الأراضي التي خسرتها روسيا.
ولم يكن من الممكن أن تأتي غارة الطائرات المسيرة على الكرملين في لحظات أشد توتراً من تلك الحالية.
ولم تُعلِن أوكرانيا قط مسؤوليتها عن أية ضربات على الأراضي الروسية؛ لتهدئة قلق الحلفاء الغربيين بشأن تحول القتال بين كييف وموسكو إلى صراع شامل بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وبرغم ذلك، هناك الكثير من الأدلة على أنَّ أوكرانيا تشن ضربات خارج حدودها.
وكان الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قد صرح في زيارة إلى فنلندا: "نحن لا نهاجم بوتين ولا موسكو. نحن نقاتل على أراضينا، وندافع عن قرانا ومدننا".
روسيا تمتلك تاريخاً طويلاً من الهجمات المزيفة ضد نفسها
بينما تمتلك روسيا تاريخاً طويلاً من عمليات "الراية الكاذبة" المزعومة، (أي ضرب أهداف روسية لتبرير العمل عسكري)، بما في ذلك قصف مبنى سكني في موسكو، الذي استخدمه بوتين ذريعةً لاستئناف حرب الشيشان في عام 1999. وقد كشفت المخابرات الغربية عن العديد من المخططات الروسية لعمليات راية كاذبة لتبرير غزو أوكرانيا، ويعود الفضل لهذا الكشف في منع تنفيذ هذه المخططات.
وطالب فياتشيسلاف فولودين، رئيس مجلس الشيوخ الروسي، موسكو بالانتقام باستخدام أسلحة قادرة على "وقف وتدمير نظام كييف الإرهابي"، حسب تعبيره.
وصرح ميكايلو بودولياك، أحد مستشاري الرئيس الأوكراني: "هذا شيء متوقع. من الواضح أنَّ روسيا تستعد لهجوم إرهابي واسع النطاق، حسب قوله.
وقال: "هذا هو السبب في أنها تعتقل أولاً مجموعة كبيرة، يُزعم أنها تخريبية في شبه جزيرة القرم، ثم تجري استعراضاً بالطائرات بدون طيار فوق الكرملين"، في إشارة للهجوم المزعوم.
ولكن موسكو تبدو أكبر خاسر منه حتى الآن
بيد أنَّ، هذا الهجوم لن يكون له مظهرٌ جيد لروسيا، حتى لو كان هجوماً كاذباً. فقد انتشرت صور انفجار فوق الكرملين في جميع أنحاء العالم؛ مما يخاطر بجعل نظام بوتين يبدو ضعيفاً.
كما أنه حتى الآن، لم ترد روسيا بالانتقام الذي حذر منه الأوكرانيون والحادث برمته فقد الزخم الذي كان يجعله ذريعة جيدة، للروس، وموسكو لا يبدو أنها حاولت استغلاله، حتى ولو من أجل التصعيد الإعلامي.
فهل كانت عملية منظمة من قبل معارضين داخليين؟
والاحتمال الآخر الذي ينطوي عليه هذا الهجوم هو أنه من فعل معارضي بوتين الداخليين: مجموعات المقاومة الروسية التي تعارض الحرب.
وربما تعمل المجموعة التي نفذت الهجوم بمساعدة المخابرات الأوكرانية، حسب صحيفة The Daily Telegraph.
كانت مثل هذه الجماعات مسؤولة عن هجمات سابقة على البنية التحتية العسكرية، وقد ارتبطت بتفجير سيارة مفخخة أودى بحياة داريا دوجينا، ابنة كاتب روسي قومي متشدد، في أغسطس/آب الماضي.
لهذه الأسباب لم يكن الهجوم هدفه اغتيال بوتين، بل له مآرب أخرى
يجب التعامل بتشكك مع ادعاء الحكومة الروسية بأنَّ هذه كانت محاولة لقتل بوتين، من وجهة نظر صحيفة The Daily Telegraph.
لأنه نادراً ما يزور بوتين الكرملين هذه الأيام، ولا يقضي الليل أبداً تقريباً؛ لذا كانت فرص استهدافه في المنزل ضئيلة.
بعبارة أخرى، يبدو أنه استعراض للقوة -وسيلة لاستفزاز الحكومة الروسية- أكثر منها محاولة اغتيال خطيرة.
وهذا يقع تماماً ضمن قدرات أوكرانيا، وفقاً لما تقوله الصحيفة البريطانية.
الكرملين واحد من أشد بقاع العالم تحصيناً ولكن لهذه الأسباب هو كابوس لضباط الأمن
من الناحية النظرية، تضم الجدران الحمراء لقصر الكرملين أحد أكثر مثلثات المجال الجوي أماناً في أي مكان في العالم. لكن في الواقع، كما هو الحال مع أية منشأة حكومية داخل المدينة، تمثل كابوساً لضباط الأمن.
قد تكون الجدران مرتفعة، لكن يمكن لأي شخص شراء تذكرة للوصول إلى القصر – على الرغم من أنَّ مكان إقامة بوتين ومكتبه يقعان خارج الحدود المسموح للزوار بالوصول إليها تماماً- وهي تقع في وسط أكبر مدينة في أوروبا.
ومن الممكن أنَّ إطلاق الطائرات بدون طيار حدث من مكان قريب جداً، ربما من داخل موسكو نفسها.
الكرملين مليء بأجهزة التشويش الإلكترونية التي يصعب تعطيلها
أظهرت أوكرانيا قدرة على إرسال عناصر من القوات الخاصة خلف الخطوط الروسية، وسيُغنيها إطلاق الطائرات من داخل المدينة عن الحاجة إلى اختراق الدفاعات الجوية للعاصمة الروسية.
ومع ذلك، سيتطلب هذا العثور على طريقة للتغلب على أجهزة التشويش الإلكترونية القوية التي يستخدمها جهاز الحماية الفيدرالي لتأمين الكرملين من مثل هذا الهجوم.
في عام 2016، لاحظ سائقو موسكو أنَّ تطبيقات الملاحة تتعثر أثناء مرورهم أمام مجمع الكرملين. وخلُص مدون روسي في مجال التكنولوجيا، الذي حقق في هذه المسألة، إلى أنَّ الكرملين يشوش على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) المدني لمنع الطائرات الرباعية من التحليق بالقرب منه.
وسيشير المتشائمون، وغيرهم ممن اعتادوا على علاقة الكرملين بالحقيقة، إلى أنَّ أفضل من يستطيع اختراق تلك الدفاعات هو جهاز الأمن الفيدرالي نفسه.
طرق أخرى في التفكير
اقترح مستشار الرئيس الأوكراني، ميكايلو بودولياك، أنَّ الكرملين يريد تبرير بعض مما وصفه بـ"الضربات الإرهابية" المستقبلية على أوكرانيا.
لكن هناك طرقاً أخرى يمكن أن تجعل مثل هذا الهجوم مفيداً لبوتين، حسب صحيفة The Daily Telegraph.
إذ يمكن لمحاولة مزعومة لقتل بوتين من خلال هجوم على رمز الدولة الروسية نفسها، أن تساعد في تبرير موجة ثانية من التجنيد الإجباري للجهود الحربية، التي تجنبها الكرملين سابقاً بسبب خطر رد الفعل الشعبي العنيف.
ومع ذلك، لا يوجد دليل يدعم هذه الرواية للأحداث، وفقاً للصحيفة.
تلميحات أوكرانية مريبة
لكن في وقت متأخر من مساء الثلاثاء، 2 مايو/أيار، غرّد أندريه يرماك، رئيس مكتب رئيس أوكرانيا، رمزاً تعبيرياً لصاروخ. ربما كان يشير إلى الغارة الليلية على منشأة نفطية في جنوب روسيا.
وفي بيان المستشار بودولياك على تويتر، دُفِن سطر لا يمكن وصفه إلا بأنه تلميح يحمل دلالة.
فقد كتب يقول: "ظهور طائرات بدون طيار مجهولة الهوية فوق منشآت الطاقة أو على أراضي الكرملين، يمكن أن يشير فقط إلى أنشطة حرب العصابات لقوات المقاومة المحلية. فكما تعلمون، يمكن شراء الطائرات بدون طيار من أي متجر عسكري …".
بالطبع يبدو أن الأوكرانيون يحاولون لعبة موسكو القديمة عبر شن هجمات عسكرية أو المساعدة في تنفيذها ثم الإدعاء بأن أوكرانيون محبون لروسيا ومناهضون لحكومة كييف الموالية للغرب هم الذين يفعلون ذلك.
حدث ذلك عندما استولت القوات غير النظامية على شبه جزيرة القرم في عام 2014 من أوكرانيا، وضمتها لروسيا، حيث قال الكرملين آنذاك إن سكاناً محليين قلقون مما تفعله كييف حصلوا على أسلحتهم من فوائض معدات الجيش، هم الذين هزموا الجيش الأوكراني وضموا الإقليم لموسكو.
لكن تلميح المستشار الأوكراني، وغيرها من المؤشرات، تعد دليلاً على تورط كييف في الهجوم على الكرملين.
وبعد دقائق من وقوع الضربة في موسكو، بعد ظهر الأربعاء، 4 مايو/أيار، دقت صفارات الإنذار في أنحاء كييف.
وبرغم أنَّ صفارات انتهاء الخطر عَلَت بعدها بوقت قصير، لكن العاصمة الأوكرانية ستظل في حالة تأهب قصوى لأسابيع بعد الهجوم على الكرملين.
تقول الصحيفة البريطانية: سواء كانت غارات الطائرات المُسيَّرة هذه هجمات راية كاذبة نفذها الروس أم لا، فسيسعى الكرملين إلى الانتقام العلني.