قالت شبكة BBC البريطانية، في تقرير نشرته الإثنين 13 مارس/آذار 2023، إنه وبعد عشرين عاماً من غزو العراق، لا يزال الجدل محتدماً حول وجود "أسلحة الدمار الشامل" التي قدّمت المبرر لتدخل المملكة المتحدة في الغزو. وقد ظهرت تفاصيل جديدة حول البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ضمن مسلسل "Shock and War: Iraq 20 years on- الصدمة والحرب: العراق بعد 20 عاماً" من إنتاج شبكة BBC، الذي يستند إلى محادثات مع عشرات الأشخاص المعنيين مباشرةً.
حيث يتذكر ضباط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أيضاً صدمة نظرائهم البريطانيين. وقد استرجع لويس رويدا، رئيس مجموعة عمليات العراق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ردود فعلهم قائلاً: "اعتقدت أنهم سيُصابَون بنوبة قلبية وهم أمامي على الطاولة"، وسرعان ما وصلت رسالة خطط الغزو إلى داونينغ ستريت (مقر رئاسة الوزراء البريطانية). وكان رجال المخابرات وليس الدبلوماسيون هم من سلّموها.
التأهب لغزو العراق
في مقابلة نادرة مع شبكة BBC، قال رئيس جهاز المخابرات السرية البريطاني آنذاك، السير ريتشارد ديرلوف، الذي كان زائراً معتاداً لواشنطن: "ربما كنت أول من قال لرئيس الوزراء: سواء أعجبك ذلك أم لا، ستتخذ جميع الاستعدادات اللازمة، لأنه يبدو كما لو أنهم يتأهبون لغزو".
بالنسبة للولايات المتحدة، كانت قضية أسلحة الدمار الشامل ثانوية أمام محاولة أعمق لإطاحة الرئيس العراقي صدام حسين. يقول لويس رويدا، رئيس مجموعة عمليات العراق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية: "كنا سنغزو العراق حتى لو كان ما يمتلكه صدام حسين هو شريط مطاطي ومشبك ورق".
بالنسبة للمملكة المتحدة، عندما تعلق الأمر بإقناع الجمهور المتشكك بضرورة غزو العراق، كان التهديد المزعوم الذي تُشكّله أسلحة الدمار الشامل العراقية -الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية- أمراً محورياً.
حيث زُعِم في بعض الأحيان أنَّ حكومة المملكة المتحدة قد اختلقت الادعاءات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل. لكن الوزراء في ذلك الوقت يقولون إنهم تلقوا تطمينات من جواسيسهم بأنَّ الأسلحة موجودة بالفعل.
الاعتماد على معلومات استخباراتية
قال رئيس الوزراء الأسبق السير توني بلير: "من المهم حقاً أن نفهم أنَّ المعلومات الاستخباراتية التي كنت أحصل عليها هي ما كنت أعتمد عليه". وعشية الغزو، أشار بلير إلى أنه طلب تطمينات من لجنة الاستخبارات المشتركة، وحصل عليها بالفعل. ويرفض انتقاد أجهزة المخابرات بأنها توصلت لتطمينات خاطئة بينما يقول وزراء آخرون إنه كانت لديهم شكوك في ذلك الوقت.
لدى سؤاله عمّا إذا كان ينظر إلى غزو العراق على أنه فشل استخباراتي، رد السير ريتشارد ببساطة: "لا". ولا يزال يعتقد أنَّ العراق كان لديه نوع من برامج الأسلحة وأنَّ عناصره ربما نُقِلَت عبر الحدود إلى سوريا.
لكن يختلف آخرون مع هذا الرأي. يقول السير ديفيد أوماند، الذي كان حينها منسق الأمن والاستخبارات في المملكة المتحدة: "لقد كان إخفاقاً كبيراً". ويقول إنَّ التحيز إلى التأكيدات دفع خبراء الحكومة إلى الاستماع إلى أجزاء من المعلومات التي أيّدت فكرة أنَّ صدام حسين كان يمتلك أسلحة دمار شامل، واستبعاد أي شيء بخلاف ذلك.
مخاوف لدى جهاز المخابرات السرية البريطانية
يقول البعض داخل جهاز المخابرات السرية البريطاني إنهم راودتهم مخاوف أيضاً. يقول أحد الضباط الذين عملوا في العراق، والذي لم يتحدث من قبل وطلب عدم الكشف عن هويته: "في ذلك الوقت شعرت بأنَّ ما نفعله خطأ".
أضاف الضابط السابق متحدثاً عن فترة أوائل عام 2002: "لم تكن هناك معلومات استخباراتية ولا تقييم جديد أو موثوق يشير إلى أنَّ العراق قد أعاد تشغيل برامج أسلحة الدمار الشامل وأنها تشكل تهديداً وشيكاً. أعتقد أنه من وجهة نظر الحكومة كان هذا المبرر الوحيد الذي يمكنهم العثور عليه.. كانت أسلحة الدمار الشامل هي الشماعة الوحيدة التي يمكنهم تعليق شرعية الغزو عليها".
حتى ربيع عام 2002، كانت المعلومات الاستخباراتية الموجودة غير مكتملة. إذ كان عملاء جهاز المخابرات السرية القدامى في العراق لديهم معلومات قليلة أو معدومة حول أسلحة الدمار الشامل، وكان هناك بحث يائس عن معلومات استخباراتية جديدة من مصادر جديدة لدعم القضية، لا سيما عند التخطيط لتقديم ملف بهذا الشأن لشهر سبتمبر/أيلول.
أما في 12 سبتمبر/أيلول، فدخل السير ريتشارد إلى داونينغ ستريت بأخبار عن مصدر جديد مهم. وادعى هذا الشخص أن صدام حسين استأنف برامج أسلحته، ووعد بتقديم تفاصيل جديدة قريباً. وعلى الرغم من أنَّ هذا المصدر لم يخضع لعمليات التدقيق الكاملة، ولم تُشارَك معلوماته مع الخبراء، فقد سُلِّمَت التفاصيل إلى رئيس الوزراء.
تقول مصادر استخباراتية أخرى إنه في الأشهر التالية، لم يُسلِّم هذا المصدر الجديد مطلقاً التفاصيل التي وعد بها، ورأت الحكومة في النهاية أنه اختلق المعلومات التي قدمها. وتجادل المصادر بأنَّ مراقبة جودة المعلومات كانت تنهار.
اختلاق المعلومات
كان من المحتمل أنَّ بعض المصادر الجديدة اختلقت المعلومات من أجل المال أو لأنها أرادت رؤية صدام حسين يُطَاح من منصبه. وفي يناير/كانون الثاني 2003، قابل مراسل BBC الأمني جوردون كوريرا منشقاً من جهاز استخبارات صدام في الأردن، والذي ادعى أنه شارك في تطوير مختبرات متنقلة للعمل على الأسلحة البيولوجية، بعيداً عن أنظار مفتشي الأمم المتحدة.
دخلت ادعاءاته في العرض الذي قدّمه وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام الأمم المتحدة في فبراير/شباط 2003، على الرغم من أنَّ البعض داخل الإدارة الأمريكية قد أصدر بالفعل إشعاراً استخباراتياً بأنَّ هذه المعلومات لا يمكن الوثوق بها.
يجدر تذكر أنَّ صدام كان يمتلك أسلحة دمار شامل وذلك حسبما قال تقرير شبكة BBC البريطانية، فقبل أسابيع قليلة من حرب عام 2003، زار المراسل الأمني جوردون كوريرا قرية حلبجة في شمال العراق، وسمع السكان المحليين يصفون يوماً في عام 1988 حين ألقى جيش صدام أسلحة كيميائية عليهم. وحقيقة ما حدث لتلك الأسلحة لم تظهر إلا بعد الحرب.
كان صدام قد أمر بتدمير جزء كبير من برنامجه لأسلحة الدمار الشامل في أوائل التسعينيات بعد حرب الخليج الأولى حسبما قالت شبكة BBC البريطانية؛ وذلك على أمل الحصول على فاتورة صحية نظيفة من مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة، كما قال أحد كبار العلماء العراقيين في وقت لاحق.
ربما كان الزعيم العراقي يأمل إعادة تشغيل البرامج في وقت لاحق. لكنه دمر كل شيء سراً؛ وفق تقرير شبكة BBC البريطانية ويرجع ذلك جزئياً للحفاظ على خدعة أنه ربما لا يزال لديه شيء يمكنه استخدامه ضد الجارة إيران، التي كان قد خاض معها حرباً للتو. لذلك عندما طلب مفتشو الأمم المتحدة من العراق في وقت لاحق، إثبات أنه دمر كل شيء، لم يستطِع ذلك.
البحث عن أسلحة الدمار الشامل
بحلول نهاية عام 2002، عاد مفتشو الأمم المتحدة إلى العراق بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل. وتذكر بعض هؤلاء المفتشين، الذين تحدثوا إلى شبكة BBC لأول مرة، البحث في المواقع التي تشير معلومات استخباراتية من الغرب إلى أنَّ المعامل المتنقلة قد تكون مقراً لها. لكنهم لم يجدوا سوى ما قد يسمونه "شاحنة آيس كريم عظيمة" مغطاة بأنسجة العنكبوت.
لم يعلم الجمهور في ذلك الوقت قط أنه مع اقتراب الحرب، وفشل المصادر في تسليم المعلومات الموعودة وعجز المفتشين عن الحصول على أدلة، كانت هناك مخاوف. "الذعر" هو الكلمة التي استخدمها أحد المطلعين لوصف الوضع آنذاك. وقال بلير بنصف مزاح للسير ريتشارد في يناير/كانون الثاني 2003: "مستقبلي بين يديك"، بينما كان الضغط يتزايد لإيجاد دليل على أسلحة الدمار الشامل.
يتذكر السير ريتشارد الآن: "كان الأمر محبطاً في ذلك الوقت". واتهم السير ريتشارد المفتشين بأنهم "غير أكفاء"؛ لفشلهم في العثور على أي دليل. وقال هانز بليكس، الذي قاد عمليات التفتيش الكيميائية والبيولوجية التابعة للأمم المتحدة، لشبكة BBC، إنه حتى بداية عام 2003، كان يعتقد أنَّ هناك أسلحة، لكنه بدأ يشك في وجودها بعدما فشلت المعلومات الاستخباراتية في تقديم أدلة مؤكدة. وأراد مزيداً من الوقت للحصول على إجابات لكنه لم يحصل عليه.
إنَّ الفشل في العثور على "دليل قاطع" لن يوقف الحرب في مارس/آذار 2003.
تجنب العمل العسكري
في حين قال توني بلير لشبكة BBC: "حاولت حتى اللحظة الأخيرة تجنب العمل العسكري". وعرض عليه الرئيس جورج بوش، خوفاً من أن يخسر حليفه تصويتاً في البرلمان عشية الحرب، في مكالمة فيديو، الفرصة للتراجع عن الغزو والمشاركة فقط في أعقابه، لكن رئيس الوزراء البريطاني رفض ذلك.
كما دافع عن قراره بأنه مسألة مبدأ من حيث الحاجة إلى التعامل مع صدام حسين، وكذلك بسبب الحاجة إلى الحفاظ على العلاقة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وقال بلير: "كان من الممكن أن يكون للانسحاب تأثير كبير على العلاقة".
لكن لم يُعثَر على أسلحة دمار شامل بعد ذلك. ويقول ضابط سابق في جهاز المخابرات السرية البريطاني: "لقد انهار كل شيء"، متذكراً مراجعة داخلية للمصادر بعد الحرب. وهذا من شأنه ترك عواقب عميقة ودائمة في عمل وعلاقات كل من الجواسيس والسياسيين.