“كوبرنيك”.. كيف اكتشف هذا العالم دوران الأرض حول الشمس؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/30 الساعة 12:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/30 الساعة 15:43 بتوقيت غرينتش

لقد أثارت نشأة العلم الحديث جدلاً واسِعاً في صفوف المُفكِّرين، وقد جاءت نشأة العلم الحديث التي أقرّوا فيما بعد بأنها كانت خلال القرن السابع عشر. ومن أهم ما جاءت به هذه النشأة هو انتهاء مركزية الأرض التي صرَّحَ بها "بطليموس" في زمنٍ بعيد، إلى أن جاء "كوبرنيك" وارتدَّ ارتداداً شنيعاً على هذه الفكرة التي هيمنت لفترة ليست بقصيرة.

ألغى كوبرنيك فكرة مركزية الأرض، واعتبرَ هذه الأخيرة مجرَّدُ كوكب مثل سائر الكواكب يدور حول الشَّمس. مع هذه القفزة النَّوعية انفتحَ الإنسان على معارف جديدة، حينها كُتِبَت صفحةٌ جديدة في تاريخ العلم. هل فعلاً شكَّلت الثورة الكوبرنيكية وحدها منطلقاً أساسياً للعلم الحديث؟

إنَّ نشأة العِلم الحديث كانت مُقترِنة بمجموعة من العوامل والظروف التي مهدت لها، هذه الظروف إمَّا أنْ تكونَ سياسيّة أو اجتماعية أو تُعزى لظروفٍ إبستمولوجية. لقد كانت سنة 1543 هي السنة التي نشأ فيها العلم بعد ظهور كتاب كوبرنيك "حولَ دوران الأجرام السّماوية"، وتتجلّى أهميّة هذا الكِتاب في أنَّه أحدثَ ثورة في نظرة الإنسان للكون، وجاء هذا الكتاب أيضاً بأفكار جديدة على أنقاضِ علم الفلك البَطليموسي (بطليموس كانَ يَعتبِرُ أنَّ الأرض مركزُ الكون).

إنَّ كتاب كوبرنيك حول دوران الأحرام السّماوية قَلَبَ هذا التصور رأساً على عَقِب، وأكّد أنَّ الأرض تدورُ حول الشمس، هنا تم دفن فكرة مركزية الأرض وفُتِحَت آفاقٌ جديدة للفكر والمعرفة.

يتجلى انعكاس هذا الانقلاب الذي قامَ به كوبرنيك في أنَّ الإنسان أصبح يعتمد على نسبية المعرفية، والعقل البشري لا يمكنهُ أن يعلم كلَّ شيء بمعنى أنَّه نسبيٌّ. هنا انتهت فترة المعرفة المطلقة أو الحقيقة المُجرّدة.

لا يمكنُ الحديث عن نشأة  العلم دونَ الإشارة إلى تلك العلاقة التي تربِطُ العلم بالفلسفة، فمنذ اليونان كانت هناك علاقةٌ وطيدة بين العلم والفلسفة، فمثلاً أرسطو كانَ يعتمِدُ في منطقهِ على رياضيات "أوقليدس". وكان هناك سؤالٌ شائك يتبادر إلى ذهن المفكَّرين والعلماء وهو: لماذا تقدّمت العلوم وتأخرت الفلسفة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال المُستعصي: العلوم اهتمّت بالظاهر وبالواقع المَلموس، أمَّا الفلسفة فبقيّت سجينة الأفكار الميتافيزيقية، والميتافيزيقا لا تُشكِّلُ مجالاً للمعرفة العلمية.

اتخذت الثورة الكوبرنيكية في جانبها العلمي مظهرين: الأول يتجلّى في ثورة في علم الفلك أقامها كوبرنيك بنفسه؛ والثاني في الفيزياء. وعلى ذِكرِ الفيزياء لابُدَّ لنا الحديث عن أرسطو، لأنه اهتم بالمشاكل التي طُرِحت على الفكر اليوناني في بداياتهِ الأولى مع الطبيعيين: ما أسس ومكونات المادّة؟ وما نظام هذا العالم؟ الأول شكَّل فيزيائه والثاني شكَّل نظامهُ الكوني والفلكي.

الثورة الكوبرنيكية تأسست على الإنسان بالأساس، وقامت بإلغاء النظريات المُطلقة والمُهيمِنة في تلك الفترة. عظمةُ كوبرنيك لا تتجلّى في أنه قد قال بفكرة دوران الأرض حول الشمس بعكسِ ما كانَ يعتَقدهُ من قبل، لأنَّ هذه الفكرة كانت رائجة عن الفلاسفة الذين كانوا قبله. إنما عظمته تتجلّى أساساً في أنه استطاع تشييد على هذه الفكرة القديمة الجديدة نظاماً كونياً مُتكاملاً أضفى على التصور البشري مزيداً من النظام والمَعقولية.

يقولُ كوبرنيك في كتابه "حول دوران الأجرام السماوية": "وجدتُ شيشرون يذكرُ أنَّ إيكطاس كان يعتقدُ بأنَّ الأرض تدور، ووجدتُ ثانياً بلوتارك يُشيرُ إلى أنَّ الآخرين قد أخذوت بهذا الرأي، فانطلقتُ من هذه الفِكرة وأخذتُ أتأمّلُ في حركة الأرض".

ويقولُ أيضاً في نفس الكِتاب: "وجدتُ وبعد بحثٍ دقيق أنَّه عِندما تُربطُ حركة الكواكب الأخرى بدوران الأرض، وعلى هذا الأساس تُحسبُ حركة كلِّ نجمٍ من النُّجوم، فإنّ الظواهر الفلكية الأخرى تنتجُ عن ذلك". نستشفُّ من كلام كوبرنيك هذا أن فكرة دوران الأرض حول الشَّمس ليست بجديدة، أي ليس هو من ابتكرَ فعلياً هذه الفكرة التي شكَّلت منعرجاً كبيراً في تاريخ العلم.

من نقائص علم الفلك البطليموسي هو عدمُ دقتهِ في توقع الظواهر وحسابها، ما جعلهُ عقبة كبيرة أمام تقدم العِلم والمعرفة، ولذلك يستخلِصُ "توماس كون" أن الابتكارات الجديدة لا يجب أن تكونَ بالضرورة جواباً لوقائع جديدة، وهذا ما أدى بكوبرنيك إلى إدراك عدم صحة علم الفلك البطليموسي وضرورة تغييرهِ، وليسَ قيامهُ باكتشافاتٍ جديدة. يقول "توماس كون" أيضاً في هذا الصدد: "الحاجة هي التي تخلقُ العلم، فلولا الحاجة لما كانت الثورة الكوبرنيكية".

أعطت الثورة الكوبرنيكية للفيلسوف مجموعة من الآليات من أجل التفكير في الطبيعة وفي الكون وفي الإنسان. كما أثرت هذه الثورة في الفلسفة بشكلٍ كبير، بدءً من "كانط" الذي أسّس فلسفتهُ النَّقدية اعتماداً على هذه الثورة، كما أثرت أيضاً في نظرية النِّسبية عند "إينشتاين". لقد شكَّلت هذه الثورة جهازاً مفاهيمياً جعلت الفيلسوف يفكِّر بطريقة مُغايرة عن سابِقتها.

بخصوصِ نشأة العلم الحديث هناك وجهتا نظر في هذه الإشكالية، الموقف الأول يعتبرُ أنَّ النَّشأة كانت مع كوبرنيك وديكارت وغاليلي، لأنَّهم شكلوا الإرهاصات الأولى للعلم، وموقِفٌ آخر لا يعترِفُ بنشأة العلم الحديث، حيث يعتبرُ أن العلم محكومٌ بالاستمرارية. "ألكسندر كويري" يؤكد دائماً أن القرن السابع عشر هو البداية الفِعلية للعلم الحديث ولا يُمكننا الحديث عن علم قبل القرن 17. أمَّا "بيير دويهيم" فلا يؤمنُ أبداً بمسألة النَّشأة بل يعتبرُ أنَّ تاريخ العلم هو تاريخُ الاستمرارية.

إنَّ التحولات العلمية والفكرية هي التي تدفعُ المُجتمعات غير الأوروبية نحو التفكير في هذه التجربة الفريدة التي أدَّت إلى انقلابٍ شامل مسَّ مجمل الحياة البشرية، وهذه التحولات تُثيرُ حسًّا ووعياً تاريخيين. يقول "برنشفك": "إنَّ تكون علم حقيقي للطبيعة هو علامةٌ على أنَّ عصراً لم تشهد له البشرية مثيلاً، استعاد فيه الإنسان ثقتهُ بنفسهِ وبقدراتهِ الذهنية".

إنَّ فترة القرن السابع هي المفتاحُ الأساسي الذي أدَّى إلى نشأة العلم الحديث، وهنا تم فتحُ بابٍ جديد للعلوم والانفتاح على ثقافات أخرى. بعد القرن السابع عشر ازدهرت العلوم وعرفت أوروبا تحولاً كبيرا، مُدهشا، على مستوى العلم والفكر. وصارت أوروبا الأقوى فكرياً وعِلمياً.

المصادر:

كِتاب: حولَ دوران الأجرام السماوية، كوبرنيك.

كتاب: إبستيمولوجيا العِلم الحديث، سالم يافوت.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سفيان البراق
كاتب مغربي
كاتب مغربي
تحميل المزيد