يُمكن اعتبار وساطة الصين في الاتفاق الدبلوماسي الجديد بين السعودية وإيران أكثر الأدلة الملموسة على استعداد بكين لاستغلال نفوذها العالمي، من أجل المساعدة في حل النزاعات الأجنبية. ويدق هذا التطور المفاجئ أجراس الإنذار في واشنطن، ليُنبهها إلى أن الصين أصبحت قوةً اقتصادية ودبلوماسية صاعدة، رغم الدور التاريخي للولايات المتحدة، وخصيصاً في الشرق الأوسط والخليج، بحسب صحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
استئناف العلاقات السعودية الإيرانية: صعود قوي للدبلوماسية الصينية
ربما شاركت بكين في المحادثات الدولية السابقة، لكن الاتفاق الأخير يضيف قيمةً جوهرية لمبادرات بكين، التي تقول إنها تمثل النموذج الجديد لإدارة العلاقات الدولية.
ولا تزال الولايات المتحدة تحتل الصدارة في القوة العسكرية، وتقديم المساعدات، والنفوذ السياسي بالمنطقة. لكن الصين هي أكبر شريك تجاري للشرق الأوسط، مع دور يتسع سريعاً في مجالات الاستثمار وإنشاءات البنية التحتية.
وقال توفيا غيرينغ، الأكاديمي في مركز الصين العالمي بـAtlantic Council: "كانت الولايات المتحدة هي القوة التي لا بديل عنها في الماضي. لكن الصين أصبحت قوةً لا بديل عنها في الشرق الأوسط الآن -وهذه حقيقة".
إذ عمل شي جين بينغ على تكوين علاقات مع مختلف دول الشرق الأوسط، ومنها إيران والسعودية. حيث زار شي البلدين والتقى بزعيم كل منهما في الأشهر الأخيرة، كما رحّب بهما في الحوارات الأمنية والإقليمية التي استضافتها الصين، ووقف بجانبهما في وجه الانتقادات الغربية، كما دعم الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية للبلدين.
الصين تزيح أمريكا وتتحوّل لبديل دبلوماسي مرغوب لدى الأطراف المتنازعة
ويحاول شي جين بينغ خلق دورٍ للصين كقوةٍ عالمية تتصرف بشكلٍ يختلف عن الولايات المتحدة وينافسها بقوة، وتوفر بديلاً جيوسياسياً أمام الدول الأخرى، وذلك منذ وصوله إلى السلطة قبل 10 سنوات.
وبعد وقتٍ قصير من الهجوم الروسي على أوكرانيا العام الماضي، أطلق شي حملته الدبلوماسية الجديدة بعنوان "مبادرة الأمن العالمي" التي تدعو إلى توفير "أمن لا يتجزأ". وقال متخصصو السياسة الخارجية إن هذه المبادرة تمثل محاولة لتمييز الصين، بعيداً عن مفهوم "الأمن الجماعي" الذي يعتمد عليه نظام التحالف الأمريكي، والذي تخشى بكين تعبئته لكبح جماح طموحاتها.
ونصّت مبادرة شي الأمنية الغامضة على مبدأ بارز يصف الصين بأنها عازمة على "حل الخلافات والنزاعات بين الدول سلمياً من خلال الحوار والتشاور، ودعم كل الجهود المفضية إلى تسويةٍ سلميةٍ للأزمات"، وذلك وفقاً لتحليل المشروع بواسطة مانوج كوالراماني، خبير الشأن الصيني في مركز Takshashila Institution الهندي.
الصين تقوّض النفوذ الأمريكي في المنطقة
تقع إيران والسعودية على طرفي الشقاق بين السنّة والشيعة، وهو عداءٌ يتردد صداه في كل أرجاء الشرق الأوسط بسبب خلافات الرياض وطهران. وكما هو حال الصين، يمتلك البلدان أنظمة حكم تتسم بالاستبداد، وتربطها علاقات متوترة بالولايات المتحدة.
ووصفت وكالة أنباء Xinhua الصينية محادثات يوم الجمعة، 10 مارس/آذار، بأنها "فتحت صفحةً جديدة في العلاقات السعودية-الإيرانية". بينما قال وزير الخارجية وانغ يي إن هذا التفاعل "يضرب المثل في حل النزاعات والخلافات بين الدول، من خلال الحوار والتشاور".
ولا شك أن تعامل شي الودي مع إيران والسعودية جعل الأمر يبدو كأنه بغرض تقويض النفوذ الأمريكي، كما تقول صحيفة وول ستريت جورنال، تماماً كما تفعل الصين من خلال علاقتها القوية مع روسيا. وبدا أن وانغ يي يوجّه انتقادات مبطنة إلى الولايات المتحدة في يوم الجمعة، عندما قال إن الاتفاق السعودي-الإيراني أظهر كيف "يتخلص البلدان من التدخل الخارجي، ليرسما مستقبل الشرق الأوسط ومصيره بأيديهما"، لكنه لم يذكر الولايات المتحدة صراحةً.
ما الفائدة التي يمكن أن تعود على واشنطن من الاتفاق الإيراني السعودي؟
مع ذلك، يحمل الاتفاق السعودي-الإيراني بعض المزايا المحتمَلة بالنسبة للولايات المتحدة، ولا يصبّ في صالح الصين فقط. حيث إن زيادة استقرار الشرق الأوسط ستساعد في تهدئة النزاعات الإقليمية بأماكن مثل اليمن، مما سيسمح لواشنطن بتحويل بعض قوتها النيرانية العسكرية "لاستعراض عضلاتها" في تايوان، والفلبين، وغيرها من المناطق.
بينما سيتجلى الاختبار الحقيقي لمكاسب الصين من الاتفاق في حال انهيار العلاقات لاحقاً. وحذّر غيرينغ قائلاً: "للنجاح آباء كثر، لكن الإخفاق يعيش يتيماً"، حسب تعبيره.
وتُصر إدارة بايدن على أنها لطالما كانت مؤيدةً لأي ترتيب يُمكنه المساعدة في تهدئة توترات الشرق الأوسط، وضمن ذلك استئناف العلاقات السعودية-الإيرانية. ومع ذلك، يقول المسؤولون الأمريكيون إنهم يشكّون في وفاء إيران بالتزاماتها، لكنهم سيراقبون الوضع عن قرب.
ولا شك في أن دور الوساطة الصيني في إعادة التقارب يمثل مصدر قلق، لأنه مرتبط بمعركة النفوذ بين واشنطن وبكين داخل المنطقة وخارجها. لكن المسؤولين يقولون إنه لم يتضح بعدُ ما إذا كانت الجهود الصينية ستكلل بالنجاح أم لا.
من جهته، ذكر المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي، الجمعة، أن السعودية أبقت واشنطن على اطلاع بشأن محادثاتها مع إيران لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، لكن الولايات المتحدة لم تشارك فيها بصورة مباشرة.
قال كيربي إن خارطة الطريق التي أُعلنت اليوم كانت فيما يبدو، نتيجة لعدة جولات من المحادثات التي عُقد بعضها في بغداد وسلطنة عمان، موضحاً أن الولايات المتحدة أيّدت هذه العملية باعتبار أنها تسعى لإنهاء الحرب في اليمن وما وصفه "بالعدوان الإيراني". وأضاف: "السعوديون أبقونا بالفعل على اطلاع بشأن هذه المحادثات التي كانوا يجرونها، تماماً مثلما نبلغهم بأنشطتنا، لكننا لم نشارك بصورة مباشرة".