حالة من التوتر الداخلي وتظاهرات غير مسبوقة تعيشها إسرائيل في الأسابيع الماضية تنذر بوقوع الحرب الأهلية على خلفية التعديلات القضائية التي ينوي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتحالفه الحاكم تمريرها في الكنيست.
هذا الوضع الحالي دفع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الخميس 9 مارس/آذار 2023، لحث حكومة نتنياهو على التخلي عن محاولات تمرير خطط متنازع عليها بشدة لإصلاح القضاء، والسعي للوصول إلى نموذج يحظى بدعم واسع، مع عودة عشرات الآلاف من المحتجين إلى الشوارع.
وبعد أسابيع من الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، التي كشفت عن انقسامات عميقة في المجتمع الإسرائيلي، حذّر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي كان يتوسط بين الجانبين، من "كارثة"، في خطاب بثه التلفزيون في وقت الذروة.
وقال الرئيس الإسرائيلي إن إسرائيل وصلت إلى "نقطة اللاعودة"، ودعا الحكومة الائتلافية إلى إعادة النظر في التشريع المقترح، الذي تدعمه بقوة الأحزاب القومية والدينية. وأضاف: "هذا خطأ… إنه يقوّض أسسنا الديمقراطية، وبالتالي يجب استبداله بخطوط عريضة أخرى متفق عليها على الفور".
تحذير من "الحرب الأهلية"
تحذير الرئيس الإسرائيلي لم يكن وحده؛ إذ تطرق عدد من المحللين إلى مصطلح "الحرب الأهلية" الذي أصبح أكثر انتشاراً في الحوارات الإسرائيلية اليوم، لكنه لا يُستخدم كمجرد صورةٍ بلاغية.
إذ أصبح المصطلح بمثابة تعبيرٍ عن القلق الغامر وغير المسبوق الذي ينتاب الإسرائيليين، ويختلف عن أي شيء عايشوه من قبل، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
ويعني مصطلح "الحرب الأهلية" في اللغة العبرية "حرب الإخوة"، ما أثار حالة كبيرة من الرعب والذعر بين الإسرائيليين بسبب انتشار مشاعر الكراهية والاحتقار والرعب الصريح علانية.
وبدأ الأمر كمعارضةٍ لإصلاحات قضائية مثيرة للجدل في صورة "عصيان مدني"، لكنه يتضخم الآن ليتحول إلى شيءٍ أكبر.
حيث يشارك مئات الآلاف من الإسرائيليين في احتجاجات وإضرابات أسبوعية منذ أكثر من شهرين، اعتراضاً على التغييرات القضائية التي تراها الحكومة "إصلاحات"، بينما تعتبرها المعارضة بمثابة "انقلاب".
ولم ترتدع الحكومة بسبب تلك الاحتجاجات، لكن الاستياء يكبر أكثر فأكثر على الجانبين.
وقد بدأ الساسة، ورئيس استخبارات سابق، ومحللون، في دق أجراس "الحرب الأهلية" اليوم. فيما بدأ ألد أعداء الدولة يلاحظون الأمر أيضاً.
وبدأت لعبة تبادل الاتهامات بين الطرفين من ناحيةٍ أخرى. ولا يعلم أحد متى سيتحقق هذا السيناريو -إن تحقق من الأساس-، لكنّ مجرد الحديث عن الأمر يحمل قدراً لا بأس به من الخطورة.
أمرٌ متوقع منذ زمن
وبحسب الموقع البريطاني فإن المناخ السائد اليوم في إسرائيل موجود منذ فترة طويلة، وأطول مما يجرؤ أي شخصٍ على الاعتراف به.
فبعد الجولة الرابعة غير الحاسمة من الانتخابات البرلمانية، في مارس/آذار عام 2021، عرض برنامج السخرية السياسية الشهير Eretz Nehederet مشهداً دق ناقوس الخطر، واحتوى المشهد على إسرائيلي مُحنّك يُقدم حَلَّه لأزمة الجمود السياسي التي تعاني منها البلاد، حيث قال: "يتمثل الحل الوحيد في الحرب الأهلية".
ويقاتل اليهود السفارديون ضد الأشكناز، واليسار ضد اليمين، والأغنياء ضد الفقراء، والمتدينون ضد العلمانيين، لا يهم. المهم ألا يكون العرب طرفاً في الحرب.
وحظي هذا المقطع بشهرةٍ بين الجمهور الإسرائيلي آنذاك لأنهم وجدوه مضحكاً. لكن عند الاستماع إليه اليوم، يبدو المشهد أشبه بنبوءة مرعبة على وشك أن تتحقق الآن.
ومؤخراً، أصدر رئيس الشاباك الأسبق يوفال ديسكين تحذيره الخاص. ففي أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، كتب ديسكين مقالاً لصحيفة Yediot Ahronot بعنوان "على حافة الحرب الأهلية"، قبل أيامٍ من الانتخابات التي شهدت صعود الحكومة القومية المتطرفة الحالية إلى السلطة.
حيث تنبأ ديسكين بما سيحدث لاحقاً، وأسند تحليله إلى حالة التفكك التي تضرب التماسك الاجتماعي الداخلي، والتي جادل بأنها جارية الآن. وصدمت صراحته الكثيرين آنذاك، ما دفعهم إلى المسارعة لتوبيخه ومحاولة إثبات أنه على خطأ.
وبعد مضي ستة أشهر، أظهرت الاستطلاعات أن ثلث الإسرائيليين يوافقونه ذلك الرأي. إذ كشف استطلاع أجرته مؤسسة Israeli Democracy Institute، في فبراير/شباط الماضي، أن ثلث المشاركين لديهم قناعة باحتمالية اندلاع حرب أهلية عنيفة. بينما ترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 50% بين المشاركين في الاحتجاجات.
وبعيداً عن العنف الجسدي، بدأت حرب الكلمات تتكشف بالفعل. إذ يُشبِّه المحتجون الحكومة بالنازيين، بينما يُشير إليهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بـ"الفوضويين في المعسكر الآخر".
وفي آخر احتجاج كبير، الأسبوع الماضي، غيّرت الشرطة استراتيجية ضبط النفس التي اتبعتها منذ بداية المظاهرات. حيث فرّق ضباط الخيالة التظاهرة بعنف، واعتمدوا على قنابل الصوت ومدافع الماء، واستخدموها بشكلٍ تعسفيٍ أحياناً. كما تعرض العشرات للإصابة أو الاعتقال.
وعلى الجانب الآخر، انتقد نواب الحكومة والمعارضة المحتجين لأنهم حاصروا سارة نتنياهو (زوجة رئيس الوزراء)، ومنعوا خروجها من صالون تجميل في الأسبوع الماضي. ووصف ابنها يائير نتنياهو الواقعة بأنها محاولة "قتل تعسفي بواسطة إرهابيين".
وقد نجد أن أصول الوضع الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي اليوم ترجع إلى عام 1995، عندما تعرض رئيس الوزراء اليساري إسحاق رابين للاغتيال، وذلك على يد الناشط اليميني المتطرف إيجال عامير.
ويقول الخبراء إن الحروب الأهلية تبدأ بالاغتيالات رفيعة المستوى تاريخياً، لكنها تأخذ وقتها حتى تتطور إلى نزاعٍ شامل. فهل وصلت إسرائيل إلى تلك اللحظة بالفعل؟
مؤشرات الحرب الأهلية
أجرى جاد بارزيلاي، أستاذ جامعة حيفا، أبحاثاً مطولة حول مؤشرات الحروب الأهلية. وتنبّأ بأن إسرائيل ربما تسلك ذلك الطريق الآن.
وصرح بارزيلاي لموقع Middle East Eye البريطاني قائلاً: "يحمل الناس صورةً خاطئة عن الشكل الذي يجب أن تبدو عليه الحرب الأهلية. إذ لا يجب أن تكون لوحةً لأشخاص ينحرون أعناق بعضهم بالفؤوس، بل يمكن أن تأخذ أشكالاً مختلفة".
وشرح أستاذ القانون والعلوم السياسية أن تلك الأشكال تشمل التالي: الفشل في التواصل بين نخب الدولة، أو انعدام الشخصيات والمؤسسات المركزية القادرة على التفاوض مع الأطراف المتنافسة، أو الخلافات الدستورية كما حدث في الحرب الأهلية الأمريكية مثلاً (1861-1865).
وتتأكد مخاوف بارزيلاي أكثر بسبب "المؤشرات الاجتماعية" التي يرى أنها تسبق الحرب الأهلية عادة، والتي يجادل بأنها موجودة في المجتمع الإسرائيلي اليوم.
وتُعَدُّ المشكلات المالية من بين المؤشرات الرئيسية، وقد أصبحت ملموسةً في الأشهر الأخيرة نتيجة استمرار الأزمة السياسية.
حيث تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل إسرائيل بالفعل. ويمكن أن تؤدي الصعوبات الاقتصادية إلى تأجيج الاحتكاكات الاجتماعية-الاقتصادية أكثر، خاصةً في مجتمع مليء بالتوترات العرقية بين اليهود المزراحيين (من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) والأشكناز (من أصول أوروبية).
لكن خطر الحرب الأهلية لا ينطلق من قاعدةٍ شعبية، بل يجادل بارزيلاي بأن مصدره هو السلطات المتنافسة. إذ قال: "تصوّر موقفاً يرفض خلاله قضاة المحكمة العليا التعاون مع القضاة المرشحين من الحكومة، باعتبارهم "قضاةً معينين سياسياً". فماذا سيحدث لو رفض مئات القضاة الجلوس معهم؟ ما الذي ستفعله نقابة المحامين الإسرائيلية عندها؟ وماذا سيحدث لو أنشأ المستوطنون بؤرةً غير قانونية جديدة في الضفة الغربية المحتلة، ولم يكن مسموحاً للجيش بإخلائها؟".
سيؤدي هذا إلى ظهور "إسرائيلين" و"تقسيم السيادة"، وقد بدأت هذه العلامات تظهر بالفعل وفقاً لبارزيلاي.
وبدأت فكرة "الإسرائيليين" تكتسب رواجاً أكبر اليوم، حيث تُمثل إحداهما إسرائيل العلمانية الليبرالية، بينما تُمثل الأخرى إسرائيل الثيوقراطية. أي إننا أمام كيانين منفصلين يشبهان إسرائيل ويهوذا، كما كان الوضع في العصور القديمة بالضبط.
ولن يؤدي هذا الانقسام إلى حربٍ أهلية بالضرورة، لكنه يلخص عجز المعسكرات اليهودية المتنافسة عن التعايش معاً في بلدٍ واحد.
الأقصى.. وليس الديمقراطية
يتنبأ ديفيد باسيج، عالم المستقبليات والأستاذ المساعدة بجامعة بار إيلان، باندلاع حربٍ أهلية في إسرائيل منذ سنوات.
لكنه يؤمن بأن "ذريعة الحرب" ستكون المسجد الأقصى في القدس الشرقية المحتلة، وليس الديمقراطية التي تمثل محور التوترات والاحتجاجات الحاشدة في إسرائيل اليوم.
ويقع المسجد الأقصى حالياً داخل نطاق اتفاقية الوضع الراهن الدولية، التي تنص على السماح للمسلمين فقط بالصلاة داخله. بينما تدعو جماعات المستوطنين، بدعم من وزرائهم ونوابهم، إلى تغيير ذلك الوضع الراهن منذ سنوات. كما اعتادوا انتهاك الاتفاقية بالصلاة داخل حرم المسجد الأقصى في حماية قوات الجيش الإسرائيلي.
وأوضح باسيج للموقع البريطاني: "يمثل جبل الهيكل تجسيداً لماهية الدولة اليهودية في عيون العديد من اليهود. وبدون جبل الهيكل، ستفقد الدولة سبب وجودها بالنسبة لهم. ولا أظن أن الديمقراطية تحمل القيمة نفسها. ولن يحدث ذلك إلا في حال تحولت الديمقراطية إلى ديانة، بدلاً من مجرد نظام حكم يمكن إصلاحه. وليس هذا مستحيلاً بالكامل، لكنني لا أتوقع حدوثه الآن".
وهناك عامل آخر يدفع باسيج للشك في أن الاحتجاجات الحالية قد تؤدي إلى حربٍ أهلية، ألا وهو انعدام الرغبة المتساوية لدى الجانبين في خوض مواجهةٍ جماعية. حيث جادل بأن المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية هم فقط من يشعرون بأنهم يخوضون معركة العمر من أجل إنقاذ وطنهم، بينما يتمثل أسوأ السيناريوهات على الجانب الآخر في التخلي عن خطة إصلاح القضاء ببساطة.
وأردف باسيج: "أشك في أن ذلك 'الجانب الآخر' يمكن استدراجه إلى الشوارع من أجل إصلاحات قضائية". لكنه أضاف أن نقطة التحول ستأتي في حال انضم فلسطينيو الداخل إلى حركة الاحتجاج.
يُذكر أن فلسطينيي الداخل يمثلون نحو 20% من إجمالي السكان. ورغم أنهم سيصبحون من أوائل ضحايا "إصلاحات" الحكومة على الأرجح، لكنهم قاطعوا المظاهرات اليهودية الصهيونية بشكلٍ علني. بينما يقول بعضهم إنهم تعرضوا للحظر أو الإبعاد عن الاحتجاجات.
ويُعَدُّ غيابهم الواضح بمثابة درعٍ يحمي الاحتجاجات من عنف اليمين الإسرائيلي المتطرف. إذ لا تزال هناك بعض القيود الراسخة فيما يتعلق بقتال اليهود ضد بعضهم، حتى الآن.
وقال باسيج: "لكن في حال انضم العرب إلى الاحتجاجات، فقد يمثل ذلك نقطة تحولٍ في طبيعة المواجهة. إذ سيؤدي وجودهم في الاحتجاجات إلى زيادة غضب اليمين المتطرف، وسنجد أنفسنا أمام معادلةٍ جديدة وقتها. وينطبق الأمر ذاته على إلحاق الضرر الجسدي بقائدهم، حتى ولو بصورةٍ غير متعمدة. ومن الواضح أن شيئاً كهذا سيدفع الجانب الآخر إلى النزول للشوارع، وهناك العديد من العوامل التي لا يمكن السيطرة عليها أو التنبؤ بها".
ولا يزال غالبية الإسرائيليين إما غير مؤمنين بأن الحرب الأهلية أصبحت خياراً مطروحاً، أو مترددين في الاعتراف لأنفسهم بأنها احتمالية قائمة.
وينتشر الخوف سريعاً، كما هو حال السم بالضبط. بينما ستروي جراح المجتمع القديمة المواجهة الجديدة. لكن جميع التقديرات والتوقعات ستظل عرضةً للتغيير، في ظل وجود الكثير من المعطيات الخارجة عن السيطرة، ومع هيمنة القيادة ذاتية التركيز على المشهد السياسي.