كانت مملكة داهومي واحدة من الممالك القديمة (تُعرف اليوم بجمهورية بنين)، التي ظهرت في غرب إفريقيا، خلال الربع الثاني من القرن السابع عشر.
كانت في بدايتها خاضعة لحكم ألادا، وحصلت على استقلالها عام 1715، قبل أن تخضع للاستعمار الفرنسي. وفي عام 1904، أصبحت المملكة مستعمرة فرنسية، فكانت جزءاً من الحكومة العامة لمنطقة غرب إفريقيا الفرنسية.
وخلال الفترة الممتدة من بداية القرن 17 إلى بداية القرن 19، كانت مملكة داهومي أقوى دولة في غرب إفريقيا، والوحيدة في المنطقة التي عجزت القوى الاستعمارية الكبرى عن احتلالها.
لكن في العام 1894، نجحت فرنسا بأن تستولي عليها رسمياً، بعد مقاومةٍ شرسة من آخر ملوكها الأحرار، "بيهانزين" -المُلقّب بـ"الملك القرش"- والذي كان يقود بنفسه جيشاً ضخماً، من ضمنه 5 آلاف امرأة مقاتلة، أُطلق عليهن لاحقاً اسم "محاربات الأمازون".
من هو الملك بيهانزين.. وكيف نشأت مملكة داهومي؟
ولد عام 1844 تحت اسم "أهوكبونو" في مدينة "أبوميه"، عاصمة مملكة داهومي، ثم أصبح اسمه الأمير كوندو بداية من العام 1875، قبل أن يتحول إلى الملك بيهانزين لما ورث العرش عن والده الملك غليله.
ووفقاً للموسوعة البريطانية Britannica، فإن 3 إخوة تصارعوا على مملكة "ألادا" واستطاع أحدهم السيطرة على المملكة في حين هرب الأخوان الآخران. وقد أسّس أحدهما مملكة داهومي، التي سيطرت لاحقاً على منطقة دولة بنين الحالية على مدى ثلاثة قرون.
هاجمت داهومي في عهد الملك "أغاجا" مملكة "ألادا"، فاستولت عليها سنة 1724، كما استولت أيضاً على مملكة "ويداه" (ساحل المحيط الأطلسي)، والتي كانت أكبر مركز تجاري بحري في المنطقة.
وقد كانت تجارة الرق التجارة الأساسية في ذلك الوقت، بحيث يتم "تصدير العبيد" بالتنسيق مع الأوروبيين، على غرار البرتغاليين والإنجليز والهولنديين والفرنسيين.
بلغت مملكة داهومي أوج قوتها خلال عهد الملك غيزو (1818-1858) وغليله (1858-1889)، جدّ ووالد بيهانزين. وكانت عبارة عن دولةٍ عسكرية تعتمد على جيشٍ نظامي مُدرب تدريباً عالياً.
تميّزت مملكة داهومي منذ قيامها بجيشها المكوّن من النساء المحاربات، أبرزهن نساء أمازونيات داهومي، وقد شنّ ملوكها عدة غزوات ضدّ جيرانهم وتمكنوا من توسيع نطاق المملكة بشكلٍ ملحوظ.
جيش مملكة داهومي النسائي
شكلت مملكة داهومي قوة مهمة في القرن الـ18، وكوّنت جيشاً كبيراً. كانت البداية مع الملك الثالث لبلاد داهومي، هويجبادجا، الذي حكم من 1645 إلى عام 1685.
ويُقال إنه أسّس مجموعة حرسٍ شخصي له من النساء المتدربات على فنون القتل والحرب، التي تحوّلت فيما بعد إلى جيشٍ متكامل، لا يخشى المغامرة وخوض المعارك الخطرة.
ووفقاً لموقع BBC، فقد تمتعت كتيبة المحاربات في مملكة داهومي بالكثير من الشراسة والقسوة والمهارة في فن الحرب، حتى أطلَق عليها المستعمرون الأوروبيون أسماءً مختلفة، منها: "سباراتا السوداء" و"أمازونات داهومى" أو "محاربات الأمازون"، بسبب تشابهها مع أسطورة الأمازونيات المقاتلات في الأساطير اليونانية.
قاتلت "محاربات الأمازون" في الصفوف الأمامية لجيش داهومي، واشتهرن بالإقدام والشجاعة في المعارك التي خضنها، سواء خلال غاراتهن على القبائل المجاورة أو نضالهن ضد القوات الأوروبية.
في البداية، تطوّعت فتيات صغيرات (12 إلى 15 عاماً)، وتم اختيارهن بالقرعة. لكن حين زادت الحاجة إلى الجنديات، لجأت المملكة إلى السجينات اللواتي ارتكبن جرائم. ومنذ أوائل القرن الـ19، أعطى الملك غيزو طابعاً خاصاً للدولة، والتحقت "محاربات الأمازون" رسمياً بصفوف جيش داهومي في عهده.
تجارة العبيد.. الرئة الاقتصادية لمملكة داهومي
ويُمكن القول إن مملكة داهومي، وخلال فترة حكم الملك غيزو، امتلكت أكبر تاريخ مظلم في تجارة العبيد. فملايين من الإفريقيين السود اختُطفوا من بيوتهم وحقولهم على مدى مئات السنوات، وشُحنوا مثل البضائع إلى بلاد أوروبا وبعدها أمريكا، حيث بيعوا عبيداً.
عادت تجارة العبيد بالأموال الطائلة على الملوك، وكانت تشكل الدخل الأساسي لميزانية البلاد، وعلى رأسهم الملك غيزو الذي سلّم أبناء شعبه إلى الأوروبيين، مقابل الحصول على أسلحة، وأقمشة، ومشروبات.
إلى جانب ذلك، أجرى الملك غيزو خلال فترة ولايته -التي امتدت 40 عاماً- حملات تسجيل للمواطنين كل 3 سنوات، وأمرَ الداهوميين بتقديم بناتهم غير المتزوجات إليه من أجل إدخالهن في جيشه. فشكّل منهن فيالق منتخبة، ودرّبهن حتى برعن في القتال، وكانت قوتهن العضلية مدهشة.
قسّم الملك الجيش النسائي إلى عدة أفواج، وجدّد المعدات وأمدّهن بالأسلحة، كما وضع مبدأ التجنيد الإجباري، فتزايدت أعداد الجنديات بشكلٍ كبير. وتنقل ممثلو الملك من قرية إلى أخرى، ليختاروا أكثر الفتيات ملاءمة من الناحية الجسدية، وكان يجب أن يتميّزن بطول القامة والقوة والرشاقة، والأهم أن يكنّ في سن الشباب.
منح غيزو أهمية كبرى للجيش؛ رفع ميزانيته، وأضفى الطابع الرسمي على هيكله، ليشكل بذلك مملكة حقيقية لها جيشها المحارب الخاص، واقتصادها الحرّ من تجارة العبيد، التي أكسبته الأموال الطائلة.
لكن تلك القوة البرية القوية لم تكن كافية لمواجهة الحصار البحري الذي فرضته عليها بريطانيا في سنة 1852 قصد التخلي عن تجارة الرقيق بعد إلغاء نظام العبودية في معظم الدول الأوروبية.
فأصبحت تجارة زيت النخيل الرئيسية لمملكة داهومي، وقد بدأت المتاجرة به مع الفرنسيين أولاً منذ العام 1842، قبل أن تُبرم اتفاقية تجارية رسمية مع الحكومة الفرنسية في العام 1851.
توغل فرنسا بالمملكة من خلال زيت النخيل
كانت فرنسا تتخوف من إمكانية التوسع الاستعماري البريطاني في المنطقة، فأخضعت مملكة بورتو نوفو تحت حمايتها لفترة قصيرة من 1863 إلى 1865، ثم استعمرتها نهائياً في 1882.
كما فاوضت حكام مملكة داهومي للتنازل عن ميناء كوتونو المتواجد ما بين مدينتي ويداه وبورتو نوفو، ما أدى إلى إبرام اتفاقية يوم 19 أبريل/نيسان 1878 تنص على منح هذه الدولة الأوروبية حق الاستفادة من الرسوم الجمركية من السلع التي تمر عبر الميناء.
ويمكن القول إن تلك الاتفاقية كانت بمثابة السبب الرئيسي لاندلاع الحرب بين مملكة داهومي وفرنسا، التي استمرت من 1890 إلى 1894، وانتهت بانهيار المملكة ودخولها تحت نير الاستعمار الفرنسي.
وتقول بعض المراجع التاريخية إن فرنسا قد خانت عهدها بعدم التأثير على الثقافة المحلية للمنطقة، ما دفع بالملك غليله إلى شنّ غارات عسكرية على المراكز الفرنسية، كما هاجم بوتو نوفو وألحق عدة أضرار بالمصالح الفرنسية.
توفي غليله في ديسمبر/كانون الأول 1889، وتم تنصيب ابنه الأمير كوندو ملكاً جديداً على داهومي في يناير/كانون الثاني 1890، تحت اسم جديد وهو "الملك بيهانزين".
الملك بيهانزين أكثر شراسة من والده
كانت فرنسا تعتقد أن التغيير في داهومي سيخفف من حدة العداوة معها، لكن ما حصل هو العكس. فقد أعلن الملك بيهانزين عدم اعترافه باتفاقية عام 1878، وخاصة فيما يتعلق بالضرائب المُحصّلة لصالح الجانب الفرنسي.
استبقت فرنسا الأحداث وأرسلت تعزيزات عسكرية إلى مدينة كوتونو في 19 فبراير/شباط 1890، ولكن عدد الجنود لم يكن كافياً لإلحاق الهزيمة النهائية بجيش مملكة داهومي.
وبحسب موسوعة Universalis الفرنسية، فإن قوات الملك بيهانزين شنّت هجوماً قوياً في مارس/آذار على مدينة كوتونو، إلا أن القوات الاستعمارية نجحت في صدّه.
كما قاد الملك بنفسه جيشاً قوامه عدة آلاف محارب، لمحاصرة بورتو نوفو يوم 19 أبريل/نيسان، من دون أن يتمكن من اقتحام المدينة.
استطاعت قوات داهومي أن تأسر بعض الفرنسيين في مدينة ويداه وتقتادهم إلى عاصمة المملكة، فجرت مفاوضات بين ممثلي فرنسا والملك بيهانزين لتبادل هؤلاء الأسرى مع نظرائهم، من جنود داهومي المحتجزين لدى القوات الفرنسية.
وقد شكلت تلك المفاوضات فرصة للطرفين لإبرام اتفاق جديد بينهما يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 1890، سُمي بـ"اتفاقية ويداه"، التي تعترف بموجبها مملكة داهومي بخضوع بورتو نوفو تحت الحماية الفرنسية، مقابل دفع فرنسا قيمة مالية سنوية للمملكة.
ووفقاً لموقع Our Ancestories، فإن الملك بيهانزين كان له مبدأ رئيسي يسير فيه في الحياة وهو "سمك القرش الغاضب يُرهب عدوه"، كما كان رجلاً مقداماً لا يعرف الخوف، ويملك جيشاً كبيراً بتعداد 150 ألف محارب و5 آلاف مُحاربة.
وعلى الرغم من شراسة محاربي مملكة داهومي وكثرة عددهم، مقارنة بالجيش الفرنسي المتواجد في المنطقة، فقد كان الفرنسيون يفوقون محاربي داهومي من حيث العدّة ونوعية الأسلحة المستعملة، ما سمح بترجيح موازين القوى لمصلحته.
فنجحت القوات الفرنسية في صدّ قوات الملك بيهانزين بمدينة دوغبا، يوم 19 سبتمبر/أيلول 1892، ثم شنت هجوماً معاكساً؛ فعبرت وادي أويمي، ثم انتصرت في معركة بوكيسا يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول 1892.
خيانة شقيقه دفعته للاستسلام
واصل الجيش الفرنسي زحفه نحو أبوميه، فجمع الملك بيهانزين كل قواته دفاعاً عن مملكته، قبل أن يُهزم في المعركة الحاسمة التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 1892 على مشارف العاصمة داهومي.
ففي تلك المعركة، فقد الملك بيهانزين كل جنوده تقريباً، فقد تمثلت خسائر مملكة داهومي في ما يقارب 4 آلاف قتيل و8 آلاف جريح. فما كان من الملك إلا أن أشعل القصر الملكي بالنيران وهرب إلى مدينة "أتشريغبي" الغابية، من دون أن يسلّم سلاحه.
استمر الملك بيهانزين في مقاومته رافضاً الاستسلام، لكن خيانة شقيقه الأمير غوتشيلي أدت إلى سقوطه في النهاية.
ووفقاً لموقع Afrique Reveil، عيّن أعيان داهومي غوتشيلي ملكاً جديداً على المملكة بطلب من حكام فرنسا. وما كان من غوتشيلي إلا أن أخبر الفرنسيين بمكان اختباء شقيقه، الذي نجح رغم الوشاية في الهروب مجدّداً.
وهذه المرة كانت الوجهة مدينة "أكاجاكبا"، قبل أن يعلن الملك بيهانزين استسلامه رسمياً ويسلّم نفسه للنقيب الفرنسي بريفي الذي سلّمه إلى الجنرال دودس.
رفض الفرنسيون طلب الملك بيهانزين لقاء رئيس الجمهورية الفرنسية سادي كارنوت والتفاوض معه، بل تمّ نفيه -رفقة عائلته والمقربين منه- إلى جزيرة مارتينيك في بحر الأنتيل، يوم 30 مارس/آذار 1894.
عانى بيهانزين من المرض في جزيرة مارتينيك، وقدم عدة طلبات من أجل العودة إلى بلده، لكنها قوبلت بالرفض من قِبل الحكومة الفرنسية، التي اكتفت بنقله سنة 1906 إلى الجزائر التي كانت في ذلك الوقت مستعمرة فرنسية.
فعاش الملك بيهانزين الأيام الأخيرة من حياته تحت الإقامة الجبرية في مدينة البليدة بضواحي الجزائر العاصمة، حيث ازدادت حالته الصحية تدهوراً، قبل أن يُنقل إلى العاصمة، حيث توفي يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 1906.
ولا يزال مقر إقامة الملك بيهانزين موجوداً إلى الآن في مدينة البليدة، حيث أصبح مزاراً للكثير من البنينيين، خلال زيارتهم إلى الجزائر.