يسعى الدين الإسلامي إلى السمو بالروح الإنسانية؛ لذا ينطلق الدين من داخل الفرد فيحثه على الطاعة والعبادة، ويرسم له طريق السعادة، ويضع في نفسه النظام الاجتماعي الذي يمده بمعنى الحياة. وبالنظام الاجتماعي يتحقق مفهوم الفضيلة والأخلاق والإنسانية.
فالإنسان؛ إذاً هو الخطوة الأهم لبناء وتأسيس النظام الاجتماعي، فتكون الفضيلة من روابط الرحمة بين المجتمع في ظل الإنسانية، ويحيط بذلك كله الضمير الذي يتم تعزيزه في العبادة والطاعة، ومن ذلك كله يولد الفرد المسلم بضمير يمكنه من تحقق فكرة الاجتماع.
لقد بين النظام الاجتماعي المتمسك بالفضيلة والأخلاق، يمارس الفرد دوره الاجتماعي؛ ويعزز الدين مفاهيم الفضيلة والأخلاق بالذات الإنسانية، فتكون معاني الضمير الإنساني موجودة عملياً في كل العبادات، وبها يكون الاجتماع مترابطاً ويحكمه الدين والنظام.
وتبقى مسألة الفقر من المعاني الإنسانية التي تستدعي حقيقة الإنسان، وتظل صورة الفقراء هي أداة الرحمة وصوت الضمير، الذي يفصل العقل عن الحيوانية ويمده بالإنسانية، فيتفاعل به هنا، بيد أن الفقر يقابله الغنى ومن وراء ذلك يوجد الفقراء والمساكين.
لم يكن الأدب الإنساني إلا مرآة إنسانية تنعكس فيها حياة الإنسان، وليست اللغة الأدبية إلا صوت الضمير الذي يحرك حواس الإنسان، وينقل إليها دمعة الفقراء ومعاناة المساكين في هذه الحياة البائسة؛ بالرغم من تناقضاتها تطرح الأسئلة الوجودية بحثاً عن الأجوبة.
تساؤلات دوستويفسكي عن حياة الإنسان
في ظل الحداثة والاغتراب والتشيؤ وهروب الإنسان من الريف إلى المدينة، يطرح دوستويفسكي كل تساؤلاته عن حياة الإنسان، ويعيد النظر في حقيقة التناقضات المتعلقة بالمدينة، ويحلل الإنسان تحليلاً نفسياً، ويكشف الغطاء عن المعاناة الإنسانية ومعاني الفقر.
يعيد دوستويفسكي النظر في طبيعة المال والسلطة، وكيف يُغيّر المال الإنسان، وفي هذا الاتجاه يأخذ دوستويفسكي فلسفته الأدبية، ويفكك بها نمط الإنسان المعاصر وحياته المدنية المقتصرة كلها على المال والعمل، ويوضح أن الحياة المدنية لم تعد قائمة على القيم النبيلة فحسب، بل أصبحت منحسرة في شكلها الظاهري للإنسان، ومن خلال المظهر الخارجي تتضح طبقة الفرد الاجتماعية، فهي التي تمنحه الاحترام.
بهذا لا يتجاوز الإنسان المدني الذي يعيش في المدينة الشكل الخارجي، دون التأمل في الإنسان من الداخل؛ لأن الثقافة المدنية غيّرت مفاهيمه، فلم تعد الأخلاق والفضيلة يقاس بهما الإنسان، بل المال هو الذي يعطي المكانة المرموقة داخل الحياة الاجتماعية.
فكلما امتلك الإنسان مالاً في مجتمع الحداثة استطاع أن يكون من النبلاء، وبالطبع المال سيمنحه التقدير والاحترام في مجتمع الحداثة.
فيحلل دوستويفسكي طبيعة النظام الرأسمالي بمجتمع الحداثة، وينطلق من البرجوازيين الصغار ملاك العقار، ويجسد جشعهم، ويشرح بدقة العلاقة التبادلية القائمة على المنفعة المادية والمال، ويتوقف عند أدق التفاصيل الإنسانية التي لا ينظر لها مجتمع الحداثة، ويقارن من خلال الملابس بين الذات الإنسانية من الداخل، متمثلة بالنظرة البرجوازية القاسية للشكل الخارجي دون الداخلي.
إن الحداثة قد أقصت الإنسان الفقير من الحياة، وكأن مجتمع الحداثة الغني لم يعد يعطي قيمة للفقير، وكأن النظام الرأسمالي قام بتهميش الفقراء، ولم يعد للفقراء أي دور داخل مجتمع الحداثة. الذي يبحث عن وفرة الحياة واللباس الأنيق والحياة المثالية فقط!
وهنا يحاول دوستويفسكي أن يعطي قيمة أدبية داخل النص ويتوقف عند الفقراء ويشرح بدقة الفقر المدقع الذي يعيشون فيه، وهنا تكمن عبقرية دوستويفسكي وتحليله للجانب الإنساني المرتبط بحياة كل فقير، حتى الشوارع كان يسخر منها وينتقد المدنية والحداثة فلسفياً.
تلك هي النزعة الإنسانية التي يشعر بها القارئ عندما يقرأ نص دوستويفسكي، إذ يغوص النص في عمق الإنسان ويساند الفقراء وينقل بألم أحزانهم، فيشعر القارئ بكآبة الفقراء داخل هذا النص، وكأن الرواية ليست إلا صورة سوداء لحياة الفقراء وأيامهم البائسة.
من خلال الشخصيات الرئيسة تحدث دوستويفسكي عن الفقر والحزن، وعن آلام الإنسان وأحزانه، ذلك الإنسان المهمش بالمدينة.
الرافعي والفقراء
كان مصطفى صادق الرافعي يعبّر عن الفقراء، ولكن بصوت الروح، ويتحدث باسمهم، وينسج الرافعي مادته الإنسانية من الرحمة الإلهية، ويعالج مسألة الفقر؛ ويحلل بأسلوب بياني حقيقة الفقر وإشكالية الفقراء إنسانياً.
بطابع إسلامي يعالج الرافعي موضوع الفقر والفقراء، وبأسلوب أدبي يقدم الرافعي تصوراته وفلسفته الاجتماعية عن المساكين، ولكن الرافعي يعيد مسألة الفقر إلى الوهم الإنساني وغياب الضمير والرحمة، وبهذا الاتجاه يؤكد الرافعي على فكرة الدين والإنسانية.
لا يمكن فصل الدين عن الإنسانية، إذ الدين يعزز الفضيلة التي بدورها تستدعي الرحمة، وبها يكون التكافل الاجتماعي تحت غطاء الإنسانية، فالقانون يفضي إلى العدالة والعلم يستدعي العقل والضمير الإنساني يولد منه الأدب الذي يجمع بين العدالة والعقل.
شخصيات رواية المساكين لـ دوستويفسكي
من خلال أبطال رواية المساكين ناقش دوستويفسكي مسألة الفقر، ومن خلال معاناة أبطال الرواية تعمق دوستويفسكي في معاني الفقر، وانتقد الحياة المدنية القائمة على المال الذي يعطي للإنسان القيمة، وبدونه يسلب منه حق الإنسانية والفضيلة والأخلاق والاحترام.
شخصية "فارفارا أليكسفنا" في رواية "المساكين" تجعل القارئ يتأمل في حقيقة الحزن على وجه الحسناء، وكيف تكون الحياة قاسية مع أكثر الناس تديناً وأخلاقاً وجمالاً، فلم تولد "فارفارا" إلا لتكون أداة الأخلاق والإنسانية.
ومع شخصية "باكار أليكسفيتش" نستشعر بالإنسانية وبالرحمة الإلهية. وكيف يبحث الإنسان عن سبل سعادة الآخرين والشعور بآلام الإنسان، والتأمل في أدق التفاصيل وإعادة النظر فيها، فيتضح من ذلك كيف غيّرت دمعة غورشكوف طبيعة النص الأدبي وجعلته راقياً وإنسانياً.
لم تكن الحياة عادلة مع "فارفارا"، وبالطبع لم تكن الحياة منصفة لـ"ماكار". ومن دمعة "غورشكوف" نفهم فلسفة الحزن، وعلى وجه فارفارا تولد الإنسانية في أجمل صورة وأحسنها، ومع براءة وجه "بوكروفسكي" وثقافته نفهم تناقضات الحداثة والبرجوازية الظالمة.
النزعة الإنسانية في كتاب المساكين لـ الرافعي
"هذا كتاب المساكين فمن لم يكن مسكيناً لا يقرؤه؛ لأنه لن يفهمه، ومن كان مسكيناً فحسبي به قارئاً والسلام" بهذه الكلمات بدأ الرافعي كتابه الذي يعالج فيه الفقر ويحلل فيه معاناة المساكين من فلسفة لها طابع ديني وآخر بياني، ومن البلاغة والأدب ينسج الرافعي مادة الإنسانية في قالب رفيع من البيان والحكمة على لسان الشيخ علي.
الشيخ علي في حقيقته ليس إلا رجلاً حقيقياً استوحى منه الرافعي فلسفة المساكين، وعلى لسانه قدّم الرافعي رؤيته الإنسانية والأدبية، فقام بتحليل الفقر وربط بين الفقر من جهة والغنى من ناحية أخرى، فالأغنياء لهم ضمائر ميتة، بينما الفقراء يعيشون تحت أوهام الفقر.
من ألم الفقر ووهم المال يؤكد الرافعي على موت الضمير داخل الأغنياء ويحلل نفسية البخلاء والعلاقة بينها وبين حب المال من جهة، ومن جهة أخرى ضررها الاجتماعي في عدم الشعور بالفقير، فينسج شخصية المسكينة وهي تتوسل بدموعها على عتبة الأغنياء.
في شخصيات دوستويفسكي تظهر النزعة الإنسانية على وجوه الفقراء، وفي هذه الرواية يسافر بك الكاتب بعيداً إلى نفسية الفقراء، ويحلل بأسلوب أدبي أدق التفاصيل المتعلقة بحياة الإنسان الفقير، لتعيد بذلك بعض المفاهيم المتعلقة بالمجتمع والإنسان والإنسانية، ولكن بطابع مسيحي ونزعة وجودية ذات بُعدٍ أدبي وفلسفي رصين.
بينما الرافعي يقدم بين يديك معاني الفقر والغنى بطابع إسلامي، مقيداً بالطاعة والحب الذي تتحقق من خلاله العدالة ويحكمه العقل، ويجمع بينه وبين الأدب الذي يفرض الإنسانية على قلب المؤمنين. وهنا نستشعر بمعاني الفقر والفقراء وبمرآة الأدب، ولكن بعمل أدبي إسلامي، وآخر مسيحي، فتتحقق الإنسانية بطابع عالمي وأدبي رقيق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.