"لا أستطيع أن أبقيهم على قيد الحياة حين يبدأون في التفكير في وطنهم والكلام عنه، وقبل أن يموتوا يغرقون في خواء هامد لا مبالٍ". كانت هذه عبارة طبيب المعسكر في جيش محمد علي باشا خلال حملته على سوريا عام 1831م، وهو يصف حالة الجنود لكبير أطباء الجيش "كلوت بك" نقلاً عن كتاب "كل رجال الباشا" للمؤرخ المصري خالد فهمي.
كان مرض الحنين إلى الوطن قد بدأ يتفشى بين جنود جيش الباشا فيما يشبه وباءً كاد يفتك بهم، وإزاء هذه الحالة كتب "كلوت بك" كتيباً صغيراً يشرح فيه للأطباء كيفية التعامل مع الجنود، فكتب: "الاشتياق إلى الوطن مرض يصيب في الغالب العساكر الجدد بسبب مفارقة أوطانهم وعيالهم والأشياء المألوفة عندهم، وذلك ما يوقعهم في غمّ شديد وسقم وذبول وأحياناً إلى الموت، فينبغي تسليتهم حسب الإمكان بالوعد بالرجوع إلى الوطن قريباً".
هذه الحالة المرضية تفشّت بين جنود حققوا انتصارات كبرى على أكبر الجيوش في المنطقة في ذلك الوقت، لكنه نصر بالإجبار والقوة، سيق فيه الفلاحون، وانتزعوا من أراضيهم وأهليهم إلى معسكرات التدريب ثم إلى ساحات المعارك.
معارك لم يختاروها أو حتى فرضت عليهم، وإنما أجبروا عليها جبراً، وحققوا للباشا انتصاراته المشهودة، وسحقوا أعداءه، لكنهم في قرارة أنفسهم هُزموا وانسحقوا، كانت أعينهم على الأعداء، لكن قلوبهم مع ذويهم وأهليهم وعقولهم تتساءل: ترى ماذا حدث للأبناء والزوجات والآباء والأمهات؟ كيف يعيشون؟ هل ماتوا؟ كيف يأكلون؟ كيف يواجهون الدهر وقسوته وحدهم؟ كان العدو أمامهم واليأس خلفهم، فاستسلموا لهذه الحالة وماتوا كمداً وحزناً.
قبل قرنين مات جنود الباشا غماً وحزناً بعد انتزاعهم من أراضيهم وذويهم وانقطعت بهم الأوصال، واليوم يعيش أبناء جيلي مصاعب لا أكون مبالغاً إن قلت إنها أصعب نفسياً من تلك التي واجهها جنود الباشا، نعيش بين أهالينا يحوطنا اليأس من كل مكان، ولا نرى أي أمل في مستقبل قريب أو بعيد، تختلف الظروف والأماكن، لكن يبقى اليأس المحيط، والمستقبل حالك السواد.
فالقابعون خلف الأسوار يموتون في اليوم ألف مرة، ضع نفسك مكان ذلك الصبي الذي ألقي في غياهب السجون دون جريرة، وسُرق عمره ومستقبله أمام عينيه وهو غير قادر على تحريك ساكن، أو ضع نفسك مكان ذلك الذي يواجه زوجته أو أبناءه وهو ينظر إلى عيونهم المليئة بالأسئلة، وهو عاجز حتى عن النطق، عاجز حتى عن طمأنتهم أو تبشيرهم بأي مستقبل؛ إذ نفد رصيد الأمل، أو ضع نفسك مكان الذي يواجه أمه وأباه ويعجز عن رعايتهم أو تحمل المشقة عنهم.
لا يختلف هؤلاء عن القابعين في السجن الأكبر وهم ينظرون إلى ذويهم بعين عاجزة كل العجز، يلقون بأنفسهم طوعاً إلى أمواج البحر العاتية هرباً من اليأس والعجز علّهم يجدون بعد تلاطم الأمواج شاطئاً مليئاً بالأمل يحتضنهم وينسيهم مرارة العجز واليأس، وفي أغلب الأوقات لم يكن البحر رحيماً، بل قضى على ما تاقت إليه أنفسهم.
أما الذين نجوا فوقعوا في أسر الغربة، سواء طوعاً أم كرهاً، يحترقون وينظرون إلى الوطن وهو يحترق، وهم مكبلون بقيود الغربة، فلا يملكون لذلك دفعاً أو تجاهلاً، فيرتمون في أحضان الموت.
وصدق أمل دنقل:
كيف تنظر في عيني امرأة؟
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غداً لصغير ينام؟
وهو يكبر بين يديك بقلب منكّس
لا عجب إذاً عندما تستسيغ عيناك وأذناك مشاهد وأخبار الانتحار أو الموت المفاجئ لأبناء جيلي، لم تشهد حقبة من الحقب أو عصرٌ من العصور إقداماً على الموت يأساً كما هو حال الشباب في أوطاننا العربية اليوم، ولم تشهد بلادنا موتاً مفاجئاً للشباب في أي وقت كما تحياه عياناً وهي تسلّم هذه النفوس إلى باطن الأرض يائسة عاجزة.
ليس ما ذكرته خطاباً يائساً، لكنه رصد لواقعنا بشواهد تاريخ أجدادنا، ولا يزعم أحد من أبناء جيلي أن لديه الحل، فتلك رفاهية في التفكير، فليس لدينا ذلك الوقت، فالقادر على الصمود حتى الآن يبحث عن لملمة جراحه وجمع شمله، أما الآخرون فهائمون في "خواء هامد لا مبالٍ".
ما ذكرته عن فترة محمد علي كانت مجرد إشارة إلى حالة مرضية رأى فيها "كلوت بك" خطراً على انتصارات الباشا وتوسعاته، إذ كيف يمكن لجيش فقد جنوده أي رغبة في الحياة أن يقاتل ويواصل التقدم، هذه الحالة التي تفترسنا هي خطر على مستقبل مصر، وهي ناقوس خطر لكل من له عقل.
فبعد سنوات من انتصاراته وقعت إمبراطورية محمد علي باشا في أيدي الإنجليز، نتيجة سياساته التي لم تراعِ قط مآلات سحق النفس الإنسانية، ولا أقول إن مصر ستقع في أيدي محتل جديد، لكن مآلات السياسات التي نحياها منذ سنوات ستتسبب في انكسارات وهزائم متعددة لا هزيمة واحدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.