سوف تنتهي الحرب في أوكرانيا شأنها شأن جميع الحروب، والسؤال هنا ليس متى تنتهي ولكن كيف؟ ولا يمكن إجابة السؤال دون تحديد أهداف روسيا مقابل أهداف الغرب وحلف الناتو، بقيادة أمريكا.
بدايةً روسيا تصف الحرب في أوكرانيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر"، لكن بعيداً عن التسمية، فتلك الحرب التي اندلعت في فبراير/شباط 2022 ولا تبدو لها نهاية وشيكة، فإن العالم بأسره يدفع ثمناً باهظاً لها.
مجلة Foreign Affairs الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "الحجة من أجل ضمانة أمنية لصالح أوكرانيا"، يقدم سيناريوهات للكيفية التي يمكن أن تنتهي بها الحرب، قياساً على الحروب السابقة التي شهدها العالم.
انضمام أوكرانيا لحلف الناتو.. أبرز المشكلات
كل الحروب تنتهي، وبالتالي فإن الحرب بين روسيا وأوكرانيا سوف تنتهي هي الأخرى، لكن بداية الاستعداد للسلام لا يكون توقيتها في أعقاب نفاد الذخيرة من الجانبين في ميدان الحرب، بل هو الآن، بينما يستعر القتال.
لكن المؤشرات كلها الآن تقول إننا لا يزال أمامنا طريق طويل على الأرجح قبل نهاية الحرب، والسبب وراء هذا يرجع بدرجة كبيرة إلى اعتقاد راسخ لدى كل من روسيا وأوكرانيا بأن تحقيق النصر لا يزال ممكناً.
والسبب الوحيد وراء الاعتقاد الأوكراني هو الدعم الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً بطبيعة الحال. لكن الأوضاع قد تتغير بسرعة، ويحتاج العالم إلى الاستعداد. وبقدر ما يناقش صناع السياسة الغربيون استراتيجية إنهاء الحرب، يولي هؤلاء تركيزاً كبيراً إلى توسيع حلف الناتو، بجانب احتواء روسيا عن طريق العزلة الاقتصادية.
لكن هذا التوسع من جانب الحلف العسكري الغربي هو توجهٌ خاطئٌ، بحسب ما تراه مجلة فورين بوليسي، كما أن عزل موسكو اقتصادياً لا يبدو أنه ناجح حتى الآن في تحقيق أغراضه المعلنة.
إذ إن توسع الناتو يُرجح أن يضمن فعلياً علاقة عدائية، وليس فقط مع الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين، بل مع جميع القادة الروس المستقبليين المحتملين. وقد حذر كلٌّ من الدبلوماسي الأمريكي المؤيد لحلف الناتو، جورج كينان، والرئيس السوفييتي المؤيد للغرب، ميخائيل غورباتشوف، من توسع التحالف عندما بدأت دول شرق أوروبا في الانضمام للحلف العسكري الغربي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة.
وأصدر مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سابقاً، ويليام بيرنز، تحذيراً مماثلاً حول أوكرانيا على وجه الخصوص عام 2008، عندما كان يشغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى روسيا، وكتب في برقية دبلوماسية بأن "دخول أوكرانيا حلف الناتو هو أبرز الخطوط الحمراء بالنسبة للنخبة الروسية (ليس بوتين فحسب). لم أعثر بعد على أي شخص لا ينظر إلى وجود أوكرانيا في الناتو على أنه تحدٍّ مباشر لمصالح روسيا". ويتعذر أن يُعتمد على هذا الخيار من أجل الوصول إلى أية صورةٍ لسلامٍ مستقرٍ يشمل روسيا فعلياً.
وفي هذا السياق، لا بدَّ إذاً من إلغاء هذا الخيار بصورة حاسمة كخطوة أولى وأساسية على طريق وقف الصراع الجيوسياسي على الأراضي الأوكرانية.
ترتيب أمني جديد يشمل روسيا
لا بد إذاً أن تغير الولايات المتحدة وشركاؤها من نهجهم الحالي والتوجه نحو التفكير الإبداعي بشأن التوصل لطرق تضمن أمن أوكرانيا بعيداً عن الوعود بضمها إلى الناتو، وبعيداً أيضاً عن مقترحات تحويل أوكرانيا إلى "نيص" تملأ الأشواك جنباته، عن طريق تسليحها حتى النخاع. وترى فورين بوليسي أنه ثمة حاجة إلى نوعٍ من الوجود العسكري الغربي وغير الغربي في الأراضي الأوكرانية، لضمان الدفاع عن البلاد. لكن السؤال الذي يلوح في الأفق يتعلق بكيفية بنائه، ودمجه داخل منظمات أمنية جديدة أو قائمة بالفعل، وضمان نجاعته.
لُخص الغرض الرئيسي لحلف الناتو عن طريق أول أمين عام للحلف، اللورد هاستينغز إسماي، وذلك في الأيام الأولى لهذا التحالف. قال إسماي في عام 1949 إنه صُمم لـ "إبعاد الروس، والإبقاء على الأمريكيين، وإسقاط الألمان".
لكن المجلة الأمريكية ترى أن العالم الآن يحتاج إلى كيان مرن يُبعد الرئيس الروسي الحالي بوتين، لكنه في نهاية المطاف يجذب العقليات الروسية الإصلاحية، بجانب الأمريكيين، من أجل المحافظة على أمن أوكرانيا وجيرانها.
ويتمثل أحد الطرق للوصول إلى هذه الغاية في تأسيس مجتمع أمن جديد – يطلق عليه على سبيل المثال مجتمع الأمن الأطلسي الآسيوي (AASC)- يتألف من أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالإضافة إلى أوكرانيا وحلفائها، وأي دول محايدة ترغب في الانضمام.
وفي هذا السيناريو، يفترض تحليل فورين بوليسي أنه بمجرد سقوط حكومة روسيا الحالية برئاسة بوتين، وقدوم حكومة تلتزم بالسلام بدلاً منها، ينبغي أن تكون روسيا مؤهلة للانضمام هي الأخرى.
وربما يكون لمجتمع AASC هذا أهداف طويلة الأجل على طراز أهداف الناتو، ولكن يجب أن تتمثل مهمته الرئيسية على المدى القصير في الإشراف على وجود قوات عسكرية غربية على الأراضي الأوكرانية لأجل غير مسمى، وإضفاء شرعية على هذا الوجود.
سوف تراقب هذه القوات -التي تنحدر من الدول الأعضاء وغير الأعضاء في حلف الناتو على السواء- نشاط القوات الروسية، وسوف تساعد في تدريب القوات المسلحة الأوكرانية، وسوف تساعد في عملية تسريح الجند، ومراقبة أية اتفاقية سلمية مستقبلية، وسوف تكون بمثابة سلاح رادع يحول دون أي هجوم روسي جديد. وقد يقود هذه المهمة ضابط ليس من دول حلف الناتو، ربما من الهند أو أية دولة أخرى يُرتأى حيادها، ولكن يجب أن تضم المهمة قوات أمريكية. فمن المؤكد أن الوجود الأمريكي على الأرض قادر على ضمان مستقبل أوكرانيا الديمقراطي، بحسب المجلة الأمريكية.
ولكي يتميز مجتمع الأمن الأطلسي الآسيوي (AASC) عن حلف الناتو، يجب ألا يُطلق عليه "منظمة معاهدة" ويجب ألا يلتزم أعضاؤه بنجدة أي عضو يتعرض لهجوم. وبرغم ذلك، يجب أن يسعى جاهداً لردع أي اعتداء روسي محتمل عن طريق نشر عسكريين دوليين في أوكرانيا.
ماذا يعني سيناريو كهذا لنهاية الحرب؟
يفترض هذا السيناريو أن الهدف الرئيسي لهذا المجتمع على المدى القريب سيكون الإشراف على نشر ما لا يقل عن بضعة آلاف من القوات الدولية بوصفهم مُدَرِّبين ومراقبين في الأراضي الأوكرانية، وتنسيق هذه الجهود، على أن تنحدر هذه القوات من الولايات المتحدة والأعضاء الآخرين الأوروبيين والآسيويين في مجتمع AASC. فوجود العسكريين الغربيين في أوكرانيا يعد ضرورياً من أجل الردع.
ويجب نشر قوات من الولايات المتحدة وأعضاء الناتو الآخرين ضمن القوة الدولية، وكذلك يجب على الولايات المتحدة أن تتأهب للدفاع عنهم -وعن أوكرانيا بالتبعية- عند وقوع هجوم.
وثمة نهجان يمكن التفكير فيهما عند تشكيل مثل هذه القوة: أحدهما هو إنشاء قوة لتنفيذ السلام، تقرها الجمعية العامة للأمم المتحدة وليس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فلا تقدر موسكو حينئذٍ على استخدام حق الفيتو معه ولا المماطلة حوله.
ويجوز منح هذه القوة تفويضاً لعدة سنوات بهدف المساعدة في تسريح الجند، وحماية الحدود الروسية الأوكرانية، وربما مراقبة طريقة التعامل مع الأقليات التي تعيش في الأراضي الأوكرانية؛ لطمأنة موسكو ومنع الصراع.
قد يتمثل النهج البديل في جعل هذه القوة الدولية تحت الإدارة المباشرة لمجتمع الأمن الأطلسي الآسيوي (AASC)، على أن تنشر هذه القوة فقط بموافقة الحكومة الأوكرانية، وتكون مهمتها اليومية تدريب الجيش الأوكراني والشرطة الأوكرانية. ويجب أن تُنشر في غالبية أنحاء البلاد، من أجل ردع روسيا عند التعدي على الأراضي الأوكرانية.
ينبغي لقوات التدريب أن تكون على اتصال منتظم مع قوات الناتو القتالية المتمركزة في المناطق الشرقية لأراضي أعضاء الناتو. سوف يضمن هذا إرسال قوات الرد السريع لحماية المدربين عند الحاجة. وأية هجمات استكشافية ضد قوات التدريب سوف تخضع للتحقيق، وإذا ثبت ضلوع موسكو سوف تعاقب إما عن طريق التدابير الاقتصادية أو ربما من خلال تمركز القوات القتالية الغربية في أوكرانيا حتى تزول التوترات. من الأفضل أن يقود هذه القوات جنرال من بلد مثل الهند، التي نجحت في المحافظة على علاقات مقبولة مع الدول الغربية وروسيا أيضاً.
وبمجرد مغادرة بوتين وقدوم قائد لا يشكل تهديداً بدلاً منه، ستصير روسيا حينها مؤهلة للانضمام إلى مجتمع AASC. قد يصير أعضاء الناتو على الجبهة الشرقية متشككين في روسيا، وقد يحاولون عرقلة دعوتها إلى الانضمام، لكن الولايات المتحدة اضطرت في كثير من الأحيان لإقناع الحلفاء المتحفظين من أجل قبول مزيد من الأعضاء، بحسب تحليل فورين بوليسي.
لكن هذه الاحتمالات تفترض غياب بوتين عن المشهد، وهو أمر لا توجد عليه أي مؤشرات فعلية، كما أنه يقوم بالأساس على افتراض أن روسيا سوف تتعرض لانتكاسات عسكرية ضخمة تجبرها على الانسحاب تماماً من كافة الأراضي الأوكرانية، بما فيها شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا عام 2014، وهذا أيضا يبدو مستحيلاً من الناحية العسكرية، بإجماع الخبراء العسكريين الغربيين تقريباً.
فعلى ماذا اعتمدت المجلة الأمريكية في تحليلها؟ الإجابة هنا تقول إنه في مرحلة ما من عام 2023، أو ربما من عام 2024، سوف تبدو الحرب غير مجدية بالنسبة لموسكو وكييف، عندما يحل شكل من أشكال الجمود، أو ربما تنجح أوكرانيا في إخراج القوات الروسية من أراضيها. وفي كلتا الحالتين، يحتاج صناع السياسة الغربيون إلى الاستعداد برؤية أمنية جديدة من أجل المنطقة.
الخلاصة هنا هي أن الغرب مصمم على إلحاق الهزيمة بروسيا، وهي الهزيمة التي ستطيح حتماً بفلاديمير بوتين ونظامه وتأتي بنظام جديد تتمنى واشنطن وحلفاؤها أن يكون أكثر ميلاً لقبول وجهة النظر الغربية، فما مدى واقعية هكذا سيناريو؟ هذا هو السؤال الذي لا يمكن لأحد إجابته، والأيام وحدها كفيلة بالإجابة عنه.