الأحداث الأخيرة التي عايشها المجتمع الكروي الألماني واللاعب الألماني ذو الأصول التركية مسعود أوزيل حركت الكثير من المياه الراكدة في قضية "العنصرية" التي يبدو أن الكثير من المجتمعات الاوروبية لا زالت متجذرة فيها بالرغم من محاولة البعض "استئصالها"، إلا أن الأحداث الأخيرة الخاصة باللاعب أوزيل أخبرتنا بأنه –للآسف– ما زالت موجودة وبقوة حتى إن حاول "القِلة القلِيلة" من العقلاء في المجتمعات الأوروبية نفيها. وكثيراً ما شهدت ملاعب كرة القدم الأوروبية حوادث "عنصرية" كانت محل استهجان واستنكار الكثير من المسؤولين والمشجعين، ودعا الجميع لنبذ هذا "السرطان" الذي بدأ يتغلل في الملاعب الأوروبية تجاه بعض اللاعبين على أساس لونهم أو دينهم أو عرقهم أو طبقة اجتماعية مختلفة.
عقوبات ضعيفة تُشجع على تكرار الفعل
إذا نظرنا إلى الحوادث التي تقع في الملاعب الأوروبية تجاه بعض اللاعبين، نجد أن "العقوبة" التي يتم توقيعها على اللاعبين أو الجماهير أو الأندية ضعيفة جداً ولا تتساوى مع الحادثة نفسها، فكثيراً ما نجد أن الاتحادات الكروية تكتفي بفرض "عقوبات مالية" وهي عقوبة غير كافية لفعل بهذا الحجم.
وأتى تصريح لرئيس الاتحاد الدولى السابق "سيب بلاتر" عن أنه لا عنصرية في ملاعب كرة القدم وأن أي حادث من هذا النوع يمكن تفاديه بمصافحة بنهاية المباراة، هذا التصريح من أعلى قمة كروية حينها تسبب بغضب عارم من أن الاتحاد الدولي لا يعترف بحجم هذه المشكلة ما يجعل اللاعبين والجماهير يتمادون في توجيه إساءاتهم.
وطالب الكثيرون من رئيس الاتحاد الدولى بالاستقالة من منصبه إذا كانت رؤيته لهذا "السرطان" في الملاعب الرياضية بمثل هذا الحجم، وبالرغم من اعتراف جميع الاتحادات الكروية لاحقاً وعلى رأسها الاتحاد الدولى لكرة القدم "الفيفا" بأن "العنصرية" موجودة في ملاعب كرة القدم إلا أن التحدي الذي فشلت فيه هذه الاتحادات الكروية –حتى الآن- هو سن قوانين رادعة وحاسمة هو محل شك حتى الآن.
والحادثة الأخيرة للاعب الألماني ذي الأصل التركي "مسعود أوزيل" ليست الأولى ولن تكون الأخيرة بكل تأكيد ما لم تُسن قوانين حاسمة كفيلة "باجتثاث" هذه الظاهرة من ملاعب كرة القدم للأبد، وفيما يلي نستعرض معكم أشهر الحوادث والقصص المؤثرة والحزينة ذات الصبغة "العنصرية" التي واجهت لاعبي كرة القدم عبر ملاعب كرة القدم الأوروبية المختلفة، والتي عانى منها عدد من كِبار النجوم، بسبب لونهم أو عرقهم أو دينهم أو خلفياتهم الإجتماعية.
الدوري الإيطالي.. حوادث كثيرة وعقوبات ضعيفة
تعتبر الملاعب الإيطالية من أكثر الملاعب الأوروبية التي تحدث فيها حوادث "الإساءات اللفظية العنصرية" التي يتم توجيهها من المدرجات ولا تجد العقوبات الصارمة التي تحد من هذه الظاهرة، وهذا يرجع للنصوص القانونية الضعيفة التي يطبقها الاتحاد الإيطالي عند شروعه في معاقبة مرتكبي مثل هذه الأفعال.
وليس بعيد عن الأذهان حادثة اللاعب الغاني "سولي مونتاري" الذي يعتبر واحداً من سلسلة من الحالات الأخيرة من اللاعبين ذوي البشرة السمراء الذين تعرضوا للهجوم اللفظي من المدرجات، وبالرغم من احتجاجه لدى الحكم إلا أنه قوبل بكارت أصفر جعله يترك الملعب غاضباً وعدم استكماله للمباراة.
وفي عام 2005 وأثناء المباراة بين إنتر ميلان وفريق ميسنيا تعرض اللاعب الإيفوارى ماركو زورو مدافع فريق ميسينا لهتافات عنصرية منذ لحظة دخوله للإحماء قبل المباراة وأثناء المباراة ما جعله يهدد بمغادرة الملعب إلا أن لاعبي الإنتر وجزءاً من المشجعين وقفوا في صفه وتشجيعه لإكمال المباراة.
وكانت قمة العنصرية عندما صرح رئيس الإاحاد الإيطالي أثناء حملته الانتخابية عن اللاعبين السود عندما قال "في إنكلترا يتم التعرف أولاً على اللاعبين القادمين ويتم السماح لهم إذا كانوا من المحترفين.. نحن هنا في المقابل نستقبل الإفريقي الذي يعتاد أكل الموز في السابق ثم يتحول إلى لاعب في الفريق الأول للاتسيو".
هذا التصريح جلب الإحراج بشكل كبير للاتحاد الإيطالي والاتحاد الدولي الذي يعتبر الرجل فاعلًا في لجانه التنفيذية، ما حدا بالفيفا لإيقافه ستة أشهر عن ممارسة عمله في الاتحاد الدولى، ورغم هذه التصريحات الصادمة استطاع الرجل الفوز بمقعد رئيس الاتحاد الإيطالي في مفارقة صارخة تخبرنا بأن الجهود لاستئصال هذه الظاهرة قد تذهب أدراج الرياح بمثل هذه التناقضات.
ويعتبر تفشي ظاهرة العنصرية في الملاعب الإيطالية في إجراءات العقوبات ولكن معايير تطبيقها محددة جداً (مثل أن يكون الملعب بأكمله قادراً على سماع الإساءة) والتي يعتبر نادراً ما يتم استخدامه، وعندما يتم ذلك، يتم تعليق العقوبة بحيث لا تنطبق الغرامات إلا في حالة ارتكاب جريمة ثانية.
مشكلة أخرى هي أنه على الرغم من أن إيطاليا لديها تشريع قوي يغطي الإساءات العنصرية، فإن القانون يتطلب تعريفاً إيجابياً للأفراد المعنيين، ولا يمكن تحميل الأندية المسؤولية عن عدم التعرف على مرتكبيها، وهذا الأمر يتعلق جزئياً بخوف الأندية من إبعاد أكثر المشجعين حماسة.
الملاعب الإنكليزية.. عنصرية في طريقها للاختفاء
نسبة لشهرة الدوري الإنكليزي على مستوى العالم، نجد أن المسؤولين عن اللعبة لا يتهاونون في توقيع أقصى العقوبات ضد مرتكبي هذه الأفعال سواء مستوى اللاعبين أو المشجعين، وحتى القيادة السياسية نجدها تولى أمر محاربة "العنصرية والتمييز" أهمية قصوى من خلال التشريعات والقوانين التي تحد من هذه الظاهرة.
وهذا ما نجده في العقوبة الضخمة التي تم توقيعها على لاعب ليفربول "سواريز" عندما وجه إساءات عنصرية للاعب "باتريس أيفرا" بإيقافه ثماني مباريات وتغريمه 40 ألف جنيه إسترليني لما بدر منه، كما أن حادثة لاعب تشيلسي "جون تيري" مع اللاعب "فيرديناند" كان له أثر كبير في تجنب اللاعبين الدخول في مثل هذه المتاهات، وبالرغم من تبرئة اللاعب الإنكليزي "جون تيري" إلا أن الآثار التي طالته كانت قاسية جداً بسحب شارة الكابتن منه ومحاربته –بشكل خفي– من عدد كبير من اللاعبين أصحاب البشرة السمراء.
ويعتبر التحول الأبرز في إختفاء هذه الظاهرة هو اختفاء مجموعات "الهوليجانز" مثيري الشغب من الملاعب الإنكليزية الذين كانوا في أوج نشاطهم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي الذين كانوا بالإضافة لشغبهم خارج الملاعب وصدامهم مع بعضهم البعض ومع الشرطة، كانوا أيضاً مصدر إزعاج مستمر داخل الملاعب وأثناء سير المباريات بإلقائهم الهتافات العنصرية ضد اللاعبين سواء العرقية أو الدينية أو بسبب لون بشرتهم.
الملاعب الإسبانية.. الرد بأقدام اللاعبين
في الدوري الإسباني نجد أنه بالرغم من من كثرة اللاعبين أصحاب البشرة السمراء، فإن محاربة هذه الظاهرة نجدها في وعي اللاعبين في الدفاع عن أنفسهم ضد الهتافات التي تنال منهم ومن لون بشرتهم.
وهذا ما نجده في حادثة لاعب برشلونة الإسباني الكاميروني صامويل إيتو الذي واجه هتافات عنصرية من قِبل جماهير نادي ريال سرقطسة وإطلاق صوت القرود عند لمسه للكرة، ما جعله ينسحب من الملاعب ولكن تشجيع زملائه ومدربه ولاعبي الفريق الخصم جعله يكمل اللقاء بل وساهم بشكل كبير في فوز فريقه بمساهمته وصناعته للهدف الثاني الذي سجله المهاجم السويدي هنريك لارسون الذي استلم كرته من ايتو بالذات، ما جعل اللاعب يقوم بإبراز إشارة النصر في وجه جماهير نادي ريال سرقسطة ليكون أبرز رد ضد هتافاتهم ضده بسبب لون بشرته.
كما تعرض أيضاً اللاعب البرازيلي "داني ألفيش" لاعب نادي برشلونة في مباراة فريقه أمام فيا ريال عندما قام أحد مشجعي الفريق المنافس بإلقاء ثمرة موز عليه، والتي التهمها ألفيس على الفور قبل أن يقوم مباشرة بتنفيذ ضربة ركنية، وهو السلوك الذي أثار تعاطف ومساندة الكثيرين حول العالم، وعاقب نادي فياريال مشجعه المتهم بارتكاب السلوك العنصري في مواجهة ألفيس بحرمانه من دخول استاد النادي مدى الحياة.
الدوري الألماني.. الساسة من يشعلون نيران العنصرية
أضحت المانيا خالية من أي حوادث تفرقة أو تمييز -على الأقل- في دوري الدرجة الأولى المعروف بالبوندسليغا، وظهر هذا الأمر بشكل أكثر وضوحاً على مونديال ألمانيا 2006 الذي أظهر فيه الألمان للعالم أن أفكارهم قد تغيرت تماماً عن ماضيهم المعروف بأحداث التفرقة العنصرية خلال حقبة الحكم النازي، واتفق أغلب المتابعين بأن ألمانيا الحديثة التي تسع الجميع قد ولدت من جديد باحتوائها وتقلبها لكل الألوان والعرقيات في مجتمعها.
ولكن لأن هنالك دائماً شخص ما من يسير عكس التيار، برزت الأحزاب اليمينية المتطرفة على المشهد بنبذها للمهاجرين من الأصول غير الألمانية لتمثيل المنتخب الألماني، وهذا ما ظهر بقوة في حادثة اعتزال اللاعب مسعود أوزيل وبيانه الواضح بأن هنالك تتميزاً عنصرياً قد مُورس تجاه جعلته يعتزل اللعب مع المنتخب الألماني بالرغم من الشعبية الكبيرة التي يحوزها لدى الشعب الألماني.
فالأحزاب اليمينية جعلت إخفاق المنتخب في كأس العالم الأخيرة ذريعة لمهاجمة المهاجرين في شخص اللاعب مسعود أوزيل ذي الأصول التركية، وجعلته "شماعة" لخروج المنتخب بالرغم من المنتخب فيه لاعبين آخرين يتقاسمون الإخفاق نفسه، إلا أن التركيز على اللاعب ذي الأصول التركية كان أكثر كثافة مع دعوات صريحة من قادة هذه الأحزاب والصحف الموالية لهم لطرد المهاجرين وعدم استدعائهم للمنتخبات الوطنية، في صورة تنبئنا بأن مشاهد ما قبل الحرب العالمية الثانية في طريقه للظهور من جديد ليس بإقدام اللاعبين ولكن بسياسات قاداتهم أحزابهم المتطرفين اليمينين.
بكل تأكيد تعتبر كرة القدم الوسيلة الأكثر نجاحاً لتعزيز المساواة بين شعوب العالم أجمع بالنظر لشعبيتها على مستوى الكرة الأرضية، وبالرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها الاتحادات الوطنية والاتحادات القارية لمحاربة هذه الظاهرة بتوقيع العقوبات المالية والحرمان والاستبعاد من البطولات العالمية، إلا أنه يبدو أن هذه الظاهرة لن تختفى في القريب العاجل بعد أن ظهورها بأشكال وطُرق مختلفة وغير مباشرة تحمل في طابعها الانتقاد ولكن المحصلة النهائية لها هو أن "التمييز على أساس اللون أو العرق أو الدين" لا زال موجوداً وبقوة في المجتمعات الأوروبية وعلى وجه الخصوص في ملاعبها لكرة القدم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.