عبَّرت محافل إسرائيلية عسكرية عن خوفها من حرب متعددة الجبهات أو ما تطلق عليه "سيناريو يوم القيامة"، وذلك على إثر التصعيد الذي شهدته الأيام الأولى من أبريل/نيسان 2023، من إطلاق رشقات صاروخية في آن واحد معاً من غزة ولبنان وسوريا، ردّاً على اعتداءات الاحتلال المتزايدة على المسجد الأقصى، وضرب شرطته للمصلّين، وطردها للمعتكفين من ساحاته.
منذ عقود طويلة، تواجه إسرائيل للمرة الأولى أمراً مماثلاً لما حدث في الأيام الأخيرة، بعد ضمانها للهدوء على جبهة الجولان السورية منذ انتهاء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، فيما بقي الوضع في الجنوب اللبناني مستقراً منذ توقف حرب لبنان الثانية 2006، ولم تتبقَّ سوى جبهة غزة التي دأبت على خوض مواجهات عسكرية متواترة بين عام وآخر، حيث اندلعت أربع مواجهات ضارية في أعوام 2008 و2012 و2014 و2021.
في أبريل/نيسان 2023 يوشك السيناريو الذي تخوفت منه إسرائيل كثيراً أن يتحقق، وهو الحرب متعددة الجبهات بالتعريف الإسرائيلي، فيما تسميها قوى المقاومة "وحدة الساحات"، والمقصود بها خوض سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية حرباً واحدة ضد إسرائيل، مع احتمال انضمام جبهات أخرى، وهو سيناريو شغل الأوساط العسكرية الإسرائيلية منذ سنوات.
من أجل مواجهة هذا السيناريو، أجرى الجيش الإسرائيلي العديد من المناورات والتدريبات العسكرية، سواء بصورة فردية أو بالتعاون مع الجيش الأمريكي.
سيناريو متشائم
نشرت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية- أمان، تقدير موقف جديداً مفاده أن خطر اندلاع حرب واسعة في تزايد، وأن احتمالية أن تجد إسرائيل نفسها في مواجهة حقيقية شاملة ازدادت بدرجة كبيرة في الأشهر الأخيرة.
هذا التقدير سائد لدى كبار ضباط الجيش ومتخذي القرارات في المستوى السياسي، بما يتعلق بالحرب التي قد تندلع عبر سلسلة مواجهات في ساحات مختلفة من شأنها أن تشتعل وتصل لحرب واسعة متعددة الجبهات، وهي ذاتها "العاصفة الكاملة" التي يتحدث عنها رجال الاستخبارات منذ بضعة أشهر، بحسب تقدير الموقف ذاته.
التصور العسكري الذي تطرحه إسرائيل لهذا السيناريو يتمثل بتعرضها لهجوم من جبهات عدة، أولها من لبنان، حيث حزب الله الذي يحوز آلاف عدة من الصواريخ الدقيقة والمسيّرات، وثانيها من سوريا مع وجود 17 مجموعة قتالية مسلحة تابعة لإيران، وثالثها في غزة حيث تحوز حماس صواريخ قادرة على تعطيل قواعد الجيش الإسرائيلي والقوات الجوية، وقبل ذلك وبعده القوة الإيرانية التي تدعم كل هذه الأطراف مجتمعة.
تتمثل المرحلة الأولى من هذا السيناريو بسقوط وابل من الصواريخ والطائرات بدون طيار من جميع الساحات المذكورة أعلاه معاً، التي تقدر أن مخزون صواريخ "القبة الحديدية" التي تحوزها إسرائيل سينفد خلال ساعتين إلى 3 ساعات من بدء هذا الهجوم الجوي.
أما المرحلة الثانية، فتتمثل بشنّ هجوم إلكتروني من تلك الجبهات على أنظمة البنية التحتية الإسرائيلية، مثل محطات الكهرباء والحوسبة والاتصالات والطرق والمياه، الأمر الذي سيسفر عنه حالة من الشلل في مرافق الدولة بصورة تضرّ بها فعلياً.
تبدأ المرحلة الثالثة بهجوم بري منسّق من لبنان وسوريا وغزة بواسطة المشاة والقوات الخيالة على دراجات نارية ومركبات رباعية الدفع ومجهزة بأسلحة مضادة للدبابات، ويهاجمون القوات البرية الإسرائيلية لوصول المستوطنات اليهودية في أسرع وقت ممكن.
في حين أن المرحلة الرابعة تتمثل بما سيقوم به فلسطينيو الضفة الغربية لاستهداف الجيش والمستوطنين، فيما يقوم فلسطينيو 48 في الجليل والنقب بإغلاق الطرق، وضرب الجسور، وتسريب النفط على الطرق، وإتلاف خطوط الضغط العالي.
قدرات الجبهات
على صعيد القدرات العسكرية للجيش السوري، تتحدث المحافل الإسرائيلية أنه يستند إلى إمكانيات في العمليات، والاستخبارات، واللوجستيات، والهندسة، والمراقبة، والمدفعية، وجمع المعلومات الاستخبارية، وتطوير القوة النارية كالمدفعية وقذائف الهاون، ومعظم مصادرها من دول الكتلة السوفييتية السابقة، وقد أصبحت أجزاء كبيرة من معدات القتال البرية قديمة، وهي في خدمة الجيش من حقبة الحرب الباردة.
بلغة الأرقام الإسرائيلية، يحوز الجيش السوري عشرة آلاف مركبة قتالية مصفحة، وخمسة آلاف دبابة قتالية، و1100 مركبة دورية مصفحة، و2900 ناقلة جنود مدرعة قتالية، و1850 ناقلة جنود مدرعة، وعلى صعيد المدفعية لديها قرابة خمسة آلاف قطعة، وتشمل بنادق ميدانية وقذائف هاون مقطوعة ومدافع هاوتزر بأقطار مختلفة، و1100 مركبة مدفعية متحركة، بجانب قرابة سبعة آلاف من أنظمة الأسلحة المضادة للدبابات، وخمس مئة مدفعية صاروخية متعددة المدافع، و4 آلاف من أنظمة صواريخ أرض-جو، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الجيش السوري فقد كثيراً من معدّاته خلال السنوات العشر الماضية بسبب الأزمة الداخلية.
عند الحديث الإسرائيلي عن الإمكانيات القتالية لحزب الله، فقد عززها منذ حرب لبنان الثانية 2006، ما سيجعل الحرب القادمة معه صعبة، حيث يحوز قوة مدرعة ومدفعية ووحدات النخبة والدراجات النارية، وتشكل رأس الحربة لقوته العسكرية، لاسيما المدفعية ذاتية الدفع، بما فيها مدافع مضادة للطائرات 100 مللم، وأخرى محمولة على أنظمة صواريخ SA-6 أرض-جو، وقاذفات صواريخ 302 مللم قادرة على الوصول نطاقات 90-180 كم، ومدافع من نوع 122 مللم ومضادة للطائرات، بجانب شاحنات بأربع عجلات يتم تركيب صواريخ كورنيت المضادة للدبابات عليها.
كما يحوز الحزب، وفق التقديرات الإسرائيلية، على ترسانة الصواريخ الأكبر من حيث الكمية، والمحدثة من حيث الجودة، وبعد أن قُدرت في 2006 بأكثر من عشرين ألف صاروخ، فقد ارتفعت في 2012 إلى 60 ألفا، وتقدر حالياً بأكثر من 130 ألف صاروخ، كما لديه مئات الصواريخ الدقيقة التي تهدد تمركز الإسرائيليين، ومواقع استراتيجية في معظم أنحاء إسرائيل، بما في ذلك الجبهة الجنوبية.
في الوقت ذاته، فإن الحزب لديه وحدات متخصصة باختطاف الجنود، وتطوير القدرات الباليستية، وتطوير القوة الجوية، والمخابئ تحت الأرض في جنوب لبنان، حيث يمتلك ترسانة كبيرة من الأسلحة التي تصله عبر الحدود السورية اللبنانية بطول 359 كم، واليوم لديه وحدة خاصة لكل نوع من أنواع العمليات، كالوحدات المتخصصة في إطلاق الصواريخ المضادة للدبابات.
على صعيد القوة البشرية، يبلغ عدد جيش الحزب 10 آلاف مقاتل، بعضهم بدوام كامل، والآخر في الاحتياطيات، ويقدّر البعض أن العدد يصل عشرين ألفاً، مقسمين إلى ألوية ديناميكية عدة، قوام كل منها ألف مقاتل، مسلحون بالقوابض والرشاشات والقنابل اليدوية وجميع المعدات القياسية التي يحتاجها مقاتل المشاة، قاموا ببناء تشكيلات محصنة جيداً تقع في مناطق شجرية كثيفة يصعب محاربتها، يمكن العثور فيها على قاذفات وصواريخ، وكل ذلك وفق التقديرات الإسرائيلية.
على صعيد القوة العسكرية لحركة حماس في قطاع غزة، تزعم الأوساط الإسرائيلية أن لديها قرابة 50 ألف مقاتل، لديهم 14 ألف صاروخ، منها العشرات بعيدة المدى، و7 آلاف من قذائف الهاون التي تطلقها تجاه المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع، وبضعة آلاف من الصواريخ القياسية الأخرى، لاسيما الروسية المحسّنة، ويصل مداها من 20-45 كم، ولديها بضع عشرات أو مئات الصواريخ بمدى أطول من 80-160 كم، وأخرى بمدى يصل 200 كم.
تبدي المحافل الإسرائيلية قلقها من أن هذه القدرات الصاروخية لدى حماس قادرة على استهداف مدينتي القدس وتل أبيب، وتهديد الشريط الساحلي الذي يضم أكبر كثافة سكانية في إسرائيل، والبنية التحتية الحيوية بأكملها، بجانب مجموعة صواريخ بها العديد من قاذفات القنابل، الأكثر تنظيماً وإخفاءً، بجانب الطائرات بدون طيار، والصواريخ المضادة للطائرات على الكتف، وقدرات التسلل من البحر.
النتائج المتوقعة
كشفت أحداث الأيام الأخيرة المتمثلة بإطلاق عشرات الصواريخ من جبهات غزة ولبنان وسوريا أن التخوف الذي دأبت إسرائيل على التحذير منه في السنوات السابقة بات واقعاً ماثلاً ضمن مفردة "الجبهات المتعددة"، جنوباً مع قطاع غزة، وشمالاً مع لبنان، وعلى الحدود الشمالية الشرقية مع سوريا، فضلاً عن القلب منها في الضفة الغربية.
يتركز التخوف الإسرائيلي من اندلاع "حرب الشمال الأولى" أو "حرب لبنان الثالثة"، التي ستنخرط فيها لبنان وسوريا معاً، في حين أن قراءة هذه الحرب متعددة الجبهات تنطلق من مرحلتين: الأولى صاخبة وفورية ضد المقاومة في غزة، والثانية هادئة وطويلة الأمد في لبنان، وفي كلاهما ستتكبد إسرائيل إثرهما أثماناً باهظة مكلفة.
كشفت الآونة الأخيرة عن جهود إسرائيلية حثيثة للعمل في كل الجبهات في الوقت ذاته، لاسيما مواجهة عمليات نقل الأسلحة، واستهداف مراكز إنتاج الذخائر في المنطقة بأسرها، من غزة إلى إيران عبر العراق بزعم منع ترسيخ الوجود الإيراني، والحيلولة دون تسليح المنظمات المسلحة المعادية لإسرائيل في جميع أنحاء المنطقة، ما يتطلب موارد هائلة من جيشها، واهتماماً استخباراتياً غير عادي من أجهزتها الأمنية، كونها تواجه تحديات لمواجهة ساحات قريبة وبعيدة معاً، وتستدعي تقديم معلومات استخباراتية في الوقت الفعلي، بجانب القدرة العملياتية على العمل العسكري.
بالتزامن مع هذه المخاوف الإسرائيلية من اندلاع حرب متعددة الجبهات، يجري جيشها مزيداً من التعاون متعدد الأسلحة البرية والجوية والبحرية والاستخبارات، مع أن التحدي الجديد الذي يثير قلق الجيش الإسرائيلي هو محاولة إيران إنشاء طريق جديد لنقل الأسلحة عبر الرحلات الجوية المباشرة من طهران إلى لبنان، عقب عرقلة محاولاتها لتهريب الأسلحة إلى سوريا، ومنها إلى حزب الله في لبنان، بعد التهديد بمهاجمة مطار بيروت، مثل مطاري دمشق وحلب.
تتحدث المحافل العسكرية الإسرائيلية عن أن الاستعداد الذي يجريه الجيش للحرب متعددة الجبهات، يصل إلى حدود التزود بمزيد من الطائرات المقاتلة، وكثافة في التحصينات والتخزين العسكري للذخائر، وتجهيز وإعداد قواتها الاحتياطية البرية، وتبني مفهوم إخلاء المستوطنات كجزء من مفهومه الأمني الشامل.
المناورات المضادة
فيما تتحسب إسرائيل لمواجهة معركة قاسية مع واحدة من الجبهات المحيطة بها، شمالاً وشرقاً وجنوباً، أو معها مجتمعة، تخرج تقديرات متفاوتة بين حين وآخر تتحدث عن الخشية من أن تتركز الضربات في منطقة "غوش دان" في تل أبيب، وتوقع إصابات عديدة، وأضرار هائلة.
من بين المواقع التي يقدر الإسرائيليون أنها ستصاب بأضرار فادحة في المعركة المرتقبة المستودعات الاستراتيجية، والمواقع العسكرية للجيش، ومرافق البنى التحتية، على أن يكون مصدرها من عدة مواقع هي: الجنوب اللبناني، وقطاع غزة، والجولان السوري المحتل، رغم قدرتها على الردع الصاروخي.
ويتخوف الجيش الإسرائيلي من إمكانية قدرته على حماية الشريط الساحلي الضيق من حدود نتانيا إلى كفار سابا.
تمثلت المواجهة الاسرائيلية لمثل هذا السيناريو في جملة من الإجراءات العسكرية والعملياتية، لعل أهمها خوض الجيشين الإسرائيلي والأمريكي تدريبات عسكرية غير تقليدية تقوم على هذه الفرضية، بمشاركة مئات الضباط من الجانبين لفحص مدى جاهزية العمل خلال وقت قصير، مستنداً إلى تعرّضها لهجوم من سوريا ولبنان وغزة في آن واحد معاً.
مع العلم أن مثل هذه التدريبات فحصت الترتيبات والتنسيقات الاستخبارية والعملياتية واللوجستية، بحيث تكون القوات الأمريكية أسرع في الانضمام لتوفير الغطاء الجوي اللازم للأجواء الإسرائيلية خلال وقت قصير جداً، لا يتجاوز يوماً أو يومين من خلال نصب بطاريات باتريوت لصدّ الصواريخ المعادية.
تضمن كذلك جزءٌ من هذه المناورات سيناريوهات تتجاوز الحدود الإسرائيلية، بحيث تتم الاستعانة بحاملات طائرات أمريكية للدفاع عنها، حتى لو كانت بعيدة عن حدودها الجغرافية، في البحار أو المحيطات، والاستعانة بطائرات أمريكية مسيَّرة من دون طيار؛ لأن معظم الجبهات المحيطة بإسرائيل باتت شبه متفجرة، بانتظار الصاعق الذي قد يشعلها.
مثل هذه المناورات المشتركة تأتي لمواجهة السيناريو القائم على فرضية مواجهة عسكرية شاملة، بحيث لن تكون إسرائيل أمام جبهة واحدة انفرادية، بل قد تجد نفسها أمام "حرب الكل"، ما يعني أن الجبهات مجتمعة ستكون سلسلة متكاملة، بحيث لا يمكن فصل غزة عن لبنان عن سوريا، بهدف منع إسرائيل من الاستفراد بأي جبهة على حدة، تحقيقاً لسياسة تقاطع النيران، وتوحيد الجبهات، ما قد يمنح هذه المواجهة طابعاً إقليميّاً.
الحرب المتعددة الجبهات بات واضحاً أنها تمثل التهديد الأكثر تجسيداً أمام إسرائيل خلال الفترة القادمة، لأنها ستكون أمام مواجهة مختلفة عن سابقاتها، يتطلب منها الاستعداد لها.
ورغم الاستعدادات الإسرائيلية منذ سنوات لهذا السيناريو بمختلف النواحي: عسكرياً، واقتصادياً، وتكنولوجياً، واستخبارياً، لكن الاحتلال رغم كل ذلك يبدو حساساً من أي مواجهة عسكرية قد تندلع وتتطور إلى حرب شاملة، ما سيدفع جبهتها الداخلية لمواجهة واقع لم تشهده من قبل في تاريخها.