"مليار دولار من المساعدات الجزائرية لإفريقيا"، تم الإعلان عنها خلال القمة الإفريقية الأخيرة، في خطوة من شأنها أن تعيد الجزائر بقوة للقارة السمراء، فما قصة مبادرة الحزام والطريق الجزائرية؟
وهل وراء هذه الخطوة التي ستتم عبر الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي أسباب إنسانية وأيديولوجية تتعلق بتاريخ الجزائر للكفاح من أجل الاستقلال أم أن أهدافها سياسية تتعلق بنشر النفوذ، ومواجهة الدور المغربي تحديداً بالقارة؟
والقرار أعلنه رئيس الوزراء الجزائري أيمن بن عبد الرحمن، خلال القمة الـ 36 لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي التي عُقدت يومَي 18 و19 فبراير/شباط الماضي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، كما سبق أن أطلق تبون -من أديس أبابا قبل ثلاث سنوات- وكالة للتعاون الدولي لأجل التضامن والتنمية (ALDEC) ذات بُعد إفريقي، واليوم عهِد إليها بالمهمة.
ونقل بن عبد الرحمن عن الرئيس الجزائر عبد المجيد تبون قوله خلال القمة الإفريقية الأخيرة: "قررت الجزائر ضخ مليار دولار لصالح الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي، من أجل التضامن والتنمية لتمويل مشاريع تنموية في الدول الإفريقية، لا سيما منها تلك التي يكتسي طابعاً اندماجياً أو تلك التي من شأنها المساهمة في دفع عجلة التنمية في القارة".
وأوضح أن هذه الخطوة تأتي "قناعةً من الجزائر بارتباط الأمن والاستقرار في إفريقيا بالتنمية".
ووكالة التعاون الدولي الجزائرية أسسها تبون عام 2020، وورد في بيان مهامها: "المشاركة في إعداد وتنفيذ السياسة الوطنية للتعاون الدولي في المجال الاقتصادي والاجتماعي والإنساني والثقافي والديني والتربوي والعلمي والتقني".
والآن يبدو أن الجزائر عازمة على تحويل وكالة التعاون الدولي لمؤسسة قوية، الأمر الذي يثير تساؤلات حول الدول التي ستتوجه لها المساعدات الجزائرية لإفريقيا وكذلك معايير اختيارها، وأهدافها السياسية.
منطقة الساحل وخاصة مالي لها الأولوية
وفي خطابه أمام القادة الأفارقة خلال مشاركته في قمة الاتحاد الإفريقي في فبراير/شباط 2020 لدى إعلانه عن إطلاق الوكالة، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن المهمة الرئيسية لهذه الوكالة هي "تجسيد رغبتنا في تعزيز الإعانة والمساعدة والتضامن مع دول الجوار على أرض الواقع، خصوصاً الدول الشقيقة في الساحل".
ويطلق مصطلح الساحل على الدول الإفريقية الواقعة بمحاذاة الجزء الجنوبي للصحراء الكبرى، وهي من أفقر دول العالم بسبب ندرة المياه وبعدها عن البحار، وأكثر بلدان العالم معاناة من التغيرات المناخية، إضافة للمشكلات الإثنية والإرهاب التي تفاقمت بسبب الاحتباس الحراري وزيادة السكان، وأدت لمشكلات بين السكان الطوارق والعرب ذوي البشرة الفاتحة الذين تعمل نسبة كبيرة منهم بالرعي والأغلبية الإفريقية التي تعمل بنسبة كبيرة في الزراعة.
ومن دول الساحل تشاد والنيجر وبوركينا فاسو، ومالي التي تواجه تحديات كبيرة فيما يتعلق بالإرهاب، كما يمكن ضم موريتانيا إليها، وتتشابه ظروف السودان الجغرافية والإثنية مع هذه الدول أيضاً، وأغلب هذه الدول كانت مستعمرات فرنسية، وما زال لباريس نفوذ كبير رغم تراجعه مؤخراً.
ولدى الجزائر حدود طويلة مع مالي والنيجر، إضافة لحدود متوسطة الطول مع موريتانيا، وهي كل حدود تمر بمناطق صحراوية ووعرة وتصعب السيطرة عليها.
وبعد الإعلان الأخير عن تخصيص مليار دولار لإفريقيا، صرح رئيس الوزراء الجزائري للتلفزيون الرسمي بأن هذه المشاريع موجهة "لمساعدة الدول الإفريقية بالدخول في مسار تنموي ناجح، يسمح للشعوب الإفريقية بالاستقرار على مستوى بلدانها"، في إشارة إلى ظاهرة الهجرة.
وأكد أن "الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي ستباشر خلال الأيام القادمة مهامها العمل على هذه المشاريع".
ويوم 24 فبراير/شباط 2022، كشف الرئيس الجزائري في مقابلة مع وسائل إعلام محلية، بعض ملامح هذه المساعدات المالية بالقول إنها "ستوجه إلى تمويل مشاريع تنموية في عدد من الدول الإفريقية".
وأوضح أنه تم "الالتزام تجاه الأشقاء في مالي (الجارة الجنوبية) لدعم بعض المشاريع الاقتصادية، لا سيما في شمال البلاد، على غرار (مدن) كيدال وغاو لمساعدتهم على بناء بعض المنشآت التربوية والصحية وكذا مشاريع إيصال المياه للسكان وغيرها".
ومع انحسار الدور الفرنسي في منطقة الساحل، وخاصة في مالي، تنامى الدور الجزائري في إدارة ملفات أزمة دولة مالي، لا سيما أن البلدين يرتبطان بحدود شاسعة تبلغ حوالي 1376 كيلومتراً، ما يجعلهما يُمثلان عمقاً استراتيجياً بالنسبة لبعضهما البعض، حسبما ورد في تقرير لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
وفي هذا الإطار، شدد وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة في أكثر من مناسبة، على وصف علاقة بلاده مع مالي بـ"المحورية"، مؤكداً أن الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في الجارة الجنوبية للجزائر هو امتداد لاستقرارها، واستقرار منطقة الساحل بشكل عام.
إلغاء ديون 14 دولة إفريقية
في عام 2013 أعلنت الحكومة الجزائرية إلغاء ديون بقيمة 902 مليون دولار على 14 دولة الأقل نمواً، بمناسبة الذكرى الخمسين لإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية في 1963 التي تحولت عام 1999 إلى الاتحاد الإفريقي.
وأشار بيان لوزارة الخارجية الجزائرية، آنذاك، إلى أن القرار يشمل كلاً من بنين وبوركينا فاسو والكونغو وإثيوبيا وغينيا وغينيا بيساو وموريتانيا ومالي وموزمبيق والنيجر وساو تومي وبرانسيبي والسنغال وسيشل وتنزانيا.
وتعتبر جمهورية موريتانيا أكبر مستفيد من قرار الحكومة الجزائرية، حيث استفادت من إسقاط ديون بقيمة 250 مليون دولار.
ولاحقاً، نقلت وكالة الأنباء الجزائرية أن "هناك دولاً أخرى لديها ديون مستحقة لدى الجزائر، التي لم يتم إلغاؤها، بل عملت على تحديد حزم تسديد جديدة في إطار اتفاقيات ثنائية".
المساعدات الجزائرية لإفريقيا محاولة لسد الثغرات أمام الدول الغربية وإسرائيل
هذه الخطوة نابعة من قراءة الجزائر لطبيعة المشاكل التي تعيشها القارة، الناتجة بالأساس عن غياب التنمية، حسبما قال الخبير والمحلل السياسي توفيق بوقاعدة، الذي يشغل أستاذ علوم سياسية بجامعة الجزائر الحكومية، في حديث للأناضول.
ولفت إلى أن "الجزائر تدرك أن غياب التنمية هو ما تسعى إليه القوى الكبرى والإقليمية، وتعتبره مدخلاً لاختراق القارة بظاهر اقتصادي وباطن استخباراتي أمني".
وعلق بالقول: "لذلك الجزائر تسعى أن تبقى القارة وحلول إفريقيا ومشاكلها داخل المنظومة الإقليمية للقارة".
ويرى بوقاعدة أن "مثل هذا الدعم سيقلص من حالة الاختراق التي تقوم بها إسرائيل، خصوصاً أنه تزامن مع طرد دبلوماسيين من قاعة المؤتمرات بالقمة الإفريقية مؤخراً بأديس أبابا".
الجزائر تصدت مع جنوب إفريقيا لمحاولة انضمام تل أبيب كمراقب بالاتحاد الإفريقي
وكانت الجزائر وجنوب إفريقيا قد لعبتا الدور الأساسي في طرد ممثلة لإسرائيل كانت تريد حضور اجتماعات الاتحاد الإفريقي كمراقب، وهي مسألة خلافية داخل الاتحاد وتقرر تشكيل لجنة رئاسية لحلها.
وأشار بوقاعدة إلى أن هذا المبلغ هو أيضاً عربون حسن نية بأن الجزائر ستقف مع الأفارقة، وأنها ستعمل على دعم مشاريع التنمية وتوطين مختلف الحلول السياسية لمختلف الأزمات الأمنية.
ووفق معطيات الجمارك الجزائرية، بلغ حجم المبادلات التجارية مع الدول الإفريقية 3.51 مليار دولار قبل جائحة كورونا. وتحسنت هذه المعطيات خلال العام الماضي، بارتفاع صادرات البلاد للخارج من المحروقات إلى عتبة 7 مليارات دولار لأول مرة.
إليك طريقة تقديم المساعدات الجزائرية لإفريقيا
وتضطلع الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي بالعديد من المهام، ووفقاً لبيان رئاسة الجمهورية الجزائرية بشأن مهامها، أبرزها المشاركة في إعداد السياسة الوطنية للتعاون الدولي وتنفيذها في المجال الاقتصادي والاجتماعي والإنساني والثقافي والديني والتربوي والعلمي والتقني، وترقية توظيف الكفاءات الوطنية في الخارج، وإقامة العلاقات مع المجموعة العلمية ورجال الأعمال الجزائريين في الخارج، وتطوير علاقات التعاون مع الهيئات الأجنبية المماثلة، إلى جانب إنجاز دراسات اليقظة الاستراتيجية في مجال تخصصها.
وعن الأولويات المتوقعة لخطة التمويل، يعتقد حمد حميدوش أستاذ التحليل الاقتصادي بجامعة البليدة الجزائرية أن "الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي" قد تخصص ما يعادل 30% لقطاع البنية التحتية والتنمية الحضرية، مقابل 10% لكل من قطاعات الإنتاج والمياه والصرف الصحي، ونسبة تقارب 5% لكل من حماية الموارد الطبيعية والتعليم والتدريب والنقل.
ويتوقع حميدوش (الخبير لدى البنك الدولي) تخصيص 3% من التمويل لصالح الحماية الصحية والاجتماعية ومشاريع الزراعة والأمن الغذائي، بينما يخصص الباقي لميادين مختلفة، مثل العدل والأمن والقطاع الخاص أو المشاريع متعددة القطاعات، بالإضافة إلى التمويل ذي الطابع المالي المحض.
وأوضح في تصريح للجزيرة نت أنّ التمويل يكون على شكل قروض بأسعار فائدة غير تجارية (قرض حسن) أو منح وهبات. وفي كلتا الحالتين سيتحتّم على البلد المستفيد المساهمة بمبلغ مالي في المشاريع الممولة، ليتكفل بدفع الضرائب والرسوم ومستحقات الفرق التي تعمل عليها ومتابعة إنجازها.
خلفية استخباراتية وأمنية وراء الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي
لا تنفي الجزائر نيتها إنشاء قوة دبلوماسية "ناعمة" من وراء تأسيس الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي، بهدف تمويل مشاريع "مساعدات" في القارة الإفريقية بشكل خاص. ومنحت الجزائر خلفية استخباراتية لهذه الهيئة الدبلوماسية المدنية بعد استدعاء العقيد المتقاعد من الجهاز محمد شفيق مصباح عند تأسيس الوكالة قبل عامين، في مسعى لـ"استرجاع النفوذ المفقود" في القارة السمراء، حسبما ورد في تقرير لصحيفة "إندبندنت عربية".
وسبق أن قال الوزير المستشار الناطق الرسمي لرئاسة الجمهورية محند السعيد بلعيد، في 2020، إن هذه الوكالة تعدّ لـ 12 مهمة داخلية وخارجية تشرف على تمويل مشاريع في دول الجوار، الساحل الإفريقي والقارة الإفريقية عموماً"، كاشفاً أن "من مهام الوكالة أيضاً الاهتمام بتدريب الجزائريين العسكري في الخارج والأجانب في الجزائر".
وعن المبادرة الجزائرية، يرى مصباح عامر، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والأمنية بجامعة الجزائر، أنها "جزء من آليات مكافحة الإرهاب وتثبيت الاستقرار الأمني في القارة الإفريقية، ضمن الاستراتيجية الشاملة للأمن الوطني المرتكزة حول احتواء مصادر التهديد قبل أن تخترق الحدود الجغرافية للدولة".
وتستضيف الجزائر هياكل تعزيز الأمن القاري، المُمثلة في المركز الإفريقي للدراسات والبحوث حول الإرهاب، والآلية الإفريقية للتعاون في مجال الشرطة، وذلك في إطار كونها مُنسق الاتحاد الإفريقي في مجال مكافحة الإرهاب.
ويُصطلح على هذا اسم "الدبلوماسية الدفاعية" عبر حلقات العمق الاستراتيجي للأمن القومي، والقائمة على فكرة إشباع مهام الفعالية الدفاعية، مع الاحتفاظ بالموارد الوطنية، دون الحاجة لنيران الأسلحة، حسب مصباح عامر.
وخلص إلى أنّ البعد الاستراتيجي للمبادرة الجزائرية محدد في حماية الروابط الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإفريقية من التآكل، بفعل مصادر التهديدات الأمنية المختلفة؛ مثل الإرهاب والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والتدخلات الخارجية والفقر والهجرة والعوامل المناخية القاسية
محاولة للعودة للقارة بقوة بعد صعود الدور المغربي
ومنذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون السلطة، اكتسبت السياسة الخارجية زخماً بعد فترة هدوء تحول لخمول في السنوات الأخيرة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي كان دبلوماسياً مخضرماً في الأصل، ولكن سياسته مالت للهدوء، وقلّ نشاطها في سنواتها الأخيرة بعد أن أصبح مريضاً ويقال إنه لم يكن يحكم البلاد.
وعلى العكس، اتخذ تبون مواقف أكثر قوة في الأزمة الليبية وصلت إلى تحذير أمير الحرب الليبي اللواء خليفة حفتر من الهجوم على العاصمة طرابلس واعتبارها خطاً أحمر للجزائر، كما اتخذت الجزائر سياسة أكثر هجومية تجاه المغرب الذي توترت العلاقات معه بشدة لدرجة قطع العلاقات.
وكانت الجزائر تحظى في إفريقيا بأفضلية تاريخية مقابل المغرب، بفضل نضالها ضد الاستعمار والطابع الاشتراكي القومي للدولة الجزائرية، وإمكانياتها المادية بفضل النفط والغاز، الأمر الذي جعل منظمة الوحدة الإفريقية تعترف بالصحراء عضواً بالمنظمة عام 1963؛ مما أدى لانسحاب الرباط منها لفترة قبل عودته عام 2017 للاتحاد الإفريقي، مع تحفظه على وضع الصحراء بالمنظمة الإفريقية.
ولكن في السنوات الأخيرة عاد المغرب لتعزيز علاقته ونفوذه في القارة، خاصة في النواحي الاقتصادية خاصة مع نمو الاقتصاد المغربي.
ولذلك تأتي المبادرة الجزائرية الأخيرة، في مواجهة ما اعتبره تبون والنخبة الحاكمة الحالية تراجعاً بالنفوذ الجزائري في القارة السمراء وهو ما بدا في تبدل معالم صناعة القرار داخل الاتحاد الإفريقي إلى حد كبير؛ حيث لم يعد لسياسة الجزائر سابقاً كـ"قائدة لحركات التحرر في القارة السمراء"، تأثير في الحكومات الجديدة في البلدان الإفريقية.
وخلال السنوات الماضية انتقدت تقارير جزائرية تراجع نفوذ البلاد في بلدان الجوار، لا سيما في مالي؛ حيث أنفقت الجزائر موازنات كبيرة على اتفاقيات السلام بين الحكومة المركزية ومتمردي "الطوارق"، من دون أن يؤدي ذلك إلى أي ثقل على قرارات دولة مالي في ملفات تزعج الجزائر، لا سيما تعاون مالي في تكتلات عسكرية للساحل تشارك فيها فرنسا، وذلك قبل أن يتراجع الدور الفرنسي لأسباب داخلية تتعلق بمالي وصعود النفوذ الروسي بالأساس.
لماذا تمثل إفريقيا محوراً مهماً في سياسة الجزائر؟
يبدو أن إدارة تبون تولي الملف الإفريقي أولوية لعدة أسباب، فتاريخياً كان نظرة الجزائر لنفسها دوماً أنها دولة عربية إفريقية عالمثالثية تؤيد جهود التحرر وترفض الإمبريالية والعنصرية.
وتعد الجزائر إحدى الدول العربية القليلة التي حافظت على موقف ثابت داعم للقضية الفلسطينية على اختلاف الأنظمة حتى لو خفت حماسته.
وأعادت الجزائر هذا الدور للواجهة بموقفها الرافض لدخول إسرائيل كمراقب بالاتحاد الإفريقي، ويتداخل هذا القلق والرفض الجزائري للتغلغل الإسرائيلي بالقارة السمراء من القلق من نتائج التطبيع المغربي مع إسرائيل، ونظرتها لأن زيادة نفوذ الرباط وتل أبيب كل منهما يفيد الآخر.
الجزائر تهتم بشدة بمكافحة الإرهاب بإفريقيا ولكن تخشى تحوله باباً خلفياً للنفوذ الفرنسي
كما أن هناك بُعداً أمنياً في الاهتمام الجزائري بإفريقيا، نابعاً من الحدود الجزائرية الشاسعة مع دول منطقة الساحل الإفريقي والذي يجعلها تتأثر سلباً بأنشطة الجماعات الإرهابية هناك، وهي لديها تجربتها الذاتية المريرة المعروفة باسم العشرية السوداء.
كما أن المشكلات الإثنية المتصلة بالإرهاب في منطقة الساحل، تتداخل مع الجزائر؛ حيث تشكو مجموعات الطوارق والعرب في هذه الدول مثل مالي، من التهميش، وهذا يعد سبباً لنشاط الجماعات الإرهابية بالمنطقة إضافة للحركات الانفصالية أو تلك المطالبة بحقوق الطوارق والعرب، الذين هم جزء من تركيبة الجنوب الجزائري.
وتتسم سياسة الجزائر في مكافحة الإرهاب بالتركيز على محاربتها داخل حدودها مع عدم إبدائها ترحيباً كبيراً بوجود القوات الغربية (الفرنسية بالأساس) في منطقة الساحل، رغم أن ذلك لا يمنع التواصل والتعاون معها، ولكن تتطلع الجزائر، لأن يكون مكافحة الإرهاب عملاً محلياً إفريقيا وليس قناة لتعزيز النفوذ الغربي ولاسيما الفرنسي.
ولذا تضمنت المقاربة الجزائرية تجاه مالي المجاورة العمل لتعزيز الأمن والاستقرار منذ انقلاب مايو/أيار عام 2021 في مال، لتسهيل مسار إنهاء الفترة الانتقالية والعودة إلى الحكم الدستوري.
وتشهد العلاقات الدبلوماسية الجزائرية – المالية مؤخراً تصاعداً ملحوظًا، خاصة من حيث الزيارات الرسمية المُتبادلة بين كبار المسئولين من البلدين، وذلك على خلفية التوقيع على إعادة العمل باتفاق السلام والمصالحة في 5 أغسطس/آب 2022، بين الحكومة المالية، والحركات الانفصالية المسلحة في الشمال (إقليم أزواد).
وقادت الجزائر في عام 2015، تحت رعاية أممية، جهود الوساطة بين الجانبين، على مدار عدة أشهر، وقعت الحكومة المالية خلالها مع مجموعات من الأزواد (الطوارق والعرب من سكان شمال مالي) اتفاقاً تضمن إنهاء الحرب في الشمال، ووضع آلية تفاهم وتنسيق، تشمل جهود نزع السلاح والتسريح وإعادة دمج المقاتلين الأزواد في صفوف الجيش والشرطة المالية، فضلاً عن التركيز بصورة أكبر على اتخاذ إجراءات تنموية تشمل الرعاية الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعات الشمال، وذلك بما يضمن إعادة توحيد وتكثيف جهود الطرفين في مواجهة الأنشطة الإرهابية والتجارة غير الشرعية على الحدود الشمالية للبلاد، الأمر الذي سيُسهم بطبيعة الحالة في الحد من التهديدات والتحديات الأمنية التي تشهدها الحدود الجنوبية للجزائر، نتيجة اضطراب الأوضاع الأمنية في الشمال المالي.
كما أن مكافحة الهجرة غير الشرعية تشكل أولوية للجزائر، وما يرتبط بها من تقوية دول القارة وأجهزتها الأمنية خاصة المجاورة للجزائر، إضافة لعقد المصالحات الداخلية وتقليل الفقر في الدول الإفريقية.
دبلوماسية أنابيب الغاز تضع الجزائر في منافسة مباشرة مع الرباط
كما ظهر متغير جديد في السياسة الأوروبية تجاه إفريقيا، مع احتدام أزمة الطاقة العالمية، في ظل الحرب الروسية – الأوكرانية، هو التنافس الجزائري المغربي على استضافة مشروعات خطوط أنابيب الغاز القادمة من غرب إفريقيا إلى أوروبا عبر أراضي أي من البلدين.
وتسعى المغرب لإنشاء ما يعرف بـ"مشروع الغاز نيجيريا -المغرب"، وهو أطول أنبوب يمر منه الغاز في العالم، فسيمتد على طول 5660 كيلومتراً، وسيخترق دول بنين وتوغو وغانا وساحل العاج وليبيريا وسيراليون وغينيا وغينيا بيساو وغامبيا والسنغال وموريتانيا.
وفي 31 يناير/كانون الثاني 2021، أجرى ملك المغرب والرئيس النيجيري مكالمة هاتفية أعلن عن فحواها في بيان للديوان الملكي، عبّر من خلاله قائدا البلدين عن عزمهما مواصلة وإنجاز المشاريع الاستراتيجية، وعلى رأسها خط الغاز بين البلدين.
ومع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية وتصدر أزمة الغاز الروسي للواجهة، بدأت دول الغرب تبحث عن بديل يعفيها من تهديدات موسكو، فأُعيد طرح مشروع الغاز؛ نيجيريا المغرب.
وفي هذا الصدد تظهر أهمية موريتانيا للجزائر، التي لا يمكن للمغرب مد خطوط أنابيب عبر أراضيه دون المرور بها، وللجزائر ميزة نسبية في هذا الأمر بفضل مساحتها الكبيرة التي تجاوز عدداً كبيراً من بلدان منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، وتوافر بنية أساسية كبيرة للغاز لدى الجزائر، فيما لدى المغرب بنية أقل ولكن لديه ميزة القرب من البر الأوروبي الرئيسي عبر إسبانيا.
وبعد عقدين من وضع المشروع التأسيسي لمشروع الأنبوب العابر للصحراء (TNGP)، وعلى هامش الاجتماعات التي عُقدت في العاصمة النيجيرية أبوجا يونيو/حزيران 2022، أعلن وزراء الطاقة بالجزائر والنيجر ونيجيريا توقيع مذكرة تفاهم لوضع اللبنات الأولى من المشروع في 28 يوليو/تموز 2022. ومن المفترض أن ينطلق خط النقل من نيجيريا إلى الجزائر مروراً بالنيجر لنقل الغاز الطبيعي من الدول الثلاث إلى أوروبا عبر خطوط أنابيب جزائرية، وتُقدر السعة التخزينية للمشروع بما يصل إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً.
إضافة إلي ذلك، وقّعت كل من شركة "إيني" الإيطالية، وشركة "سوناطراك" الجزائرية في أبريل/نيسان عام 2022 اتفاقية جديدة للتعاون بمجال تصدير الغاز، من خلال زيادة حجم الغاز المُصدر عبر خط أنبوب الغاز "إنريكو ماتيي" (ترانسمد)، الذي يربط البلدين عبر تونس والبحر الأبيض المتوسط، بمقدار 9 مليارات متر مكعب إضافية سنوياً خلال عامي 2023 و2024، وتسريع وتيرة تطوير مشروعات إنتاج الغاز الطبيعي بين البلدين. وقد جاءت تصريحات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في روما في مايو/أيار 2022، لتؤكد رغبته في أن تصبح إيطاليا هي الموزع الرئيسي للغاز الجزائري في أوروبا.
مبادرة الطريق الجزائرية التي تهدف لربط أوروبا بإفريقيا
تبدو دبلوماسية أنابيب الغاز الجزائرية جزءاً من حراك أكبر يمكن تسميته بمبادرة الحزام والطريق الجزائرية لإفريقيا، لتحويل موقع البلاد من حالته الإشكالية؛ نظراً لكونها حالياً تعد طريقاً للهجرة غير الشرعية لأوروبا أو ممراً خلفياً لفلول الإرهابيين، إلى طريق للوصل بين إفريقيا ولاسيما غرب القارة والدول الأوروبية على أساس التعاون الاقتصادي، مع عدم جعل إفريقيا مجرد حديقة خلفية لأوروبا، كما هو الواقع حالياً.
ولذلك تسعى الجزائر لعقد شراكات استراتيجية لدعم مشاريع الاستثمار المشتركة، وتوسيع الأسواق الوطنية، وزيادة حجم المبادلات التجارية، واستقرار العملة بفتح الأسواق على بعضها البعض، بالإضافة إلى التواصل الاقتصادي والتجاري عبر مدّ خطوط سكك الحديد والكهرباء وتدفق الإنترنت وأنابيب نقل الطاقة، حسب صباح عامر أستاذ الدراسات الاستراتيجية والأمنية بجامعة الجزائر.
وقال عامر للجزيرة نت إنّ الغاية الاستراتيجية بعيدة المدى هي تطوير البنية التحتية المتقدمة للمساهمة في ربط إفريقيا بأوروبا اقتصادياً وتجارياً عبر البحر المتوسط، بشكل يجعل الجزائر حلقة وصل أساسية بين القارتين، لإشباع الحاجات المتبادلة.
وقال توفيق بوقاعدة، الذي يشغل أستاذ علوم سياسية بجامعة الجزائر الحكومية، إن قرار تقديم مليار دولار من المساعدات الجزائرية لإفريقيا لا يمكن اعتباره توجيهاً للبوصلة نحو إفريقيا، بقدر ما هو كذلك تنويع لاتجاهات السياسة الخارجية الجزائرية، التي لها أبعادها سواء في الجوار الإقليمي أو مناطق نفوذها".
كيف ستتأثر بقية الدول العربية بالخطط الجزائرية؟
بصرف النظر عن الجانب المتعلق بالمنافسة مع المغرب في سياسة الجزائر الإفريقية، إلا أن تعزيز الجزائر لنفوذها بإفريقيا خاصة عبر المساعدات وأنابيب الغاز ودعم المصالحات الداخلية، وتقوية جيوش الدول الإفريقية المجاورة لها وغيرها من أساليب القوة الناعمة التي يلامس بعضها القوة الخشنة، سيكون له فوائده لتعزيز المصالح الوطنية للبلاد.
كما يساهم أيضاً في فوائد للصالح العربي والإسلامي العام عبر التصدي للنفوذ الإسرائيلي، والفرنسي، وتعزيز العلاقة بين الأغلبية الإفريقية في دول جنوب الصحراء مع الأقليات من الطوارق والعرب، بما يؤدي لتحجيم الإرهاب بطريقة لا تؤدي لاتباع النموذج الفرنسي المعادي للدين.
كما أنه في ملف سد النهضة الذي يهم مصر والسودان، يمكن أن تلعب الجزائر دوراً في الوساطة التي سبق أن ألمحت لعرضها.
فعودة الجزائر بخلفيتها النضالية للقارة من شأنه تخفيف الاستقطاب العربي الإفريقي حول ملف سد النهضة؛ حيث تقف دول إفريقية كبرى مثل نيجيريا أقرب للموقف الإثيوبي من منطلق الحمية الإفريقية وليس من منطلق الحقوق ومبادئ القانون الدولي، وهي المبادئ المحركة في الوقت ذاته لجنوب إفريقيا في دعمها لفلسطين ورفضها انضمام إسرائيل للاتحاد الإفريقي كمراقب.
ومن شأن إحياء الخطاب المناهض للاستعمار والمؤكد على التضامن العربي الإفريقي الذي بدأته مصر الناصرية في الخمسينيات واصلته الجزائر وليبيا في عهد معمر القذافي، مصحوباً بمساعدات اقتصادية على الأرض، أن يكون له فائدة كبرى لكل الدول العربية في إفريقيا، وقد يؤدي إلى تخفيف تأثير إسرائيل التي تعمل على استغلال حاجة الدول الإفريقية لأموالها وتقنياتها العسكرية والتجسسية مع تأجيجها لمحاولات إشعال عداء عربي إفريقي.
فللجزائر تاريخ طويل من تقديم المساعدات للدول العربية والإفريقية وحركات التحرر، بما في ذلك الحركات المسلحة، ورغم أن هذا لم يؤدِّ لنفوذ قوي للجزائر مثلما تحقق لمصر الناصرية وليبيا في عهد القذافي، والعراق في عهد صدام وسوريا الأسد وإيران حالياً.
ولكنّ خليطاً من المساعدات بشروط وتدخل أقل، منح الجزائر صورة إيجابية، ونفوذاً أقل إشكالية في مناطق النزاعات العربية والإفريقية لأنها لم تتورط مثل الأطراف السابقة بقوة في النزاعات المثيرة للجدل، وظلت مواقفها الفعلية داعمة للمبادئ التي تعلنها بشأن التحرر ومكافحة الاستعمار، مع عدم المبالغة في استعداء الغرب أو الفاعلين الإقليميين.
ولكن نجاح مبادرة الحزام والطريق الجزائرية الإفريقية، إن صح تسميتها على النمط الصيني، لن يتوقف فقط على سلوك منافسي الجزائر المحتملين مثل فرنسا، وإسرائيل، أو المغرب، ولا فقط على تعامل الدول الإفريقية معها، ولكن أيضاً على مدى كفاءة البيروقراطية بالحكومة في توزيع المساعدات الجزائرية لإفريقيا بطريقة يشعر بها سكان دول القارة المستهدفة، وأن تكون فعالة للمصالح الجزائرية دون الدخول في منافسات مبددة للطاقات مع بعض المتنافسين على النفوذ بإفريقيا.