أجلت أمريكا رعاياها من السودان، في ظل استمرار القتال بين الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، فكيف كان لسياسات واشنطن في الخرطوم دوراً محورياً في الوصول إلى الحرب الأهلية؟
قدمت مجلة Foreign Policy الأمريكية إجابة مباشرة عن هذا السؤال في تحليل لها بعنوان "السياسات الأمريكية مهّدت الطريق للحرب في السودان"، رصد كيف فوّتت واشنطن وحلفاؤها الغربيون الفرصة على السودانيين الطامحين إلى التخلص من الحكم العسكري، من خلال التركيز على المصالح الغربية الضيقة في اللحظات الحاسمة.
كان السودان، يوم 15 أبريل/نيسان، قد شهد انفجار الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود "قوات الدعم السريع"، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
أمريكا والسودان بعد سقوط البشير
ترى المجلة الأمريكية أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين قد يكونون هم القوى الوحيدة القادرة بشكلٍ محدود على تشكيل الأحداث في السودان، حيث تعمل الحكومة الأمريكية مع حكومات دول عربية -تحديداً مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات- في محاولة لمنع التوقعات القاتمة لانهيار دولة السودان.
لكن هؤلاء الحلفاء الأمريكيون على طرفي نقيض فيما يخص السودان. ومع ذلك، قال دبلوماسيون غربيون لمجلة "Foreign Policy" الأمريكية إنَّهم يدركون أنَّ العودة إلى الوضع القائم قبل 15 أبريل/نيسان أصبح أمراً مستبعداً على نحوٍ متزايد مع استمرار القتال. يأتي هذا الغياب للنفوذ الأمريكي بعد 4 سنوات فقط من بلوغ واشنطن ذروة آمالها بشأن السودان.
كانت أشهرٌ من الاحتجاجات في أوائل عام 2019 قد أدت إلى قيام الجيش بعزل الرئيس السابق عمر البشير، وبدا حينها أنَّ ثلاثة عقود من السياسة الأمريكية التي تعلن أن هدفها هو دعم الديمقراطية قد تؤتي ثمارها أخيراً. لكن الولايات المتحدة ودول غربية أخرى ضغطت على المتظاهرين المدنيين والجيش لتشكيل حكومة انتقالية مع صياغة دستور انتقالي تقرَّر بموجبه إجراء الانتخابات في عام 2022.
وإذا كانت هناك لحظة ضاع فيها أمل إرساء الديمقراطية في السودان، فقد كانت لحظة الاتفاق على هذا الدستور الانتقالي، الذي سمح للجيش بإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية. سارة عبد الجليل، المتحدثة باسم تجمع المهنيين السودانيين الذي ساعد في تنظيم الاحتجاجات، قالت لمجلة "Foreign Policy" في عام 2019: "ما زلنا لم نحقق ما نقاتل من أجله. لقد رحل عمر البشير، لكن النظام نفسه لم يرحل. لقد حققنا الهدف الأول، لكن هدف تشكيل حكومة مدنية لم يتحقق بعد".
تولَّى البرهان قيادة البلاد حتى يوفي بوعده بقيادة السودان إلى الديمقراطية، لكن فور بدء الفترة الانتقالية، كان واضحاً أنَّ "آمال" الغرب في الديمقراطية باتت بعيدة المنال، وانتهى وهم انتقال السودان إلى السلطة المدنية في عام 2021 عندما أُطيح برئيس الوزراء المدني، عبد الله حمدوك، في انقلاب عسكري. فقد أثبت العسكريون في ذلك الوقت أنَّ وعدهم بتسليم السلطة إلى المدنيين كان مجرّد كلام فارغ. واتضح أنَّ العملية الانتقالية المدعومة من الولايات المتحدة يشوبها عيوب جوهرية.
سوء تقدير أم عدم اكتراث؟
بحسب تحليل "فورين بوليسي"، ربما تمثَّل أعظم مثال على أوهام الولايات المتحدة في إصرار واشنطن على وصف العملية الانتقالية في السودان بأنَّها تمضي "بقيادة مدنية"، إذ لم يحدث أي شيء في تلك الفترة الانتقالية من خلال قيادة مدنية. نصَّ الدستور الانتقالي لعام 2019 على تولى الجيش قيادة البلاد أول 21 شهراً من الفترة الانتقالية، يليه المدنيون خلال الأشهر الـ 18 التالية.
فعلى الرغم من أنَّ حمدوك كان رئيس وزراء مدنياً، إلا أنه كان في الغالب بلا سلطات. ومع ذلك، أصرت الحكومة الأمريكية على وصف العملية الانتقالية في السودان بأنَّها تمضي بـ "قيادة مدنية"، حتى عندما أجَّل العسكريون عدة مرات موعد تسليم السلطة للمدنيين.
ولم يتضح حتى الآن ما إذا كانت الولايات المتحدة أو الحكومات الغربية قادرة آنذاك على منع الانقلاب العسكري ضد حمدوك في عام 2021. كان الدستور الانتقالي المدعوم أمريكياً صفقة سيئة للغاية سواء بالنسبة للسودان أو الولايات المتحدة وحلفائها. ومع ذلك، ساهمت السياسات الأمريكية والغربية اللاحقة في الوصول إلى ما نشهده اليوم من أحداث عنف في السودان.
نعم، يتحمَّل الجنرالات السودانيون المسؤولية الأساسية عن القتال الدائر حالياً في البلاد، لكن الحدث المُتسبّب في تعجيل اندلاع الصراع الحالي كان اتفاق مصالحة وخطة إصلاح للقطاع الأمني دعمتها الولايات المتحدة وبعثة الأمم المتحدة في السودان.
تركزت الفكرة الأساسية لإصلاح قطاع الأمن في السودان على توحيد القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في جيشٍ واحد، رغم صعوبة تقدير حجم كل قوة. يبلغ عدد القوات المسلحة السودانية حوالي 100 ألف جندي في حين يتراوح عدد مقاتلي قوات الدعم السريع من 30 ألفاً إلى 50 ألف مقاتل، لكنها تمتلك قوة احتياطية كبيرة بسبب قدرتها على حشد حلفائها من القبائل.
استمرت المفاوضات لعدة أشهر في محاولة لدفع الجانبين للتوافق على مسار للمضيّ قدماً، لكن المشكلة أنَّ لا أحد منهما -البرهان وحميدتي- يريد التخلي عما اكتسبه من نفوذ وسلطة.
ما نراه اليوم من تداعيات فشل هذه الخطة كان متوقعاً، ويعود سبب ذلك جزئياً إلى أنَّه تكرار لنفس سيناريوهات الماضي. كانت الجهود الرامية إلى صنع السلام مجرد نسخاً مكررة للاتفاقيات المبرمة في جنوب السودان في عامي 2013 و2016، والتي قادت أيضاً إلى نشوب حروب أهلية.
أدَّت خطة إصلاح قطاع الأمن في السودان، كما حدث في أماكن أخرى، إلى خلق منافسة حفَّزت حميدتي والبرهان على بناء قواتهما. في الوقت نفسه، كانت تهدف إلى ضرورة إخضاع كلا الرجلين لقيادة مدنية، وهو ما لم يكن في مصلحة أي منهما. التزم البرهان وحميدتي علناً بالإصلاح والديمقراطية، لكن يبدو أنَّ مسؤولي الولايات المتحدة والأمم المتحدة كانوا الأشخاص الوحيدين، الذين صدّقوا تلك الوعود.
وفقاً لدبلوماسيين أمريكيين، تمتلك الولايات المتحدة أدوات محدودة لوقف العنف في السودان. دعت الولايات المتحدة ودول أخرى إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية تسمح للمدنيين بالبحث عن مكان آمن وإحضار الطعام، لكن لم تحظَ تلك الدعوات باحترام كامل من طرفي النزاع حتى الآن.
إجلاء المدنيين.. هل باتت الحرب الأهلية أمراً واقعاً؟
وبعد أن أعلنت واشنطن في بداية اندلاع القتال أنها لن تجلي رعاياها من السودان، في مؤشر على قدرتها على وقف إطلاق النار سريعاً والعودة إلى المفاوضات، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، مساء السبت 22 أبريل/نيسان، إن الجيش الأمريكي أجلى موظفين بالحكومة الأمريكية من العاصمة الخرطوم، مضيفاً أن واشنطن علقت العمليات في سفارتها هناك في ظل استمرار القتال. وقال بايدن في بيان: "هذا العنف المأساوي في السودان أودى بحياة المئات من المدنيين الأبرياء.. هذا أمر غير مقبول ويجب أن يتوقف"، بحسب رويترز.
من جهته قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في بيان إنه تم إجلاء "جميع الموظفين الأمريكيين وعائلاتهم" بأمان، وإن الولايات المتحدة ستواصل مساعدة الأمريكيين هناك في تدبير شؤون سلامتهم.
وذكر مسؤولون أمريكيون أنه تم إجلاء جميع موظفي الحكومة الأمريكية وعدد قليل من الموظفين الدبلوماسيين من بلدان أخرى خلال العملية التي شملت نقل أقل من 100 شخص. وقال مسؤولون عسكريون أمريكيون إن ما يزيد قليلاً على 100 من قوات العمليات الخاصة الأمريكية شاركوا في الإجلاء، مضيفين أنهم دخلوا السودان وخرجوا منه دون أن يتعرضوا لإطلاق نار من أي من طرفي الصراع.
وبدأ رعايا أجانب آخرون في مغادرة السودان من ميناء على البحر الأحمر السبت بعد أسبوع من بدء القتال في أنحاء البلاد. وذكرت شبكة التلفزيون اليابانية (تي.بي.إس) أنه سيتم إجلاء موظفي الأمم المتحدة ومنهم الرعايا اليابانيون وعائلاتهم من السودان الأحد 23 أبريل/نيسان.
إذ أدى القتال في المناطق الحضرية إلى محاصرة أعداد كبيرة في العاصمة، وجرى استهداف المطار بشكل متكرر ولم يتمكن العديد من السكان من مغادرة منازلهم أو الخروج من المدينة إلى مناطق أكثر أماناً. فمطار الخرطوم، طبقاً لتصريحات البرهان السبت، لا يزال تحت سيطرة قوات الدعم السريع.
وحثت الأمم المتحدة ودول أجنبية قائدي طرفي الصراع على احترام وقف إطلاق النار المعلن الذي تم تجاهله في كثير من الأحيان، وفتح ممرات آمنة للسماح للمدنيين بالفرار وإدخال مساعدات تشتد الحاجة إليها.
ولم يتمكن آلاف الأجانب، من بينهم موظفو سفارات وعمال إغاثة وطلاب، من الخروج من الخرطوم ومناطق أخرى في السودان، ثالث أكبر دولة في إفريقيا، بسبب إغلاق المطار والمجال الجوي غير الآمن.
وأجلت السعودية مواطنين خليجيين من ميناء بورسودان على البحر الأحمر، على بعد 650 كيلومتراً من الخرطوم. وسيستخدم الأردن المسار نفسه لإجلاء مواطنيه.
هل يتجه السودان إلى سيناريو اليمن؟
سيكون الضغط على مصر والإمارات للتدخل من أجل وقف إطلاق النار في السودان أمراً حاسماً بالنسبة للولايات المتحدة، بحسب فورين بوليسي، لكن بمجرد انتهاء الأزمة الحالية يجب إدراك أنَّ السياسة الأمريكية والغربية لم تفشل في تحقيق الديمقراطية فحسب، بل ساهمت أيضاً في انهيار السودان.
إذ لا يبدو حتى الآن أنَّ واشنطن مستعدة لإدراك تلك الحقيقة وتعديل سياساتها. فبمجرد بدء القتال في 15 أبريل/نيسان، كرر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الأوهام الأمريكية بشأن السودان، قائلاً: "هذه فرصة حقيقية للمضي قدماً في عملية الانتقال نحو قيادة مدنية".
ومن المتوقع الآن أن ترسل دول غربية طائرات لمواطنيها من جيبوتي رغم أن الجيش السوداني أشار إلى وجود صعوبات في مطار الخرطوم ومطار نيالا أكبر مدن دارفور. ولم يتضح متى يمكن تنفيذ ذلك.
فقد انتهك القتال السبت ما كان يفترض أن يكون هدنة لثلاثة أيام بدأت يوم الجمعة للسماح للمواطنين بالوصول إلى مناطق آمنة وزيارة عائلاتهم خلال عطلة عيد الفطر. ويتهم كل طرف الآخر بعدم احترام الهدنة.
وقال حميدتي لقناة العربية في وقت متأخر السبت إنه ليست لديه أي مشكلة فيما يتعلق بوقف إطلاق النار، وأضاف أن الجيش لم يحترم الهدنة وأنه إذا احترمها فسوف تحترمها أيضاً قوات الدعم السريع.
ومن شأن أي تراجع في حدة القتال أن يسرع وتيرة نزوح سكان الخرطوم اليائسين إلى خارج العاصمة بعدما قضوا أياماً في منازلهم أو أحيائهم تحت تهديد القصف وتحركات المقاتلين في الشوارع.
وأفاد سكان في الخرطوم ومدينتي أم درمان وبحري بوقوع ضربات جوية بالقرب من هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية ومعارك في مناطق منها مواقع قريبة من مقر الجيش. وقالت ساكنة في حي كافوري بمدينة الخرطوم بحري لرويترز إن إمدادات المياه والكهرباء مقطوعة منذ أسبوع، وأفادت بوقوع ضربات جوية متكررة. وأضافت: "نتأهب للمعركة الكبيرة. نشعر بالرعب مما سيحدث"، ثم قالت في رسالة لاحقة "لقد بدأت".
وقال مواطن آخر يدعى محمد صديق من حي شمبات في مدينة الخرطوم بحري: "مررنا بساعات من الرعب عندما وقعت اشتباكات وإطلاق نار بين الجيش وقوات الدعم السريع داخل الحي، والرصاص في كل مكان". وأظهر بث تلفزيوني مباشر لعدة قنوات تصاعد سحابة كبيرة من الدخان الأسود من مطار الخرطوم ودوي إطلاق نار ومدفعية.
ودعت منظمة أطباء بلا حدود إلى فتح ممرات آمنة. وقال عبد الله حسين، مدير عمليات السودان بالمنظمة: "نحتاج إلى مساحة حيث يمكننا إمداد مواقع مختلفة.. نحتاج إلى موانئ لدخول البلاد حتى يمكننا إحضار أطقم متخصصة في التعامل مع الصدمات وإدخال إمدادات طبية".
وقالت نقابة أطباء السودان إن ما يربو على ثلثي المستشفيات في مناطق الاشتباكات توقفت عن الخدمة، مضيفة أن 32 مستشفى إما أنها تقع في مرمى النيران أو قام جنود بإخلائها قسراً.
الخلاصة هنا أن السودان يواجه انهياراً يشبه انهيار اليمن. إذ شنَّ الجيش السوداني حملات قصف مكثفة في الخرطوم، وقد يسيطر قريباً داخل العاصمة بفضل تفوق قوته الجوية. شكَّل سلاح الجو عنصراً حاسماً في حروب السودان، لاسيما منذ عام 2003 عندما قاتلت ميليشيا "الجنجويد"، التي سبقت "قوات الدعم السريع"، لصالح الحكومة المركزية السودانية أثناء الحرب في دارفور.
كانت قوة القوات الجوية السودانية السبب الرئيسي وراء تركيز عمليات قوات الدعم السريع في الساعات الأولى من الصراع على السيطرة على المطارات السودانية لوقف فاعليتها. ومع ذلك، قد يستغرق الأمر أسابيع لإخراج ميليشيا "قوات الدعم السريع" من المباني السكنية، التي حوّلتها إلى منشآت عسكرية في الخرطوم. في الوقت نفسه، سيكون من الصعب هزيمة قوات الدعم السريع في موطنهم القبلي في دارفور، لاسيما مع قدرتهم على حشد جنود من تشاد المجاورة. لذا، تزيد احتمالية انزلاق السودان إلى حرب أهلية كلما استمر هذا القتال لفترة أطول.
ما قد ينجم عن اندلاع حرب أهلية سيكون صراعاً تتورط فيه المنطقة بأكملها وبعض القوى العالمية. اعتقلت قوات الدعم السريع الجنود المصريين، الذين كانوا يتدرّبون مع القوات المسلحة السودانية في الساعات الأولى من الصراع. يخشى دبلوماسيون من أنَّ القاهرة ربما تستعد لدعم القوات المسلحة السودانية. ثمة تقارير عن حشد قبلي على طول الحدود بين تشاد والسودان، الوطن التقليدي لحميدتي.
يقع على الأقل جزء من العمليات المعلوماتية لقوات الدعم السريع في دولة الإمارات العربية المتحدة. كانت دولة الإمارات حليفاً رئيسياً لحميدتي خلال الحرب في ليبيا واليمن. وأفادت منظمة "غلوبال ويتنس" الدولية غير الحكومية بأنَّ دولة الإمارات كانت أحد الموردين الرئيسيين للمعدات العسكرية لقوات الدعم السريع. تلقت أيضاً تلك الميليشيا تدريباً على يد مرتزقة "مجموعة فاغنر" الروسية، التي كان لديها مسؤولون يتمركزون داخل بعض قواعد قوات الدعم السريع. عرض زعماء جنوب السودان وجيبوتي وكينيا الوساطة لوقف هذا الصراع.