"أمخاخ وأدمغة صغيرة مستقلة يزرعها العلماء في المختبرات" تثير مخاوف من أن تتحول لكائنات واعية، وأنها بالفعل باتت قادرة على التفكير، ما يفجر تساؤلاً مزعجاً: هل ستحاول هذه الأدمغة الصغيرة مقاومة عملية إنهاء العلماء لحياتها بعد الانتهاء من تجاربهم؟
ومنذ عام 2013، عندما نما أول "دماغ صغير" داخل أنبوب اختبار لدراسة اضطراب وراثي، كان الأمر اختراقاً علمياً مثيراً للجدل، إذ قام علماء بخلط ومطابقة كتل الأنسجة المشتقة من الخلايا الجذعية الجنينية البشرية، وذلك لدراسة تطور الدماغ وآليات اضطرابات النمو العصبي مثل التوحد واعتلال الدماغ الصرعي، أو حتى لتقييم سُمِّية دواء في جسم الإنسان.
ولكن الآن يثور جدل بشأن هذه الأمخاخ الصغيرة، فلا يمكن لأحد أن يضمن على وجه اليقين أن هذه الأدمغة المصغرة -المعروفة باسم العضيات الدماغية أو أشباه الدماغ في لغة علم الأعصاب- لن تتحول إلى كائنات واعية في مرحلة ما في المستقبل القريب أو البعيد، حسبما ورد في تقرير لموقع Popular Mechanics الأمريكي المتخصص في الشؤون العلمية.
كيف بدأت عملية زرع الأدمغة الصغيرة؟
في أغسطس/آب 2021، أخذ باحثون في مستشفى دوسلدورف الجامعي الأمريكي ومؤسسات أخرى نقطاً لزجة من دماغ الإنسان، وحثّوها على تكوين نسخ مبكرة من العيون.
الآن، هناك مشروع طموح ممول من Microsoft في جامعة كاليفورنيا الأمريكية، يدرس النشاط العصبي في مئات الأدمغة المصغرة بحجم بذور السمسم المزروعة داخل أطباق (تعرف باسم طبق بتري)، بهدف فهم تطور الدماغ وتطوره، ومساعدة من يعانون من أمراض عصبية.
مفاجأة صادمة في طبيعة عضويات الدماغ.. إنها تشبه مرحلة معينة من حياة البشر
تبدأ هذه الأدمغة الصغيرة أو العضيات كخلايا جذعية مفردة تنمو في محاليل مليئة بالمغذيات. بمرور الوقت، تخضع لعمليات تمايز مختلفة حتى تتطور إلى أدمغة صغيرة يمكن رؤيتها.
صغر حجمها لا يجب أن يخدعك
نعم إن طولها لا يزيد عن بضعة ملليمترات مع احتوائها على 2.5 مليون خلية عصبية فقط، مقابل متوسط دماغ الإنسان الذي يبلغ طوله حوالي 16 إلى 17 سم، ويحتوي على 100 مليار خلية عصبية هائلة.
ولكن هذا هو شكل دماغك البشري بشكل أو بآخر عندما كنت جنيناً، حسبما يقول أليسون موتري، الأستاذ في أقسام طب الأطفال والطب الخلوي والجزيئي في جامعة كاليفورنيا، والذي يقود المشروع.
ولكن على عكس الدماغ الذي يسكن الجسم البشري، والذي يسير في مسار نمو كبير، فإن نمو دماغ طبق بتري يتوقف عن العمل بعد 40 أسبوعاً (أو 9 أشهر) في المختبر.
تكهن موتري أن هذا يحدث لأن العضو العضوي يفتقر إلى مدخلات ومخرجات المولود الجديد، الذي سيفتح أعينه ويتلقى التحفيز البصري من اليوم الأول.
يتم تغذيته.. ويمكنه البقاء حياً إلى أن يقرر الباحث قتله
ومع ذلك، يقول موتري: "إننا نعمل على إعطاء الدماغ الصغيرة مجموعة من العيون العاملة". في واقع الأمر، يمكن الحفاظ على الدماغ الصغير "حياً" للمدة التي يريدها الباحث.
ويتم منحه الطعام بشكل صحيح قريب للأنماط الأولية التي يتحلل لها الطعام العادي في جسم البشر، مثل الأحماض الأمينية، والدهون، والملح.
وعادة ما "يقتلها" الباحثون في سن يدور حول ثلاث سنوات.
إليك فوائدها العلمية والطبية
من خلال تنمية الأدمغة الصغيرة، يعتقد موتري، أنه يمكننا كشف ألغاز كبيرة في البحوث الطبية الحيوية؛ من كيفية اختلاف نمو الدماغ المبكر في حالات مثل التوحد أو الصرع، إلى كيف يمكن لفيروسات مثل COVID-19 أن تدمر الدماغ،
كما يمكن أن تساعد الأدمغة الصغيرة على معرفة كيفية تفاعل الدماغ البشري مع الظروف في الفضاء الخارجي.
إضافة إلى معرفة كيف تطورت أدمغة إنسان نياندرتال (الإنسان البدائي) بشكل مختلف عن دماغنا منذ مئات الآلاف من السنين.
هل لديها عقول واعية؟
التعريف القياسي للوعي هو القدرة على إدراك محيطك والاستجابة له.
يكاد يكون التفسير مبسّطاً للغاية، ولا يقدم إجابة حاسمة بشأن ما إذا كانت هذه العضيات واعية، وعلى الأرجح فإن هذا التعريف لو قدم الإجابة فستكون هي أن هذه الأدمغة الصغير واعية، وهو ما يبدو أنه يختلف حوله العلماء.
"لا نعرف ما إذا كنا قد تجاوزنا الخط، لأننا لا نعرف كيف نختبر شيئاً كهذا"، حسبما يقول موتري قائد البحث بجامعة كاليفورنيا.
ما زلنا نحاول معرفة ما هو الوعي، "يدرك العلماء أن ما خلقوه حتى الآن بعيد جداً عما يمكن أن نسميه الوعي بالشكل البشري المتطور"، حسب ما تقول لورا كابريرا، أستاذ مشارك في العلوم الهندسية والميكانيكا والفلسفة، في مركز الهندسة العصبية في جامعة ولاية بنسلفانيا الأمريكية.
يبدو أنها قادرة على تطوير مزيد من الوعي، فهي قد تشعر بالألم!
هذا لا يعني أن عضيات الدماغ محكوم عليها بهذا المستوى المفترض من الوعي المنخفض.
تقول كابريرا إن هناك بالتأكيد احتمالاً أن تبدأ هذه العضيات أو الأدمغة الصغيرة في وقت ما في تطوير شكل من أشكال الوعي، بما في ذلك القدرة على بدء إدراك "الألم".
وتضيف: "حينئذٍ ستفعل شيئاً غير أخلاقي تماماً لكيان يشعر بالألم ويدرك ما تفعله". "هل نحن متأكدون حقاً من أننا نعرف متى تجاوزنا الخط؟".
الأكاديميات الوطنية الأمريكية للعلوم والهندسة قلقة بشأن قدرتها على تطوير وعي بشري
في أبريل/نيسان 2021، نشرت الأكاديميات الوطنية الأمريكية للعلوم والهندسة والطب تقريراً يحدد، من بين أمور أخرى، التداعيات القانونية والأخلاقية المحتملة التي تدور حول عضيات الدماغ، وعمليات الزرع البشري والحيواني.
وأشار التقرير إلى نقاط أخلاقية إيجابية لهذه الأبحاث البيولوجية، لأنها يمكن أن تخفف من معاناة الإنسان والمرض من خلال العلاجات التي تساعد في تطويرها.
ومع ذلك، أثار التقرير أيضاً مخاوف بشأن ما إذا كانت التجارب تتدخل في عملية الخلق، وتتعارض مع المعتقدات الدينية للكثيرين، وسلطت الضوء على المخاطر الأخلاقية المحتملة من الجهات المانحة التي لا توافق على استخدام مادتها الجينية الفريدة في البحث. لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو أن التقرير خلص إلى أنه على الرغم من أن الأدمغة المصغرة ليست مقلقة في الوقت الحالي من حيث الحجم والتعقيد والنضج.
ولكنها لفتت إلى أنه مع زيادة هذه الأدمغة، لا يمكن لأحد أن يضمن أنها لن تطور نوعاً من الوعي البشري. وقالت الدراسة إنه من الضروري أخلاقياً أن يراقب المجتمع العلمي عن كثب تطور أشباه الدماغ البشري.
إنها تتصرف كالأطفال المبتسرين، وتصمت إذا تم تخديرها!
وجدت دراسة أُجريت عام 2019، وشارك فيها موتري، أن العضيات تنتج موجات دماغية مماثلة لتلك الخاصة بالأطفال المبتسرين (المولودين ناقصي النمو)
وعندما يعالج الباحثون هذه الأدمغة الصغيرة بالمخدر، فإن موجات الدماغ "تصبح صامتة"، وهو بالضبط ما يحدث للدماغ البشري تحت التخدير. يقول موتري: "هذا دليل قوي على أن لديهم نوعاً من الوعي البدائي".
ويعتقد جيمس جيوردانو، رئيس برنامج دراسات الأخلاقيات العصبية في جامعة جورج تاون الأمريكية، أيضاً، أن الوعي مفهوم ذاتي للغاية بالنسبة للأكاديميين، ليعلنوا بثقة ما إذا كان بإمكان الكائنات العضوية أن تكون واعية أم لا.
أي بمعنى آخر، فتحديد مفهوم الوعي مسألة قابلة للتلاعب بها من قبل العلماء، حسب أهدافهم العلمية وشغفهم البحثي.
ومثل كابريرا ومويتري، يعتقد أنه من الممكن أن تحقق هذه الهياكل العصبية البسيطة نسبياً درجة معينة من الوعي بوجودها بمجرد ازدهارها في شبكات عصبية أكثر تعقيداً، من حيث الهيكل والوظيفة.
يؤكد جيوردانو كيف يمكن للشبكات متعددة المكونات أن تتكاثر بسرعة كبيرة داخل عضو عضوي في الدماغ، وتبدأ في "التواصل" مع بعضها.
وتخيل شبكة خلوية يقوم فيها عدد لا يحصى من الأشخاص بالاتصال أو إرسال رسائل إلى بعضهم للحصول على الصورة.
الآن، ما كان يوماً ما دماغاً طفلاً هو نظام متطور للغاية، ربما يكون قد أسس بعض الإحساس بالداخل مقابل الخارج، كما يقول جيوردانو.
يمكن دمجها في روبوتات دقيقة.. فهل يخلق العلماء فرانكشتاين حقيقياً هذه المرة؟
في مارس/آذار 2021، أعلن العلماء في جامعة تافتس وجامعة فيرمونت ومعهد نيوجيرسي للتكنولوجيا بالولايات المتحدة أنهم قاموا بتشكيل الأنسجة المأخوذة من الخلايا الجذعية لأجنة الضفادع البالغة من العمر 24 ساعة، في أول روبوت حي في العالم، الزينوبوت (xenobots).
باعتبارها كائنات قابلة للبرمجة، فإنها تمثل فئة جديدة كاملة من الأدوات. يقول جيوردانو: "يمكننا أن نكون على يقين نسبياً من أن الزينوبوت، لا تعمل حالياً بمستوى يسمح بالتعقيد الضروري للوعي".
ولكن هذا ينطبق على الوقت الحالي أي لا يمكن ضمانه في المستقبل، إذ يقول جيوردانو إنه كلما زاد عدد هذه الأنواع الهجينة -التي صُممت جزئياً لتنظيف اللدائن الدقيقة أو هضم المواد السامة في المحيط- إما بشكل مباشر أو من خلال التفاعل مع نظام حي، زادت احتمالية تطوير شكل من أشكال الوعي الأولي لديها.
الوعي الأولي هو حالة بدائية جداً من الوعي، تتضمن بشكل أساسي الإدراك والعاطفة، ولكنها ليست بمثل تعقيد الإدراك الذاتي والتفكير المجرد.
اكتشاف صادم.. قد يكون لديها أقوى غريزة لدى الكائنات الحية وهي حب البقاء
ولكن ما الذي يمكن أن يحدث حقاً إذا أظهرت الزينوبوت نوعاً من الوعي الذاتي، أساسياً بين الكائنات الحية، وهي غريزة البقاء؟
يقول جيوردانو: "حسناً، إذاً قد تقاوم الزينوبوت العودة إلى سطح البحر، لأنه كان من المفترض أن تكون في أعماق المحيط، وربما تعتبر فعل إعادة الظهور على سطح البحر تهديداً محتملاً لبقائها على قيد الحياة".
في هذه الحالة، يمكن أن تكون محيطاتنا مليئة بالضفادع السيبرانية الصاخبة، على غرار Jurassic-Park (فيلم حديقة الديناصورات)، سيخلق هذا نوعاً من سيناريو الكائنات المرعبة مثل فرانكشتاين، حسب ما تقول كابريرا مازحة.
قد يفضل البعض منع حتى إمكانية إنشاء تجارب علمية حية، مثل عضويات الدماغ والزينوبوت، التي تعاني من الوعي أو الألم أو الضيق أثناء العبث بها.
فماذا ستفعل لو حاول العلماء التخلص منها بعد انتهاء التجارب؟
ماذا لو كان لديك مجموعة من العضيات التي لم تعد بحاجة إليها بعد انتهاء التجربة، ومع ذلك -حسب تقدير التجربة- تظهر هذه الأدمغة الصغيرة بالفعل نوعاً من الوعي البدائي؟
هل تقتلهم؟ أم تدعهم يبقون في أسر سائل؟ ما الأفضل أخلاقياً؟
والسؤال الذي يبدو أن العلماء يتجنبونه: ماذا لو حاولت الدفاع عن نفسها والتمرد على عملية قتلها، كأي كائن حي لديه غريزة البقاء؟
تقول معدّة تقرير موقع Popular Mechanics: "يبدو أننا نخلق حياة جديدة، لأننا مدفوعون برؤية علمية وشغف لمعالجة مشكلات طبية، وهي أهداف نبيلة، لكن الأمور قد تخرج عن نطاق السيطرة قليلاً".