أعظم حضارات العالم القديم كانت تفتخر بمدنها العظيمة والممتدة والمتطورة. إذ نهضت هذه المدن القديمة وسقطت مع إمبراطوريات قوية سادت العالم من قبل، لتترك وراءها إرثاً أسطورياً لا تزال علاماته وبقاياه خالدة حتى اليوم.
فبعد أن شكلت تلك المدن المراكز الحضرية الأسطورية، مثل بابل ونينوى وأثينا وروما مجرى التاريخ بطريقتهم الخاصة. كان بعضها مقراً للإمبراطوريات القوية التي حكمت العالم.
البعض الآخر منها، مثل قرطاج، تعرضت لسقوط مأساوي محفور في التاريخ، حتى أن مدينة واحدة، أثينا، وضعت أسس الثقافة الغربية نفسها. في هذا التقرير نستعرض أشهر وأعظم مدن العالم القديم.
1- مدينة ممفيس المصرية
كانت مدينة ممفيس إحدى أقدم المدن المصرية وأهمها، وكانت عاصمة الدولة الفرعونية القديمة، التي امتدت قبل آلاف السنين.
احتلت ممفيس مكانة بارزة في بداية وادي النيل، وهي قريبة من هرم الجيزة والمقابر التاريخية في سقارة. ووصلت رمزية ممفيس لدرجة أن الفراعنة طوال تاريخ مصر الطويل كانوا يتوجون في تلك المدينة.
كانت ممفيس واحدة من عدة مدن رئيسية توسعت على يد الفرعون رمسيس الثاني في القرن الـ13 قبل الميلاد. وكان أهم نصب في المدينة هو معبد بتاح، أحد أقدم الآلهة المصرية.
على الرغم من أن مدن مثل طيبة حلت محلها كعاصمة لاحقاً، فإن ممفيس كانت ولا تزال ذات أهمية كبيرة كمدينة ثقافية ودينية.
ثم عندما غزا الآشوريون مصر عام 671 قبل الميلاد، دُمرت ممفيس وسوّيت بالأرض مرتين. لكن أعيد بناؤها بسرعة بسبب أهميتها الدينية، على الرغم من استمرار تحكم القوى الأجنبية في مصر.
ثم في العام 525 قبل الميلاد، استولى الملك الفارسي الأخميني، قمبيز الثاني، على ممفيس، التي أصبحت عاصمة المرزبانية الفارسية في مصر.
ثم في العام 331 قبل الميلاد، توج الإسكندر الأكبر فرعوناً في ممفيس بعد الاستيلاء على مصر من الفرس. وبعد وفاته، تم دفنه في ممفيس، وأسس أحد قادته، بطليموس، سلالة البطالمة.
وبحلول عام 196 قبل الميلاد، أصدر بطليموس الخامس مرسوماً نُسخ على لوح بـ3 لغات بواسطة الكتبة القدماء في ممفيس، وهو حجر رشيد، أحد أهم الاكتشافات الأثرية في تاريخ البشرية.
2- نينوى حصن الآشوريين
تحت ظل الإمبراطورية الآشورية الجديدة، أصبحت نينوى واحدة من أكثر المدن القديمة شهرة في بلاد ما بين النهرين. وخلال الفترات المبكرة للحكم الآشوري، امتدت المدينة عبر الضفة الشرقية لنهر دجلة وكانت مركزاً حضرياً غنياً ومهماً.
وقد قرر الملك سنحاريب أن تكون نينوى عاصمة آشورية عام 705 قبل الميلاد، ووسع المدينة، وقام ببناء 15 بوابة محصنة ضخمة لحماية المدينة، وكذلك بنية تحتية متطورة مثل القنوات المائية.
عندما بلغت الإمبراطورية ذروتها، تدفقت الثروة إلى المدينة. لكن كان مشروع سنحاريب الأكثر طموحاً هو قصر الجنوب الغربي. إذ تم تزيين كل غرفة من غرف القصر الثمانين بمنحوتات معقدة، تصور انتصارات سنحاريب ومشاهد من الحياة الآشورية. وتحرس تماثيل الأسود المجنحة برؤوس بشرية، والمعروفة أيضاً باسم "لاماسو"، مداخل القصر.
كرس حفيد سنحاريب، آشور بانيبال، مزيداً من الاهتمام بالمدينة، فقام ببناء مجمع مكتبة ضخم يُعتقد أنها ضمت ما يصل إلى 30.000 لوح طيني.
ولكن بعد وفاة آشور بانيبال، انتهز رعايا آشور المضطهدون فرصتهم في الانتقام، فقام تحالف من البابليين والميديين والفرس بتدمير نينوى عام 612 قبل الميلاد. فتم ذبح معظم الناجين وأضرمت النيران في المدينة، مما وضع نهاية مأساوية للحكم الآشوري.
3- مدينة بابل الأسطورية
تقع بابل على ضفتي نهر الفرات، وهي واحدة من أكثر المدن القديمة الأسطورية في التاريخ. وبعد قرون من الحكم القاسي تحت حكم الآشوريين، قادت بابل تحالفاً أطاح بحكامهم في 612 قبل الميلاد.
كان هذا إيذاناً بعصر ذهبي شهد أعظم مهندس معماري في بابل، نبوخذ نصر الثاني، ليحول المدينة إلى حضارة أسطورية بامتياز.
ففي أوجها، كان يُعتقد أن 3 أميال مربعة من الزحف العمراني الراقي شديد الدقة كانت محتواة داخل أسوار بابل الضخمة. وقد وسع نبوخذ نصر هذه التحصينات العظيمة وشيد بوابة عشتار الشهيرة، وهي بوابة نابضة بالحياة مصنوعة من البلاط الأزرق المميز.
يُعتقد أيضاً أن الحدائق المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، قد تم بناؤها في عهد نبوخذ نصر.
كذلك استضافت المدينة مهرجان العام الجديد الصاخب، أكيتو، كل عام لتكريم مردوخ. واستخدم الحاكم الفارسي كورش الكبير الاحتفال كإلهاء لغزو المدينة عام 539 قبل الميلاد، لكنه سمح لبابل بالاحتفاظ بهيبتها وعامل المدينة بإعجاب.
ومع ذلك، لم يكن زركسيس الأول بنفس الروح، حيث دمر بابل عام 485 قبل الميلاد؛ كعقاب للشعب على ثورته ضده. وبعد حوالي 150 عاماً، وضع الإسكندر الأكبر الإمبراطورية الأخمينية على ركبتيها وأعلن أن بابل لن تتضرر. عاشت المدينة لما بعد وجودها المادي، وبعد وفاة الإسكندر، أصبحت بابل تدريجياً مهجورة ومنسية.
4- أثينا مهد الحضارة الغربية
من بين جميع المدن القديمة، يمكن اعتبار أثينا وحدها مهد الثقافة الغربية. حيث ازدهرت الديمقراطية والتاريخ والفلسفة في ظلها.
وبعد أن حكمهم الأرستقراطيون والطغاة لعدة قرون، ثار الأثينيون عام 510 قبل الميلاد. وأسس رجل الدولة كليثينيس أقدم ديمقراطية معروفة في العالم. فكان لكل رجال أثينا الأحرار رأي في حكومة المدينة.
كذلك علم أبو الفلسفة الغربية، سقراط، طلابه أن يشكوا في كل شيء. ثم أُجبر على تناول السم بعد اتهامه بإفساد شباب المدينة. لكن أفكاره صمدت من خلال تلميذه أفلاطون، بشكل أثر على أوروبا التي نعرفها اليوم.
وقد دمرت أثينا وتساوت بالأرض مرتين خلال غزو زركسيس لليونان عام 480 قبل الميلاد، لكنه هُزم من قبل تحالف دول المدن اليونانية بقيادة أثينا وإسبرطة.
ثم أشرف رجل الدولة بريكليس على إعادة بناء كبيرة لصرح الأكروبوليس الشهير على الهضبة الصخرية المطلة على المدينة. فكان داخل معبد البارثينون، وهو معبد مثير للإعجاب مخصص لأثينا وحدها.
ولكن خلال الحرب، أطاحت سبارتا بأثينا.
5- الإسكندرية درة الإمبراطورية المصرية القديمة
في عام 331 قبل الميلاد، غزا الإسكندر الأكبر الإمبراطورية الأخمينية الفارسية. وبعد تحرير مصر منهم، أسس الجنرال الشاب مدينة جديدة برؤيته المستقبلية المتطورة، فكانت الإسكندرية.
وقد صمم الخطط للمدينة بنفسه قبل مغادرته لمواصلة حملاته العسكرية. وعندما توفي الإسكندر عام 323 قبل الميلاد، سيطر بطليموس على مصر، وجعل عاصمتها الإسكندرية.
ازدهرت مدينة الإسكندرية الجديدة لتصبح أكبر مدينة في العالم. وبدأ بطليموس وأبناؤه بناء مكتبة الإسكندرية الكبرى، حيث جمع مئات العلماء المعرفة من جميع أنحاء العالم وقتها. فأصبحت الإسكندرية ملاذاً للعلماء.
كانت هذه الدرة المزدهرة بالعلم والحضارة والاقتصاد بين المدن القديمة موطناً لمنارة الإسكندرية الشاهقة أيضاً، والتي تعتبر واحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم.
وقد تم الانتهاء من بناء المنارة في وقت ما، حوالي 250 قبل الميلاد، وظلت قائمة لما يقرب من 1600 عام. ويُعتقد أن ارتفاعها وصل إلى 140 متراً، وعملت على توجيه السفن بأمان إلى ميناء الإسكندرية.
استمرت الإسكندرية ميناء بارزاً على البحر الأبيض المتوسط حتى امتدت سلسلة الحروب الأهلية الرومانية إلى مصر. فبعد وفاة منافسه بومبي، أعلن يوليوس قيصر الأحكام العرفية في الإسكندرية. وخلع بطليموس الثالث عشر ونصب كليوباترا على العرش.
بعد مقتل قيصر عام 44 قبل الميلاد، حكم الجنرال الروماني مارك أنتوني مع كليوباترا، وبعد انتحارهما، حكم أوكتافيان خليفة يوليوس قيصر كإمبراطور باسم أوغسطس، وقد أعاد بناء الإسكندرية كمركز للقوة الرومانية في مصر.
6- قرطاج التاريخية على البحر المتوسط
قبل الاشتباك مع الرومان، كانت قرطاج واحدة من أغنى المدن القديمة على البحر الأبيض المتوسط، ومركزاً لإمبراطورية تجارية بحرية.
قام البحارة الفينيقيون، على الأرجح من مدينة صور، بتأسيس المدينة عام 814 قبل الميلاد.
انتشر التجار القرطاجيون عبر البحار وأسسوا مستعمرات في صقلية وإسبانيا وبقية ساحل شمال إفريقيا. وتدفقت منتجات نفيسة مقل الأبنوس والعاج والذهب عبر قرطاج من الداخل الإفريقي.
كما كان التجار القرطاجيون يتاجرون في الملح والتوابل والفراء والأصباغ الفينيقية الأرجوانية الباهظة الثمن المصنوعة من الأصداف.
أصبح وضع قرطاج كمركز تجاري فريداً بسبب ميناءيها الكبيرين. حيث تم استخدام المرفأ الخارجي المستطيل بشكل صارم للسفن التجارية، محمياً بجدار بحري طويل. وكان المرفأ الداخلي الدائري يؤوي أسطول قرطاج العظيم، مع أرصفة لـ 220 سفينة حربية.
سيطرت قرطاج على البحر الأبيض المتوسط لعدة قرون، لكن خلال الحروب البونيقية الثلاثة، قاتلت قرطاج ضد القوة الجديدة في روما. وبعد أكثر من قرن من القتال المرير، حاصر الرومان قرطاج عام 149 قبل الميلاد لعامين، قبل أن يخترقوها وينهبوا المدينة ويذبحوا أو يستعبدوا المدنيين الباقين على قيد الحياة.
تم تدمير قرطاج تماماً، وأصبحت روما أخيراً القوة المهيمنة في البحر الأبيض المتوسط بعدها.
7- روما القوية وسقوطها المدوي
روما هي مقر إحدى أعظم الإمبراطوريات في التاريخ القديم، ويمكن القول إنها أشهر المدن القديمة على الإطلاق. تأسست المدينة في القرن الثامن قبل الميلاد وتوسعت تدريجياً عبر تلال روما السبعة.
حكم الملوك روما في البداية، ثم أصبحت جمهورية عام 509 قبل الميلاد. بتوجيه من مجلس الشيوخ، وسعت روما أراضيها لما يقرب من 500 عام.
وبعد صراع على السلطة في أعقاب اغتيال يوليوس قيصر عام 44 قبل الميلاد، تم استبدال الجمهورية بالإمبراطورية الرومانية تحت حكم الإمبراطور الأول أغسطس.
فشملت الإمبراطورية الرومانية، في أقصى حد لها عام 117 بعد الميلاد، معظم أوروبا وشمال إفريقيا وآسيا الصغرى وبلاد ما بين النهرين.
ضمت روما حوالي مليون نسمة وكانت منقسمة بشدة بين الأغنياء والفقراء، على الرغم من قوتها وثروتها، لذلك عانت روما طويلاً من الحروب الأهلية والأوبئة والكوارث الأخرى.
وفي عام 64 بعد الميلاد، اجتاح حريق كبير روما. مات المئات ودُمرت عشر مقاطعات من أصل 14 مقاطعة في روما.
ومع انخفاض قوتها في القرن الخامس الميلادي، سقطت روما على يد قبائل بربرية مختلفة وتراجع عدد سكانها. فانهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476 ميلادياً.