كنت متحمساً جداً صبيحة يوم الخميس الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر عام ٧٤ فقد فاز محمد علي في الليلة التي سبقتها على جورج فورمان في المباراة التي قيل إنها أشهر حدث رياضي في القرن العشرين، فاستعاد بهذا الفوز لقبه الذي نُزع منه ظلماً بسبب موقفه من حرب فيتنام حينما رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية لقتال الفييتناميين.
كان محمد علي يعني لنا الكثير في أسرة فلسطينية سورية تعشق الحرية التي نُزعت منهم ظلماً فأصبحَ يمثل تجسيداً فردياً لكل فلسطيني حالمٍ بفلسطين حرة. وكان فوزه ذلك اليوم يعني أن فلسطين تحررت أو تكاد.
كنت أتكلم عن نصر محمد علي مع زملائي تلاميذ الصف الأول الابتدائي بحماس وإذا بناتالي تقاطعني وتسبُّهُ! لم أفهم لماذا. فسألتها بسذاجة الأطفال ليش ما بتحبيه لمحمد علي؟ أجابتني: لأنه بدل دينه. لم أكن على علم أنه بدل دينه أو حتى ماذا تعني تلك الجملة. ثم تابعت كلامها قائلة: أبي يقول ليش يبدل دينه؟ لهذا السبب نحن لا نحب محمد علي كلاي!
أذكر فيما بقي لي من تلك الذاكرة البعيدة أنني أحسست بجرح عميق حين تفوهت ناتالي بتلك الكلمات. فلم أكن أعلم قبلها فرقاً بين مسلم ومسيحي لا في أسرتنا الفلسطينية الصغيرة ولا في سوريا الكبيرة. ليلتها بت أفكر هل كل مسيحيي بلادي يفكرون مثل والد ناتالي؟
مضت الأيام وإذا بمحمد علي الأسطورة يخسر لقبه أمام الملاكم ليون سبينكس في شباط/فبراير ١٩٧٨. طبعا حزِنّا نحن الفلسطينيين على ذلك وأصبح هدف تحرير فلسطين بعيدا. لكن لم يطل حزننا سوى سبعة أشهر. كنت أستعد للذهاب إلى المدرسة صبيحة السبت السادس عشر من سبتمبر/أيلول حين نقر علي والدي الباب قائلاً بفرح شديد: "ربح محمد علي المباراة البارحة واستعاد لقبه. إنها المرة الأولى في التاريخ التي يستعيد فيها ملاكم لقبه ثلاث مرات!"، سألته بلهفة: كيف عرفت؟ أجابني: سمعت الخبر للتو في الراديو على البي بي سي. كان الخبر إذاً خبراً عالمياً استثنائياً تنقله كبرى قنوات الإعلام. ومرة أخرى أحسست كباقي الفلسطينيين أن فلسطين تحررت أو تكاد. هكذا هي حال المظلوم الضعيف يعلق آماله للانتصار لمظلوميته على بورصة الأحداث الدولية يفرح ويحزن حسب ارتفاع وانخفاض الأسهم التي تسهم بنظره بتقريب النصر.
اعتزل محمد علي الملاكمة عام ١٩٨١ وأصيب بالداء الارتعاشي الباركنسوني الذي قيل إن سببه هو اللكمات التي تلقاها على رأسه خلال حياته المهنية، خاصة أنه كان يعرف عنه أنه الملاكم الوحيد الذي لم يكن يغطي رأسه بيديه حين النزال في الحلبة.
غاب محمد علي عن مسرح الأحداث الرياضية والسياسية لسنوات طويلة حتى مساء يوم الجمعة التاسع عشر من يوليو/تموز عام ١٩٩٦.
كانت تلك الليلة هي ليلة افتتاح الألعاب الأولمبية في أتلانتا جورجيا.
تصف السباحة الأولمبية جانيت إيڤنز صاحبة الميداليات الأولمبية الذهبية الأربعة في سيؤول ١٩٨٨ رحلتها تلك الليلة إلى أعلى الدرج في الاستاد الأولمبي وهي تحمل الشعلة الأولمبية. كانت مهمة إيڤنز هي نقل تلك الشعلة للرياضي الأخير الذي سيقوم بدوره بإشعال الترس المخصص للشعلة الأولمبية.
وهناك من قلب الظلام برز خيال أسود يلبس تي شيرت أبيض ملوناً. لم يكن أحد يعلم من هو. اقتربت الكاميرات والعدسات من هذا العملاق فإذا به محمد علي يحمل الشعلة بيمينه فتمد إيڤنز شعلتها لتشتعل بذلك شعلته. وقف محمد علي لثوان أمام الناس. بدا الارتعاش على يده اليمنى واضحاً لكن ثقته طغت على أي ارتعاش. أمسك الشعلة بكلتا يديه فزال الارتعاش تماماً. انحنى بشعلته على الشعلة الأخيرة فأوقدها فبدأت تتصاعد ومن هناك اشتعل الترس ناراً.
مضت عطلة نهاية ذلك الأسبوع سريعة وعدت للعمل يوم الإثنين.
كنت أظن أنني الوحيد الذي تأثر بتلك اللحظة الخالدة ولكن لدهشتي العظيمة وجدت كل العاملين في قسم الأمراض القلبية ليس لهم حديث إلا عن تلك اللحظة. بل اعترفوا كلهم واعترفن أنهم بكوا وبكين حين شاهدوا محمد علي يحمل الشعلة.
كان الباكون أميركان بيض وسود وهنود وإسبان وغيرهم.
لم أكن إذاً الوحيد الذي بكا في تلك اللحظة. لم يكن محمد علي في تلك اللحظة بطلاً للمسلمين فقط بل استحال بطلاً للجميع.
توحّد الجميع في تلك اللحظة حول شخص محمد علي.
تصف جانيت إيڤنز فيما بعد تلك اللحظة فتقول: إني مستعدة للتخلي عن ميدالياتي الذهبية كلها في سبيل أن تتكرر تلك اللحظة التي أشعلت فيها شعلة محمد علي، هذا الرياضي العظيم.
كانت تلك اللحظة لحظة فارقة في وعيي. أبطال المسلمين ليسوا حكراً على المسلمين وحدهم. بل أزعم أن ليس من أبطال المسلمين الحقيقيين من يرى نفسه خاصاً بالمسلمين لكن المسلمين هم من يعلبونهم في علبٍ على مقاسهم، ولو نظرنا حقيقة إلى أولئك الأبطال لوجدناهم يفيضون من إسلامهم على الجميع فيصبح إسلامهم نقطة تجميع إنساني على الحق والعدل.
مرة أخرى تمضي السنين وبدأت بتدريس التفكير الموضوعي. وكان من الأمر التي واجهتني خلال ذلك تعريف النفاق كأحد خصائص التفكير الشخصي غير الموضوعي.
درست النفاق من مراجع غربية فوجدتها فاقت ما كنت تعلمته من المراجع الإسلامية عن ذلك الموضوع الذي كنت أظنه حتى تلك اللحظة معرفة خاصة بالمسلمين لاسيما أن هناك سورة كاملة في القرآن الكريم اسمها سورة "المنافقون" لكني وقعت خلال ذلك على ما اعتبره اليوم أخطر اكتشاف في كل حلقات التفكير الموضوع والذي سأفرد له إن شاء الله بحثاً منفصلاً يوماً ما لأنه يفسّر بدقة ماحصل خلال السنوات السابقة من ثورة مضادة على ثورات الربيع العربي.
لكن بتبسيط شديد فإن محمد علي يمثل حالة فريدة نموذجية في مكافحة عملية خفية يجريها كل منا في اللاشعور ليخرج نفسه من حالة النفاق التي تعافها النفس فطرة.
كان بإمكان محمد علي أن يجد ألف تبرير وتسويغ لنفسه لو لم يرفض الالتحاق بالخدمة العسكرية للقتال في فييتنام. كان سيجد أيضاً ألفاً من العلماء يبررون له ذلك تحت حجج شتى هذه إحداها: ستقاتل لبضعة أشهر وتعود. ستبقى بطلاً للعالم في الملاكمة ما سيدر عليك مالاً وفيراً تطعم به فقراء محتاجين.
أما إن لم تقاتل فسينزعون عنك حينذاك لقبك، وستفقد الكثير من المال ولن تستطيع حين ذلك إطعام الفقراء والمحتاجين.
لكن محمد علي رفض هذا المنطق لأنه يعرف أن القتال هنا ظلم وكل عملية تبرير لذلك تبقى مسربلة لاشك بقطران النفاق.
وهنا ينتقل النقاش مع النفس درجة خفية أخرى، للخروج من مأزق النفاق هذا.
نعم ستقاتل لكنك ستقاتل الإرهابيين الفيتناميين. وهذا الأمر واجب وطني وشرعي. ولن تفقد المال وستبقى تطعم الفقراء والمحتاجين.
هذا هو المسلك الخفي الذي يسلكه كل منا للخروج من النفاق وهو تغيير القناعة الأصلية فتنسجم عندئذ تلك القناعة مع القول والفعل المتولِّد عنها. أي يبقى القول والفعل المشين لكن تتغير القناعة في العقل لتبررهما وبهذا يخرج صاحبهما من مشكلة النفاق. هذا هو السبب الذي جعل الناس يحاربون ثوار الحرية حين جعلوا أنفسهم يصدقون ما رمتهم به الثورة المضادة من أنهم إرهابيون ولصوص وقطاع طرق فاستحالوا بذلك أعداء شديدي العداوة لأولئك الثوار ربما فاقوا بعدائهم عداء الثورة المضادة نفسها.
لكن محمد علي نظر إلى نفسه في المرآة وقال بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. أي أن الإنسان هو أكثر الناس تبصراً ومعرفة بنفسه ويعرف أن عملية تغيير قناعاته غير صحيحة حتى لو أتى بكل الأعذار التي تبرر له ذلك أمام باقي الناس.
عندئذ قال محمد علي قولته الشهيرة:
"لو أنني أعلم أن الحرب ستجلب الحرية والمساواة لـ٢٢ مليوناً من شعبي فلن يحتاجوا لطلبي للخدمة العسكرية لأنني سألتحق بها غداً. لكنني إما أن أطيع قوانين البلاد أو قوانين الله. ليس لديّ شيء لأخسره حين أقف مع قناعاتي. سأذهب إلى السجن. نحن أصلاً في السجن منذ 400 عام".
رحم الله محمد علي فقد أطاع الله وقناعاته في الحق والعدل، ورفض كل ترغيب وترهيب للمحافظة على لقبه. خسر لقبه لكنه حاز القبول عند الناس في الدنيا فدخل التاريخ وأصبح بذلك أعظم رياضي في القرن العشرين. وحين استعاد لقبه عام ١٩٧٤ لم يكن محمد علي بطلاً للسود المظلومين في أميركا فحسب بل كان بطلاً لكل مظلوم بغضّ النظر عن لونه أو دينه أو عرقه وهذا ما لم يفهمه والد ناتالي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.