ليس من الإنصاف أن نحكم على مصير الثورات العربية في تلك المرحلة الحرجة التي تمر بها، ومن المجحف أن ندعي أو نظن أن الأمر انتهى بها عند ذلك الحد المتردي من الخلافات المحتدمة بين الثوار بعضهم البعض، وبينهم وبين الشعوب المترقبة، وبين الشعوب وحكامها الجدد أصحاب الثورات المضادة والتي استطاعت في غفلة من الثوار أن تعتلي الموجة وتصب جام غضبها على كل ما يمثل الثورة والثوار وذلك بالتنكيل والاعتقال والقتل والمطاردة.
ها هي ذكرى اليوم العالمي للمرأة تمر بأجواء تشهدها بلاد الربيع العربي بأشد ضراوة عما كانت عليه قبلها، من فقر وجوع ومرض ومستوى تعليمي متدنٍّ وانتهاك للحريات والكرامة على يد الأجهزة الأمنية، أضيف إليها القتل المتعمد بالتصفيات الجسدية بدم بارد لمجرد الاشتباه، وأضيف إليها الملاحقة الأمنية التي حرمت الأسرة من عائلها، بل أصبحت هي ذاتها ملاحقة من تلك الأجهزة لمشاركتها في الثورة منذ اليوم الأول وتلبيتها نداء الحرية جنباً إلى جنب بجوار الرجل "الأب أو الزوج أو الابن"، أضيف للمعاناة التي كان يقع ثقلها على عاتق المرأة من مصيبة التهجير واضطرارها للهروب ومغادرة الأوطان هروباً بحياتها وحياة أبنائها.
تعاني المرأة العربية من حالة من التردي غير المسبوق، وتتعرض لحالة من العنف غير المبرر بدءاً من مصر الكنانة مروراً بسوريا واليمن والعراق، وسأعرض في هذا المقال حال المرأة المصرية كنموذج لمثيلتها في بقية بلدان الربيع العربي.
فمنذ اليوم الأول للثورة المصرية كانت المرأة حاضرة تذود عن بلادها وتدافع عن قضاياها التي طالما عانت من نيرها، لم تأبه في ذلك بمواجهة قنابل الغاز والخرطوش والرصاص الحي، وكان ميدان التحرير يعج بالنساء والفتيات في مختلف الأعمار ومختلف التوجهات ومختلف الثقافات كذلك.
على مدار 18 يوماً وهي معتصمة بميدان التحرير وميادين المحافظات، تشعلها بالهتاف تارة والمشاركة الطبية وإعداد الزاد للثوار، لم تهرب ولم تفتر ولم تلن ولم تهرب وقت الشدائد، بل كانت دوماً في مقدمة الصفوف ثائرة تثبت من حولها، ومثل وعي المرأة المصرية وثباتها حالة تصدرت صورها وأخبارها وكالات الأنباء العالمية وما زالت أثناء الثورة وما بعدها.
انتهاكات ضد المرأة المصرية
تضاعفت معاناة المرأة المصرية بعد الانقلاب العسكري مثلما عانت منه كل فئات الشعب، خاصة أولئك المتصدرين لمشهد التغيير والرافضين له منذ اللحظة الأولى، فقد مثل النظام المصري الجديد حالة من التحدي للأحرار والحرائر بعد أن ذاق الشعب حريته بعد ثورة الـ 25 من يناير المجيدة، فدعا ذلك الثوار للنهوض من جديد في تظاهرات فاقت في مجموعها الموجة الأولى للثورة بعدما أصبحت المعركة وجودية وسقطت الأقنعة العسكرية لتظهر مطامع العسكر ليس في الحكم وحده، وإنما في نهب ثروات البلاد والاستحواذ عليها بانفراد دون السماح للشعب بأي متنفس أو أي فرصة لحياة كريمة.
وهبت المرأة التي شاركت في الثورة منذ اليوم الأول لتواصل نضالها ضد الانقلاب؛ مما دفع النظام لتجاوز كل خطوط المسموح، واستخدام كل وسائل العنف ضدها بدءاً من الاعتقال والاغتصاب لفتيات الأزهر والفتيات المعتقلات فضلاً عن الملاحقة، وحتى القتل وأحكام الإعدام والإخفاء القسري والمحاكمات التي تفتقد أدنى مقومات العدالة.
لقد سجلت صفحات النضال المصري أسماء شهيدات ارتقين في أبشع جريمة عرفتها البشرية في العصر الحديث، مجرزة رابعة وما تبعتها من فعاليات لم تخلُ إحداها من شهيد أو شهيدة، قدمت المرأة المصرية عدد 140 شهيدة بين رابعة والنهضة والمسيرات الرافضة للانقلاب، قدمت عشرات المعتقلات، وعشرات المحكوم عليهن منها أحكام وصلت للإعدام، ومنها قضايا أمام المحاكم العسكرية في سابقة لم تعرفها البلاد، ووصل الأمر لوضع أسماء نساء على قوائم الإرهاب ومصادرة الأموال ليصل قمع المرأة في مصر لحد لم يشهده العالم من قبل.
هذا غير عشرات الآلاف من النساء اللاتي أصبحن فجأة مسؤولات عن عائلاتهن مسؤولية كاملة بعدما حرمها النظام من عائلها خلف السجون التي تحوي عشرات الألوف من المظلومين والذين قضوا فوق الأربع سنوات تحت الاحتياط دون محاكمة ودون أحكام، لتظل المرأة المصرية رهينة الاحتياج، والفقر والهرولة بين السجون والمعتقلات بحثاً عن الزوج والابن مطالبة بتوفير متطلبات الحياة للمعتقلين، وفي ذات الوقت تحمل المسؤولية الكاملة عن أسرتها في صبر مذهل وإصرار عجيب على استكمال مسيرتها النضالية والحياتية.
دور المرأة في الخلاص من الظلم الواقع عليها
أدرك النظام المصري منذ اليوم الأول خطورة الدور الذي تلعبه المرأة في مقاومته وإصرارها على التضحية باستماتة فوضعها في نفس خانة الاستباحة مع الرجل، وبالرغم من أن البلاد تمر بأسوأ حالاتها على كل المستويات الحقوقية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، إلا أنها ما زالت تستطيع ببعض التنظيم وتوحيد الجهود أن تبذل ما هو أكثر لاستعادة قوة المسار الثوري وتحريك الشارع من جديد خاصة في ظل تلك الحالة المتردية من الفقر، والتي كسرت بعض حواجز الخوف لدى المصريين رغم القمع الأمني لانتظار من يشعل فتيل الثورة.
المرأة المصرية المبدعة ما زالت تملك كثير من الأدوات والتي لم تستخدمها بعد والتي يمكن من خلالها أن تجبر العالم على الاستماع لها والتوقف عن دعم الديكتاتور، وتخلي بينه وبين الشعب لتحين ساعة الخلاص.
هنا أذكر الحرائر في مصر بالتجربة الأرجنتينية، والتي أجبرت إمبراطور الأرجنتين على التنحي في العالم 1981 لمجرد خروج مجموعة من أمهات المختفين قسريا في ظل نظام عسكري شمولي فاشي لتخبر العالم الذي سلط الأضواء على تلك البلاد لتنظيمها مباريات كأس العالم في ذلك العام وفي وقفت صمت بمجموعة من اللافتات تعبر أن تلك دولة قمعية، ليخرج الدكتاتور ويعترف لأول مرة بوجود ما يسمى بالإخفاء القسري ثم يجبر على تقديم استقالته.
مجموعة أمهات خرجن في صمت يحملن صور أبنائهن يجبرن نظاماً على الرحيل، وفي مصر التي تمتلئ سجونها بـ 60 ألف معتقل، غير الفتيات والنساء والأطفال والمختفين والشهداء، كم تستطيع المرأة المصرية تقديمه إذا تم توحيد تلك الأصوات للتعبير عن الرفض الصامت لانتهاك حرمة ذويهم؟
هناك سلاح المقاطعة للسلع خاصة سلع تلك الدول التي ما زالت تساند الانقلاب وعلى رأسها أمريكا وما يسمى بإسرائيل، ماذا لو تم مقاطعتهم اقتصادياً وهؤلاء لا يعرفون سوى لغة المصالح والكسب؟
وتحريك المنظمات الحقوقية العالمية ورفع القضايا الدولية خاصة بعد انتهاك حرمة النساء والتواصل مع المنظمات غير الرسمية ووسائل الإعلام المختلفة لفضح ممارسات النظام وتعريته أمام الرأي العام العالمي.
هناك الكثير من الوسائل والأوراق التي يمكن للمرأة إذا اتحدت الأصوات أن تقدمها وتفاجئ بها الانقلاب دون أن تعرض نفسها لمزيد من الاستهداف وتلفت أنظار العالم إلى أن هناك شعباً يئن لكنه ما زال يرفض الاستسلام.
إن ما يحدث بمصر من الانتهاكات الإنسانية خصوصاً الموجهة منها للنساء ما عاد يحتمل، والأحكام المسيسة والجائرة على الحرائر ما عاد مقبولاً، وأصبح واجباً على المنظمات الدولية أن تتحرك بشكل قانوني وسياسي لفضح تلك الممارسات وملاحقة النظام الغاشم لإيقافها، بل تقديم التعويضات الكافية على إجرام إنساني يخالف كافة الأعراف والأخلاق الدولية فضلاً عن الإسلامية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.