في تلك الليلة لم يستطع الرجال في نادي الشطرنج أن يفهموا كيف استطاعت طفلة تبلغ من العمر 4 سنوات فقط، التغلب عليهم بكل سهولة رغم سنها الصغير، لأنهم قبل قليل كانوا يسخرون من فكرة أنها يمكن أن تستوعب قوانين اللعبة أصلاً، فكيف بهزيمتهم! لكن ما لم يعلمه أحد منهم، أنهم أمام طفل عبقري غير اعتيادي.
تلك الطفلة كانت "سوزان بولغار"، والرجل الذي رافقها لهذا المكان هو والدها لازلو بولغار، عالم النفس التربوي، والذي أخذ على عاتقه إثبات أنه يمكنك تحويل أي طفل إلى عبقري، وأن التدريب يمكن أن يتفوق على الموهبة. فيما أصبح يعرف لاحقاً بـ"تجربة لازلو بولغار"، التي حولت بناته الثلاث إلى "ملكات الشطرنج". ونابغات في مجالات عدة.
لازلو بولغار ونظرية الذكاء المكتسب
خلال الستينيات كان عالم النفس التربوي "لازلو بولغار" مولعاً بفهم العباقرة. لقد درس أكثر من 400 شخصية معروفة عبر التاريخ، وقام بتحليل الأنماط وطريقة حياتهم التي جعلتهم عباقرة. تضمنت دراسته أشخاصاً يتمتعون بأعلى مستويات الذكاء من سقراط إلى أينشتاين. لاحظ "بولغار" أن جميعهم بدأوا في سن مبكرة للغاية ومارسوا مهاراتهم بشكل مكثف.
فقدم نظريته عن الذكاء المكتسب، ومفادها أن "الفنانين والعلماء والعباقرة يُصنعون ولا يولدون". وأن الذكاء مكتسب وليس بالفطرة أو الوراثة، وأن نظام المدارس العامة، مصمم لإنتاج عقول متواضعة.
كما أكد أن أي طفل لديه القدرة الفطرية ليصبح عبقرياً في أي مجال يتم اختياره، مادام التعليم يبدأ قبل بلوغ سن الثالثة والتخصص في سن السادسة. وأنه شخصياً لديه الطريقة لتحويل أي طفل إلى عبقري.
لكن عندما حاول شرح نواياه، لم يوافقه أحد في نظريته لأنه لا يوجد عليها دليل علمي، ولا يوجد من هو مستعد لجعل طفله حقل تجارب. لكن "لازلو بولغار" بقي متمسكاً برأيه، وجعل هدف حياته تأكيد نظريته.
فكان عليه أن يجد امرأة توافق على فكرته تلك، ويجعل من أطفاله مواضيع تجربته الخاصة لإنتاج طفل عبقري.
فكانت تلك المرأة هي مدرسة لغة أوكرانية تدعى كلارا. ربطته بها علاقة غرامية، وكان يراسلها دائماً، ولم تكن رسائله تلك مليئة بكلمات الغرام أو عهود الحب الأبدي. بدلاً من ذلك، قاموا بتفصيل التجربة التي عليهم تنفيذها مع نسلهم المستقبلي. وأثارت خطة لازلو إعجاب كلارا، وسرعان ما تزوج الاثنان.
بنات "لازلو بولغار" "ملكات الشطرنج"
عام 1969 ولدت طفلتهما الأولى "سوزان"، وعندما بلغت 4 سنوات من العمر، بدأت تجربة الذكاء المكتسب. وقرر لازلو بولغار وزوجته، أن تعليم سوزان المدرسي سيكون في المنزل، وقررا تعليمها الألمانية والروسية والإنجليزية والرياضيات عالية المستوى والشطرنج.
سبب اختيارهما الشطرنج أنه كان له هدف وترتيب واضح للمتفوقين فيه. على عكس مجالات أخرى مثل الكتابة أو التمثيل أو الرسم، التي يمكن للناس أن يناقشوا ما إذا كان الشخص عبقرياً حقاً أم لا. بينما في نظام تصنيف الشطرنج يمكن تحديد ما إذا كان الشخص هو أفضل لاعب في العالم أم لا.
كانت سوزان مدمنة على اللعبة وتمارسها بشكل مكثف كل يوم لساعات. وفي سن 4 سنوات كانت تتغلب على والدها، فقرر والدها أن تشارك في مسابقة محلية للشطرنج، حيث كان معظم المشاركين أكثر من ضعف عمرها.
في سن الخامسة، تغلبت سوزان على جميع خصومها بالفوز بالبطولة بنتيجة 10-0. في بطولة أخرى، حيث كان المشاركون من البالغين، كان الناس يمزحون حول مشاركة سوزان بالقول إنها بالكاد تستطيع الوصول إلى الطاولة، فازت سوزان على العديد منهم ما جعلهم يتراجعون عن كلامهم.
بعد سوزان أنجبت "كلارا" و"لازلو فولغار" ابنتين هما "صوفيا" و"جوديت"، وكانت حياتهما لا تختلف عن حياة شقيقتهما الكبرى، خضع الأطفال الثلاثة لبرنامج تدريبي صارم للغاية من 6-8 ساعات في اليوم، شمل العديد من المجالات، ومع ذلك، فإن مجال خبرتهم الرئيسي كان الشطرنج.
الطريق لإثبات تفوق بنات بولغار أمام العالم
بعد عدة سنوات، وعندما كانت بنات بولغار لم يتجاوزن سن المراهقة، قرر والدهن أنه حان وقت مشاركتهن في المسابقات العالمية، لكن كانت هناك مشكلة.
أراد الاتحاد المجري للشطرنج أن تلعب الفتيات في دوري النساء، وهو ما عارضه والدهن. جادل "لازلو بولغار" بأنه يمكن أن يثبت أن فتياته هن الأفضل فقط من خلال منافسة الأفضل في اللعبة، ما يعني الرجال.
فمن بين 950 حاملاً للقب في العالم لم يكن هناك سوى 11 أنثى فقط، بينما كان البقية من الرجال، وأصبح الخلاف مع اتحاد الشطرنج مريراً، ورفضت الحكومة السماح لعائلته بالسفر إلى البطولات.
في النهاية وافق بولغار على أن تمثل فتياته فريق المجر في أولمبياد الشطرنج للسيدات في اليونان. عام 1988، ضمن بطولة الشطرنج الدولية الكبرى التي تقام كل عامين، والتي كان الاتحاد السوفييتي يهمين على الألقاب في اللعبة حتى ذلك الحين.
يتم تمثيل كل دولة بأربعة لاعبين، وضم فريق المجر الأخوات بولغار الثلاثة. كانت جوديت تبلغ من العمر 12 عاماً. وللمرة الأولى، تغلبت المجر على السوفييت وفازت بالأولمبياد، وهو إنجاز أثار إعجاب الحكومة المجرية وصدم عالم الشطرنج.
أصبحت عائلة فولغار محط اهتمام الحكومة، ولم يعد لديهم مشكلة في الحصول على المال والتأشيرات والسفر.
6 لغات وإنجازات ليس لها مثيل نتيجة تجربة "لازلو فولغار" والذكاء المكتسب
مع مرور السنين، تحولت سوزان الابنة الكبرى إلى لاعبة شطرنج خبيرة. وبحلول عام 1984، وعندما كان عمرها 15 عاماً فقط أصبحت لاعبة الشطرنج الأعلى تصنيفاً في العالم. وكانت أول امرأة تتأهل لبطولة العالم للرجال في عام 1986.
واصلت سوزان تحقيق الألقاب المنشودة في بطولات العالم. عام 1991 أصبحت أول امرأة في التاريخ تفوز بلقب الشطرنج الثلاثي. وفي سن 23 عاماً، كانت تتحدث 7 لغات، وأول امرأة على الإطلاق تحصل على لقب "Grandmaster"، أو "الأستاذ الكبير"، وهو لقب الاتحاد العالمي للشطرنج للاعبين المتميزين، من ضمن 11 امرأة فقط في العالم ممن يحملن لقب الأستاذ الكبير.
أما الابنة الوسطى صوفيا، فلم تختلف كثيراً عن شقيقتها، وفازت بالعديد من البطولات والميداليات، وكانت تتحدث 4 لغات.
وفي سن 14 عاماً تفوقت على العديد من حاملي الألقاب في لعبة الشطرنج، في بطولة أقيمت في روما. وصنف الخبراء أداء صوفيا في البطولة على أنه خامس أفضل أداء على الإطلاق في تاريخ الشطرنج.
أما جوديت الابنة الصغرى، فهي أيضاً تتحدث 4 لغات، أما جوائزها وانتصاراتها في لعبة الشطرنج أكثر من أن تُسرد أو تحصى.
فهي تحتل المرتبة الأولى في التصنيف العالمي، وثامن لاعبة في العالم، وحققت الفوز عام 2002 في مباراة على بطل العالم وحامل اللقب "غاري كاسباروف".
وكانت جوديت تخوض بعض المباريات ضد منافسيها وهي مغمضة العينين، أو تنافس عدة أشخاص في وقت واحد، والأسرع في تحقيق لقب الأستاذ الكبير، بما في ذلك الرجال والنساء، في سن 15 عاماً و4 أشهر. وفي سن 12 عاماً فقط أصبحت أصغر لاعبة تدخل ضمن أفضل 100 لاعبة في العالم. ولا تزال بعض أرقامها القياسية لم تكسر حتى اليوم.
وهي المرأة الوحيدة التي فازت على المصنفة الأولى عالمياً. ولم تتأهل أي امرأة أخرى باستثناء جوديت لبطولة العالم. وهي المرأة الوحيدة التي تجاوزت 2700 نقطة من نقاط "Elo" التي تقيس مستويات المهارة النسبية للاعبين.
تجربة وحشية أم وصفة ناجحة لصنع طفل عبقري
للبعض قد تبدو تلك التجربة وحشية، وحرمت الفتيات الثلاث من طفولتهن، وأجبرتهن على العيش ضمن قوقعة من الدروس والتعليم والتدريب والبطولات، لكن بالنسبة للفتيات أنفسهن فالحياة كانت ممتعة.
في لقاء صحفي قالت سوزان عن طفولتها: "لم يكن لدي الكثير من الوقت لحياتي الخاصة، وبالطبع كان الأمر مختلفاً عن حياة الأطفال الآخرين، ولكن هذه هي الطريقة التي تعلمنا بها عن العالم. لقد سافرنا إلى 35 دولة (لبطولات الشطرنج). وهذه فرصة لا يحصل عليها الأطفال الآخرون".
وبالنسبة للمقربين من العائلة، قام الزوجان بعمل رائع؛ لقد كرسا طاقتهما وحياتهما حقاً لهذه المهمة وكوَّنا عائلة محبة.
أما لازلو بولغار فبعد كل هذه السنوات خلص إلى أن نتيجة تجربته: "المفتاح لتحقيق النجاح هو العمل الشاق، والعمل الشاق يخلق الحظ؛ والعمل زائد الحظ يساوي العبقرية؛ وعلى الأرجح فإن العبقري أكثر ميلاً للسعادة".
وصرح بولغار في عام 1993: "يمكن حل مشاكل السرطان والإيدز بسهولة أكبر إذا تم استخدام نظامنا لتعليم 1000 طفل". وحاول تكرار تجربته مرة أخرى وتبني 3 أطفال ليصنع منهم عباقرة، لكن زوجته رفضت لأنها لم تكن مستعدة للمجهود نفسه مرة أخرى، وبالنسبة إلى تجربته تقول زوجته: "كل شيء وعد به قد تحقق".