أن يتمتع الإنسان بعقله، فيمنحه حقّه في التفكّر والتدبُّر، في فهم الأمور لا استنساخها عن جهل، والعمل بها بجهل، فيتخبّط في ما لا يدري، يعبد وكأنه يُحسن لكنه في الأصل يسيء، أو يعبد لينتفع من عباداته، ولو عَلِم أن هذه العبادة لا يخرج منها إلا متعباً دون أن يعود عليه عائدٌ منها، لتركها.
العالم البشريّ الآن غارقٌ في عُرض بحر الثقافات الحديثة التي قد تكون في بعض الأحيان نتيجة لأوهام محضة، وقد ينتج عنها استئصال لفكرة التسليم من جذورها وتشتّت بها النية الخالصة لوجهه الكريم، وتظهر حقيقة ميل الإنسان للسببية، حيث إنهم لا يرون إلا حقيقة واحدة وهي أن لكل حدثٍ أثراً، وبهذا يتجلى مفهوم ربط العبادات بفوائد دنيوية ما يحدث فجوة بين العبد وربه ويحرمه لذة الانغماس في روحانيات هذه العبادة.
التفكير المادّي، أو فكرة البحث عن معجزات هما أساس التسليم الناقص، يعني أن تسلّم لعبادة الله وفي داخلك شيء ما يبحث دائماً عن الحِكمة من هذا التسليم أو تلك العبادة!.. التفكُّر والتدبُّر أمر مهم لا بد منه، ولكن ماذا إن كانت العبادة بلا إعجازات علميّة تضاهيها أو مردودات ملموسة!
الصلاة وعلاج الهشاشة
في أحد مستشفيات الغرب، كان هناك عربي ينتظر أحد المرضى في غرفة الاستقبال، فوجد رجلًا يقومُ بحركاتٍ شبيهةٍ بالصلاة، ولكنها ليست كذلك.. اقترب العربيّ من هذا الرجل، وسأله: هل أنت مسلم؟ فأجاب الرجل إجابة تدل على أنه لا يعرف شيئاً عن الإسلام، فتابع العربيّ –كعادةِ العرب- سائلًا: وماذا كنت تفعل منذ لحظات؟ فأجاب الرجل أن هذه وصفة العلاج من خشونة المفاصل، وضمور الأطراف، وتمزّق الأربطة، وتهتّك عضلات القلب.. ففرح العربيّ وخرّ ساجداً وهنا عندما وجد الله في المستشفى!
سِحر الغلوّ في المعتقدات عند الكثيرين لا يزال يشكّل في عالمهم جزءاً كبيراً، ويستحوذ على جزء كبير من عقولِهم، حيث إنهم يستطيعون تحويل العبادة من كونها عبادة لله وأمراً مفروضاً ومسلَّماً به، إلى جسرٍ يعبرون خلاله عن أزماتهم ونكباتهم، إلى جهاز ربّاني أثريّ أنزل من السماء، لكنه يحمل تقنيّات تغيّر العالم وتعالج الأمراض وتردّ الغائب وتنزِّل عليهم من السماءِ ذهباً.
الصوم بين الحكمة والتسليم
ومن ناحية أخرى ترى البعض حائراً بالصوم بين الحكمة والتسليم، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، والتقوى الإيمانية هي الهدف الرئيسي للصوم، فالصوم فريضة تحمل ما تحمله من المشقّة والعناء، لكنّها تنقّي النفوس وتهذّبها، وتحيي القلوب وترقِقُها، وتعيد للنفس بريقها بعد أشهرٍ من التيه والانغماس والبعد، ففي الإمساك تسكين للنفس، وقهر لشهواتها، وكسر لسَوْرَتِها في الفضول المتعلّقة بالجوارح، وإرجاع لها عن الاسترسال في اللذات والشهوات، وسمو بروح الإخلاص والتحلّي بالفضائل، والتعوّد على الصبر، والثبات على المكاره، واستشعار النفس الحاجة الدائمة إلى ربها وخالقها.
الامتثال لفريضة الصوم والتسليم لأمر الله كما أُمرنا، لا يحتمل تلك المبرِّرات التي يستخدمها البعض بغية تحسين مظهرها أو لتبريرها كعبادة مفروضة، أو لا يتطلب تنقيب مستمر عن سبب ملموس لها نتحسسه كي نتقنها أو نؤديها على أكمل وجه.
تجد أوجه عدة في الإعجاز العلمي للصيام كالوقاية من العلل والأمراض الجسمية منها والنفسية، وأشياء لا حصر لها، كأنه يفعل الأفاعيل التي لا يفعلها الطب الحديث للبشرية، وهكذا يجعلنا نقف لنبحث في أصل العبادة وكيفيّة استخدام مثل هذه المصطلحات في محاولة لالتماس سببٍ ما يجعل تعلّقهم الهشّ أكثر صلابةً، ويقرّب ذلك الشكّ الكامِن في نفوسِهم إلى اليقين قليلًا.
ذلك دين القيّمة، تلك هي خلاصة الأمر، فاستقم كما أُمرت، بغير جدال وحوارات لإثبات حكمةِ الله عز وجل في هذا التكليف أو ذاك. يبدو وكأننا بين مطرقة عبادة العجل، وسندان أرِنا الله جهرةً، نسير بخطى متردِّدة على خطى بنى إسرائيل في استقبالهم سواء للتكاليف أو العقيدة، فكأننا صرنا نبحث داخل تكاليف الإسلام عن أسباب حسيّة ملموسة لفرض هذا التكليف أو القيام بهذه العبادة، فقيّدنا الأصل في مفهوم الطاعة، وقد يقول البعض إنه لا ضرر من إعمال العقل في الدين، وذلك حق، ولكن أحياناً يُراد به باطل، حين يُستخدم دون القيام على أساس الإيمان المحض والتسليم أولاً.
النيّة هي نواة القبول فإن صلُحت صلُح العمل ووجب الثواب وإن فسدت فسُد العمل وعليه وزره، كما أن الفرق بين النية ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ومن يريد بها الدنيا كما الفرق بين الثرى والثريّا.
إن كانت تلك المعجزات الإلهية في العبادات المفروضة تفيد القائِمين عليها، فماذا عن البعض الآخر الذي لا يعبد! هل يُبتلى حقيقةً بكل تلك الأمراض الواردة التي تُعالج أتوماتيكياً بعد كل أداء لتلك الفرائض؟ وماذا عن المبتلين من عباد الله الصائمين القائمين، هل هناك خلل ما في عباداتهم لذا لم نقبل منهم أم أنهم حالة استثنائية لا تنطبق عليهم تلك المواصفات؟!
حكمة الله في العبادات كثيرة، استطعنا أن نحصيها أم لا، لا بد أن نؤمن بذلك، ولسنا مطالبين بأن نحصيها عدداً لإقناع غير المسلمين بها، فالمسلم مسلّم لله في كل عباداته، يعبده لأنه عبدٌ مأمور بتلك العبادة المفروضة، فيؤدّيها على أتم وجه، ولا يجعلها عرضةً لإثباتات ربما تكون مبنيّة على دافع قويّ من الحب، ولكنّ مردودها السلبي أقوى من نفعها إن كانت خاطئةُ أو أثبت عكسها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.