لا أحد يبقى على حاله في الشرق الأوسط، فما إن يهدأ صراع في إحدى دول المنطقة حتى ينفجر صراع آخر في دولة أخرى. حرب اليمن في طريقها لأن تضع أوزارها ليندلع قتال في شوارع السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، فإلى أين تتجه الأمور؟
وكما كان متوقعاً منذ أيام، اندلعت أحداث عنف بين قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، والقوات المسلحة بقيادة عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة في السودان، السبت 15 أبريل/نيسان، في صراع على السلطة مستمر منذ انقلاب عسكري قاده البرهان على المرحلة الانتقالية، في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
فمنذ انقلاب أكتوبر/تشرين الأول عام 2021، الذي أطاح باتفاق المرحلة الانتقالية، يعيش السودان حالةً من عدم الاستقرار والاضطرابات والاحتجاجات. لكن القوى المختلفة نجحت مؤخراً في التوصل إلى اتفاق إطاري جديد يحكم المرحلة الانتقالية، ويحظى بدعم المجتمع الدولي ومبعوث الأمم المتحدة.
إلا أن الأمور في السودان ظلت عالقة بعد تأجيل التوقيع على الاتفاق السياسي الجديد، وأدت نقطاط الخلاف الرئيسية بين الجيش بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بزعامة حميدتي، إلى وقوع المحظور واندلاع القتال في شوارع الخرطوم الآمنة.
مَن الذي أطلق الرصاصة الأولى في السودان؟
تتضارب الروايات من الجانبين، فالجيش يقول إن قوات الدعم السريع هاجمت مقر إقامة البرهان، السبت 15 أبريل/نيسان، وهو ما أدى إلى اندلاع القتال، بينما تقول قوات الدعم إن الجيش هو من بدأ الهجوم على مقرات قواتها في الخرطوم. ونفى الجيش تأكيدات قوات الدعم السريع بأنها سيطرت على القصر الرئاسي ومقر إقامة قائد الجيش ومطارات في الخرطوم ومدينة مروي في الشمال.
واستمرت حرب الشوارع السبت، وشن الجيش ضربات جوية الأحد، على معسكر لقوات الدعم السريع بالقرب من العاصمة، في محاولة لإعادة تأكيد السيطرة على البلاد، وذلك بعد أن أسفرت اشتباكات عن مقتل العشرات من العسكريين و56 مدنياً على الأقل.
وقال شهود في ساعة متأخرة من مساء السبت لرويترز إن الجيش قصف في نهاية يوم من القتال العنيف معسكراً تابعاً لقوات الدعم السريع في مدينة أم درمان القريبة من العاصمة الخرطوم.
وفي الساعات الأولى من صباح الأحد، سمع شهود أصوات مدفعية ثقيلة في الخرطوم وأم درمان وبحري القريبة، وكان هناك أيضاً إطلاق نار في مدينة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر، والتي لم ترد تقارير سابقة عن اندلاع قتال فيها.
وقالت لجنة أطباء السودان المركزية إن 56 على الأقل قتلوا وأصيب 595 بينها إصابات لعسكريين منذ اندلاع المواجهات، وأضافت أن العشرات من العسكريين قتلوا أيضاً، وذلك دون أن تذكر عدداً محدداً بسبب قلة المعلومات المباشرة من العديد من المستشفيات التي نقل إليها هؤلاء الضحايا.
وقالت اللجنة في وقت سابق إنها سجلت وفيات في مطار الخرطوم وفي مدينة أم درمان القريبة، وأيضاً في مدن نيالا والأبيض والفاشر غربي الخرطوم.
ودعت القوات الجوية السودانية في وقت متأخر من يوم السبت المواطنين إلى البقاء في منازلهم، لأنها ستقوم بعملية مسح كامل لأماكن وجود قوات الدعم السريع، وأعلنت ولاية الخرطوم الأحد عطلة تغلق فيها المدارس والبنوك والمكاتب الحكومية.
وسُمع دوي إطلاق نار في عدة مناطق بالخرطوم، حيث أظهرت لقطات تلفزيونية تصاعد الدخان، وقال شهود إنهم سمعوا دوي إطلاق نار أيضاً في مدن مجاورة. ورأى صحفي من رويترز مدافع وعربات مدرعة منتشرة في الشوارع، وسمع دوي أسلحة ثقيلة قرب مقرات الجيش وقوات الدعم السريع.
وقال قائد الجيش، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، لقناة الجزيرة، السبت، إنهم إذا استمعوا لصوت العقل فسوف يعيدون قواتهم التي جاءت إلى الخرطوم، ولكن إذا استمر الأمر "سنضطر" إلى نشر قوات داخل الخرطوم "من مناطق مختلفة".
وقالت القوات المسلحة على صفحتها على فيسبوك "لا تفاوض ولا حوار قبل حل وتفتيت ميليشيا حميدتي المتمردة"، في إشارة إلى قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو.
على الجانب الآخر، وصف حميدتي البرهان بأنه "مجرم وكاذب". ويتنافس الجيش مع قوات الدعم السريع على السلطة، بينما تتفاوض الفصائل السياسية على تشكيل حكومة انتقالية. وقال حميدتي في مقابلة أجرتها معه الجزيرة إنهم يعرفون المكان الذي يختبئ فيه البرهان، وسيصلون إليه ويسلمونه إلى العدالة أو سيموت "زي أي كلب".
وقالت قوات الدعم السريع، التي يقدر محللون قوامها بنحو 100 ألف جندي، إن الجيش بدأ بمهاجمتها أولاً عندما حاصر إحدى قواعدها وفتح عليها نيران أسلحته الثقيلة، بينما قال الجيش إنه يقاتل القوات شبه العسكرية في مواقع قالت إنها سيطرت عليها.
ومن شأن حدوث مواجهة طويلة الأمد بين الجانبين أن تؤدي إلى انزلاق السودان إلى صراع واسع النطاق، في وقت يعاني فيه بالفعل من انهيار الاقتصاد واشتعال العنف القبلي، ويمكن أيضاً أن تعرقل الجهود المبذولة للمضي نحو إجراء انتخابات.
وتأتي الاشتباكات في أعقاب تصاعُد التوتر بين الجيش وقوات الدعم السريع بشأن دمج تلك القوات شبه العسكرية في الجيش. وأدى الخلاف إلى تأجيل توقيع اتفاق تدعمه أطراف دولية مع القوى السياسية، بشأن الانتقال إلى الديمقراطية.
ودعت القوى المدنية، التي وقعت على مسودة لذلك الاتفاق، في ديسمبر/كانون الأول، الطرفين إلى "وقف العدائيات فوراً، وتجنيب البلاد شر الانزلاق لهاوية الانهيار الشامل". وقالت في بيان السبت "هذه اللحظة مفصلية في تاريخ بلادنا… فهذه حرب لن ينتصر فيها أحد، وسنخسر فيها بلادنا إلى الأبد".
واتهمت قوات الدعم السريع الجيش بمحاولة الانقلاب وتنفيذ مؤامرة بتخطيط من أنصار الرئيس السابق عمر البشير، الذي أطيح به من السلطة عام 2019، بينما أطاح انقلاب 2021 برئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك.
ما مصير القوات المصرية في السودان؟
أفاد شهود بوقوع إطلاق نار في أجزاء أخرى كثيرة من البلاد خارج العاصمة. وأبلغ شهود رويترز بوقوع تبادل كثيف لإطلاق النار في مروي.
ونشرت قوات الدعم السريع السودانية مقطعاً مصوراً السبت، قالت إنه لقوات مصرية "تسلم نفسها" لها في مدينة مروي بشمال البلاد. وقال الجيش المصري إن قواته موجودة في السودان لإجراء تدريبات مع جنود سودانيين.
وبينما كانت القاهرة تسعى للحصول على ضمانات لسلامتهم، قال حميدتي لشبكة سكاي نيوز عربية إن الجنود المصريين في أمان، وإن قوات الدعم السريع ستتعاون مع القاهرة بشأن عودتهم.
وظهر في المقطع المصور عدد من الرجال يرتدون ملابس عسكرية ويجلسون على الأرض ويتحدثون مع أفراد من قوات الدعم السريع باللهجة المصرية. وأفادت تقارير من مصادر مخابراتية، لم يتسن التأكد من صحتها، بأن قوات الدعم السريع استولت على عدة طائرات مقاتلة تابعة للقوات الجوية المصرية واحتجزت طياريها.
وقال الشهود إن اشتباكات اندلعت أيضاً بين قوات الدعم السريع والجيش في مدينتي الفاشر ونيالا بدارفور. وقالت القوات إنها سيطرت على مطارات في الفاشر وولاية غرب دارفور.
ودعت الولايات المتحدة وروسيا ومصر والسعودية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي إلى إنهاء الأعمال القتالية، وذكرت وكالة الأنباء السعودية الرسمية أنه بعد مكالمة هاتفية، دعا وزراء خارجية السعودية والولايات المتحدة والإمارات إلى العودة لاتفاق سياسي إطاري بين القوى السياسية المدنية والجيش في السودان. بينما أغلقت تشاد حدودها مع السودان.
وقالت الخطوط السعودية إن طائرة تابعة لها تعرضت لإطلاق نار بمطار الخرطوم أثناء الاشتباكات. وأعلنت الشركة تعليق رحلاتها إلى السودان حتى إشعار آخر، وكذلك علقت شركة مصر للطيران رحلاتها إلى الخرطوم لمدة 72 ساعة.
وتشكلت قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي من جماعات مسلحة تعرف باسم الجنجويد، كانت تقاتل في الصراع بمنطقة دارفور في بداية الألفية، وأدى الصراع إلى نزوح ما يقدر بنحو 2.5 مليون شخص ومقتل 300 ألف.
ملفات الشرق الأوسط الساخنة
ما يحدث في السودان يؤكد مرة أخرى الطبيعة المتقلبة للغاية لمنطقة الشرق الأوسط، التي لا تفتقر أبداً إلى المزيد من الأخبار. فمع اقتراب شهر رمضان من نهايته، وسط تخوفات من انفجار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، جاءت الأخبار من دولة أخرى وهي السودان.
وتناول تحليل لصحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية ذلك التقلُّب في الشرق الأوسط من من الصراع إلى المصالحة ومن الهدوء إلى الأزمة. ففي الوقت الذي تشهد العلاقات بين الخصمين الإقليميين، السعودية وإيران، نقلة هائلة نحو المصالحة، تمت بوساطة الصين، فوجئت شعوب المنطقة بانفجار الأوضاع في السودان.
وتجري حالياً فورة من النشاط في الرياض وطهران، حيث تتجه السعودية وإيران إلى دفن الأحقاد، ويبدو أن كلا البلدين على استعداد لطي صفحة الماضي على علاقة مضطربة وصلت إلى نقطة منخفضة، عندما قطعا العلاقات الدبلوماسية مرة أخرى في عام 2016، ويتوقع الآن وصول الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى المملكة العربية السعودية قريباً، وتفاوَضَ السعوديون مع المتمردين الحوثيين في اليمن، الأسبوع الماضي، في محاولة لإنهاء القتال هناك، ليزدهر التفاؤل بمنطقة الخليج المضطربة خلال شهر رمضان.
تأتي فورة النشاط الدبلوماسي بعد الإعلان التاريخي الذي جرى بوساطة صينية في الشهر الماضي، أن إيران والسعودية، اللتين دعمتا أطرافاً متعارضة في صراعات حول الشرق الأوسط، ستعملان على استئناف العلاقات بينهما. ويكاد يكون من المؤكد أن الدفء في العلاقات بين الرياض وطهران سيكون له تأثير مباشر على الحرب في اليمن.
وتأتي المفاوضات بين الحوثيين والرياض بعد ثماني سنوات من إطلاق الأخيرة تدخلاً عسكرياً بهدف طرد المتمردين المدعومين من إيران، الذين كانوا قد استولوا على السلطة في صنعاء، بعد انقلاب في سبتمبر/أيلول 2014.
وهناك أزمة أخرى ستتأثر بالتقارب بين السعودية وإيران، وهي الصراع في سوريا، التي طُرِدَت من جامعة الدول العربية في عام 2011، بعد أن شنت حكومة الرئيس بشار الأسد حملة دموية على الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية. وفي تحول دراماتيكي للأحداث، التقى وزير الخارجية السوري فيصل المقداد ونظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان في جدة، ما يشير إلى عودة دمشق إلى الحظيرة العربية.
وتُعد الزيارة أحدث علامة على تحرك نحو إعادة العلاقات بين سوريا والمملكة العربية السعودية. وقبيل المحادثات، توجه رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى القاهرة، لإجراء محادثات مع الزعيم المصري عبد الفتاح السيسي. اكتسبت كل هذه الجهود الدبلوماسية زخماً بسبب التقارب مع إيران، الحليف الرئيسي للحكومة السورية، الشهر الماضي.
إسرائيل.. إلى أين تتجه الأمور؟
كما يراقب الكثيرون الاضطرابات الداخلية في إسرائيل عن كثب، والآن تخطط الدولة العبرية لإقامة مهرجان للاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها في الوقت الذي تتعامل فيه مع الاحتجاجات الجماهيرية على خطط مثيرة للجدل للغاية لإصلاح النظام القضائي.
ستمنح التغييرات الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، برئاسة بنيامين نتنياهو، سيطرة كاملة على اللجنة التي تعين القضاة وستجرد في النهاية المحكمة العليا من السلطات الحاسمة لإلغاء التشريعات. وبحلول أواخر مارس/آذار، كان 21% من الإسرائيليين قد شاركوا في عمل احتجاجي واحد على الأقل، ضد الإصلاحات المخطط لها من قبل الحكومة، وأثرت المظاهرات على علاقات تل أبيب مع أقرب حليف لها؛ واشنطن.
يُضاف إلى ذلك التصاعد الملحوظ في التوتر والعنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما شوَّه فترةً يتزامن فيها شهر رمضان المبارك مع عيد الفصح اليهودي وعيد الفصح المسيحي، وأثار المخاوف من أن تشهد المنطقة حرباً أخرى خلال شهر رمضان، كما حدث قبل عامين.
كما كانت هناك تطورات كبيرة عبر الحدود بين إسرائيل وجارتها في الشمال لبنان. وشنت إسرائيل في الساعات الأولى من صباح الجمعة أكبر غاراتها الجوية على لبنان منذ 17 عاماً، رداً على عشرات الصواريخ التي أُطلقت من جنوب لبنان خلال عطلة عيد الفصح اليهودي، ما أدى إلى تصاعُد التوترات في المنطقة. ويمثل ذلك أخطر تصعيد بين إسرائيل ولبنان منذ حرب عام 2006.
ويقلل استمرار العنف بين إسرائيل وجيرانها من احتمالات تعميق اتفاقيات التطبيع في اتفاقيات أبراهام، وتوسيعها إلى دول عربية أخرى.
لكن فجأة جاءت أخبار الحرب من منطقة أخرى، حيث وقع المحظور في السودان، وانفجرت المواجهة بين الجيش وقوات الدعم السريع، بعد ساعات من تحذير الجيش النظامي في السودان من أن البلاد تمر "بنقطة تحول تاريخية خطيرة"، في أعقاب نشر الدعم السريع المزيد من المقاتلين في المدن الكبرى، وسط صدع متفاقم داخل الحكومة العسكرية.
إذ اصطدمت خطط دمج قوات الدعم السريع شبه العسكرية بقيادة حميدتي في الجيش النظامي بقيادة البرهان، الزعيم الفعلي للسودان، خلال محادثات لوضع اللمسات الأخيرة على صفقة تهدف إلى إعادة البلاد إلى المدنيين وإنهاء الأزمة التي أعقبت انقلاب 2021. نتيجة لذلك، تتعرض البلاد لخطر الانزلاق إلى الفوضى.
وفي مصر، أكبر دولة في العالم العربي من حيث عدد السكان، والتي تكافح التباطؤ الاقتصادي، نفى مسؤول كبير تقريراً لصحيفة Washington Post الأمريكية، زعم نقلاً عن وثيقة استخباراتية أمريكية مسربة، أن الجيش في البلاد كان يخطط لإنتاج 40 ألف صاروخ لروسيا. وقالت الوثيقة المسربة التي حصلت عليها الصحيفة إن الرئيس السيسي أصدر تعليمات للمسؤولين بالحفاظ على سرية إنتاج وشحن الأسلحة "لتجنب المشاكل مع الغرب".
كما تستعد أنقرة لإجراء انتخابات، في 14 مايو/أيار، تعتبر الأكثر أهمية في التاريخ الحديث لتركيا. ستُجرى عمليتان انتخابيتان في ذلك اليوم: جميع المقاعد البالغ عددها 600 في الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا، البرلمان أحادي المجلس في البلاد، فضلاً عن الرئاسة، مطروحة للانتخاب.
الخلاصة هنا هي أن الشرق الأوسط أصبح منطقة أزمات مستمرة، لا تكاد تهدأ واحدة منها حتى تنفجر أخرى.