شكلت الأعمال الدرامية وعلى مدار عقود متتابعة تأثيراً كبيراً من بين كل أشكال الفنون المختلفة على وعي الأفراد وتصور الجماعات وضبط المفاهيم، وتحولت شيئاً فشيئاً إلى سلطة استحواذ غير مرئية تتجلى قدراتها في التأثير على السلوك والأفكار والتصورات.
فعند الفلاسفة يمثل الفن شكلاً نوعياً من أشكال النشاط الاجتماعي الذي يعكس وعي الإنسانية بواقعها الاجتماعي وتاريخها، بل ما ينبغي أن يبتني عليه مستقبلها في كثيرٍ من الأحيان.
من هنا خلقت العلاقة بين الفن والسلطة وتجذرت لتأخذ أشكالاً عديدة تحمل في طياتها دمج الرؤية والأيديولوجية الحاكمة في الفنون، وصولاً لجعلها أداة إلهاء وإثارة في بعض الأحيان، حتى وإن استغلت لتزيف بعض الحقائق أو تعمد تغييبها، حرصاً على تثبيت رواية السلطة التي تتبناها المؤسسات الرسمية أو الدوائر الخاصة القريبة منها.
وإن كنا نؤكد على علاقة الفن بالسلطة إلا أننا الآن بصدد الحديث عن عمل درامي جديد يمثل شكلاً من أشكال المقاومة الرمزية للسردية المعتادة عن علاقة الفن بالمؤسسات الرسمية أو القريبة منها والتي تمثل كسراً زمزياً لتلك العلاقة المعقدة.
نعرف جميعاً أن الفنّ ليس الحقيقة، إنه كذبةٌ تجعلنا ندرك الحقيقة.
بابلو بيكاسو
ابتسم أيها الجنرال
العمل الدرامي الأكثر إثارة على مدار شهر رمضان والبعيد عن مقص الرقيب والذي تخطى سقف المسموح به في الدراما العربية والمفعم بتحطيم التابوهات التي كانت ممنوعة على أي عمل فني سابق خاصة إذا تعلق الأمر بالحديث عن قصور الرئاسة أو الصراعات حول السلطة وأدوات الحكم.
وإن كنا ندرك تمام الإدراك دور الفن في إيصال الحقيقة والدفاع عنها وأهمية طرحها في إطار عمل متكامل نصاً وإخراجاً، إلا أن سياق العمل الدرامي يفرض علينا أحياناً أدوات نقد مختلفة تماماً عن الأدوات المعهودة في الأعمال الفنية الأخرى. فلا مجال هنا لمناقشة جودة العمل الفني من زاوية الإنتاج أو الإضاءات أو الأزياء أو مساحة الأدوار، إلى الانتقال لمناقشة العمل من زاوية الموضوع حصراً، وهو ما نجح فيه "ابتسم أيها الجنرال" حيث أحدث جدلاً واسعاً بين المتابعين حتى ومن قبل عرضه، ما بين مؤيد يرى فيه خروجاً عن المألوف ويلامس الواقع السياسي في جرأة وحرية شديدتين، ومعارض يرى فيه إسقاطات سياسية تدعم وجهة نظر بعينها، وهو ما نستطيع أن نعتبره نقطة تضاف لصالح العمل.
فالعمل لامس واقعاً سياسياً معيشاً شديد الشبه بالعديد من البلدان وعابر للأنظمة السياسية ليحقق نجاحاً حتى من قبل طرحه على الشاشات فقط لتعلقه بأحداث قريبة من الأذهان وبعيدة عن التناول بجرأة وحرية شديدتين.
من هنا تبدأ الحكاية
تنطلق أحداث المسلسل بمشهد قيادة عسكرية كبيرة تعاني من مرض قاتل سيفضي بحياتها في فترة قريبة، فتقرر تلك الشخصية أن تفجر فضيحة أخلاقية كبيرة وتكشف علاقات غير مشروعة مع عدد من زوجات أصحاب المناصب العليا، ومن بين تلك الأسماء أخت رئيس تلك الدولة، ثم تأخذنا الأحداث إلى نشوء خلاف بين الرئيس وأخيه ليتطور هذا الخلاف ويتحول إلى صراع مباشر على السلطة.
وبالحديث عن العمل الدرامي يتجلى نضوج المؤلف سامر رضوان والذي استطاع الدمج بين الشخصيات والأزمنة والأحداث مع إحالة واضحة إلى فترة حكم الأسدين (الأب والابن) وترك المجال للمناورة في المسلسل بعد تحرره من التقيد بإسقاط الأحداث على شخصيات محددة والابتعاد التام عن التوثيق وترك المجال مفتوحاً لخيال المشاهد للبحث عن أوجه الشبه واستحضار الماضي البعيد وربطه بالحاضر القريب والواقع المعاصر وبالرغم من تأكيد الكاتب على أن تلك الشخصيات من وحي الخيال، إلا أن القواسم المشتركة كانت لا تخطئها العين حتى في اختيار أسماء البطلين الرئيسيين في العمل فرات وعاصي، في إشارة إلى هذين النهرين اللذين تقطع مياههما الأراضي في سوريا.
وبالرغم من ضعف الإنتاج نسبياً خاصة في بعض المشاهد المتعلقة بالاعتصامات والانفجارات وضعف الأداء النسبي لبعض الفنانين إلا أن اهتمام المتابع كان منصباً بالأساس على الأحداث وربطها بالشخصيات؛ سواء في شخصية فرات شديدة الشبة بالأسد الأب أو الابن وطريقة وصول الأخير إلى السلطة أو بالحديث عن الحركة التصحيحية التي أزاح بها الأب منافسه الأقرب صلاح جديد، فيما عرف بالحركة التصحيحية، مروراً بدور فرات وارتباطه في الأذهان بشخصيتي ماهر الأسد ورفعت الأسد، وفشل المحاولة الانقلابية التي قام بها رفعت الأسد على حافظ الأسد أثناء مرضه.
ومن بين كل تلك الأحاديث تألق عبد الحكيم قطيفان في دور حيدر المقرب من السلطة، ولم يفوت المؤلف أن يعرج على الشق المكمل والرئيسي في دولة الأسد ألا وهو الجانب الاقتصادي، وما كان يدور في كواليس الدولة من إقحام زوجة الأسد نفسها خلفاً لأنيسة والدة بشار، معبراً عن هذا التافس الجديد بـ"أهلا بك في عالم الشياطين".
كما سعى الكاتب إلى تأكيد خلو السياسة من أي مفهوم أخلاقي؛ من خلال عرضه لبعض الاقتباسات من كتاب "الأمير" لميكافيلي للدلالة على الفصل بين الأخلاق والسياسة في سلوك السلطة، لا على سبيل المدح، لكن للتأكيد على كارثية هذا السلوك إذا وافق أنظمة سياسية خالية تماماً من أي لون من ألوان المشاركة السياسية وبعيدة تماماً عن أي تمثيل ديمقراطي يضمن عدم توغل السلطة على حساب الأفراد.
هذا ولم يخلُ العمل كأي عمل درامي من تقديم رؤية نقدية خاصة من المهتمين بالحالة السورية، لا سيما فيما يحمله العمل من رسائل سياسية مباشرة؛ حيث وجّه المخرج السوري محمد عبد العزيز هجوماً حاداً على المسلسل ورأي فيه عملاً محرضاً ومغرضاً ويحمل رسائل سياسية مباشرة وذلك خلال لقائه مع إذاعة "سام إف إم" معتبراً أنه عمل أيديولوجي مباشر.
وعبر باسم ياخور في برنامج مراحل على قناة "إس بي سي" على اختلافه الكبير مع الفنان مكسيم خليل قائلاً: "برأيي أن كل حالة العمل خارج المنطق الفني وخارج ما يجب أن يكون عليه الفن".
ختاماً
سواء اتفقنا أم اختلفنا حول تقييم العمل نجاحاً أو إخفاقاً والرسالة التي يحملها، إلا أنه يمثل إضافة نوعية مهمة خارج إطار المسموح به فنياً خاصة في الدراما العربية، وهو ما يرفع سقف الطموح في إنجاز أعمال فنية أخرى بعيدة عن مقص الرقيب وبوصفها نقطة انطلاق جديدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.