خصَّ الله -عز وجل- شهر رمضان بالكثير من الخصائص والفضائل، فهو شهر نزول القرآن، والجود والإحسان، وهو شهر التوبة والمغفرة والعتق من النيران، وفيه تُفتح أبواب الجنة وتُغلق أبواب النار وتُصفد الشياطين، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) رواه البخاري، ولذلك كان الشافعي يقول: "أُحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم".
وبين يدي الإقبال الكبير على العمل الخيري، والعطاء المجتمعي المتزايد في شهر رمضان، أقدم هذه التوجيهات العشر لرواد العمل الخيري والعاملين في مؤسساته بهذا الموسم:
- من المهم جداً التركيز على النوع بدل الكم، فلا يهم عدد العائلات المستفيدة؛ بل يهم كفاية الاحتياج وسدّه لدى أي مستفيد نصل إليه، فلا داعي للسلال الغذائية المليئة ببقايا المستودعات من البضائع الكاسدة، في حين ننتقي لموائد بيوتنا أجود الوجبات الرمضانية، فيستحسن تجويد السلة وتنويع محتوياتها، (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92]، وتوجد فئات يغفل عنها المجتمع، وهم الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، لا يسألون الناس إلحافاً، حاوِل البحثَ عنهم، والوصول إليهم في صمت وهدوء، فلا تقطع عنهم سترهم وخلوتهم.
- لا داعي لمشاهد الاستعراضات في أثناء التنفيذ، نحفظ كرامة المستفيد ولو في هذا الشهر الفضيل، فننوع أساليب التنفيذ بدل الطوابير أمام مقرات الجمعيات، فنحتاج للإبداع والتفكير خارج الصندوق والعمل المألوف.
- قد يكون التصوير مطلباً ملحاً للتوثيق والتسويق للمؤسسات، لكن نحتاج فيه لشيء من الإنسانية، فلا نُهدر إنسانية المستفيد لأجل كوبون أو سلة أو خيمة، فيمكن التصوير الجانبي والخلفي أو تظليل الوجوه، أما الطلب من الفقير أن يسجل بلسانه كلمة شكر للمتبرع الذي جاد عليه بكيس أرز، فهو إجهاز على الجريح.
- من أزمات العمل الخيري تكدس العطاء وزيادته في هذا الشهر، وانقطاعه بعده، مع ديمومة الاحتياج واستمرار الفاقة، فالناس تتبرع لشرف الزمان، ولفرصة مضاعفة الأجور، لكن المؤسسة الراشدة مَن تدرس خطة التوزيع والإخراج، وفق مصلحة المحتاج، أمام وفرة المدخلات وكثرة التبرعات، فليس كل واردٍ من تبرعٍ برمضان وجب إخراجه في رمضان أيضاً.
- ما يصلك من عطاء هو أمانة في عنقك، وأنت وكيل ووسيط بين المتبرع والمحتاج، فعليك بتقوى الله، والتحري الدقيق، وتجويد العمل، وإيصال الأمانة لأهلها بأحسن حال.
- عندما يتكثف العمل الخيري تزداد نفقاته التشغيلية والإدارية، ويزداد العاملون المأجورون، أو ممن تُصرف لهم المكافآت، ويفتح على العمل مصاريف إضافية قد لا تكون ضمن الاحتياج المُلِح، بل من فضول الأعمال، ومرات يكون هذا الرخاء مبرراً للتساهل في الصرف والإنفاق، وقد قال الله تعالى للقائم على مال الأيتام: (وَلَا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافَاً وَبِدَارَاً أَن يَكْبَرُواْ ۚ وَمَن كَانَ غَنِيَّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرَاً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ)، فالمعروف من النفقات هو المتوسط، وما تتقبله العيون الملاحظة دون إنكار.
- عدم إغفال فقه الأولويات في تسويق المشاريع وتنفيذها، فالمؤسسات تصنع الرؤية العامة للعمل الخيري بالمجتمع بما تقدمه وما تطلبه منهم، فالمتبرعون ينفقون فيما توجههم إليه الطلبات المتكررة والملحة من الجهات العاملة، فيجب دراسة الاحتياج بعناية، وتسويق الاحتياج الحقيقي.
- في هذا الموسم تعددت الاحتياجات في الأمة، ولنا إخوة في الخيام بعد الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، فيستحسن عدم الغفلة عنهم، وعن دعم سائر قضايا الأمة، كنصرة الصامدين ببيت المقدس، والمرابطين في الدفاع عن المسجد الأقصى، والأحرار بأرض غزة، ودعم مشاريعهم، وتخصيص حصة ثابتة وواضحة من الجهد والدعم والمال المجموع لهؤلاء.
- تجربة العمل الخيري ليس كرنفالاً رمضانياً ولا يومية مهنية دورية، هي مرآة لروحك، حاول أن تعيش معها بقلبك، تأمل النعم حولك، اقرأ العطاء والحرمان، واجعل مِن تطوعك وعملك برمضان دورة تهذيبية لنفسك.
- حافِظ على نفسك أيها المتطوع العامل في رمضان، لا تغفل عن صلاتك ومصحفك بحجة العمل الخيري، فرمضان فرصة للتزود لطيلة العام، قال الإمام ابن القيم: صليت مرة الفجر خلف شيخ الإسلام ابن تيمية، فظل يذكر الله مجلساً طويلاً، ثم التفت إليّ وقال: "هذه غدوتي لو لم أتغدّ غدوتي سقطت قوتي"، الغدوة: طعام الفطور.
ختاماً.. مقامك في خدمة الناس من أهم الثغور، واستخدامك في شؤون الخلق من أشرف المهام، ولهذا وجب تجويد هذه المهمة النبيلة، "إن الله كتب الإحسان على كل شيء".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.