كان ألبرت أناستازيا يُلقب بـ"الجلاد" ويعتبر أحد المجرمين الأكثر خطورة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يُنسب إليه ما بين 300 و700 عملية قتل، شارك فيها أو أمر بتنفيذها. لكن دون أن يتم سجنه، سواء بسبب اختفاء الشهود أو وفاتهم أو خوفهم من الإدلاء بشهادتهم أمام المحكمة.
بدايات ألبرت أناستازيا
وُلد ألبرت أناستازيا يوم 26 سبتمبر/أيلول 1902، بمدينة "تروبيا" بأقصى جنوب غربي إيطاليا، تحت اسم "ألبيرتو أناستازيو"، وقد كان أحد الأبناء التسعة لوالده رافائيل أناستازيو ووالدته لويزا نومبينا.
ووفقاً لموقع THE FAMOUS PEOPELE الأمريكي، فإنّ الوالد الذي كان يعمل بالسكك الحديدية، توفي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، فهاجر ألبرتو في سنة 1919، رفقة ثلاثة من أشقائه، إلى الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة غير شرعية، فاستقر بمدينة نيويورك، وغيّر اسمه إلى "ألبرت أنستازيا" في العام 1921.
وصاحب أناستازيا عمال الميناء الذين كانوا يعيشون معه بحي بروكلين بنيويورك الذي كان معروفاً بضمه عائلات فقيرة من مختلف الأعراق، ما ساعده في إيجاد شغل بالميناء ثم سرعان ما فرض نفسه كواحد من أقوى رجال نقابة عمال الميناء لمدينة نيويورك والتي كانت لها علاقة خفية بعالم الجريمة المنظمة.
وقد ظهرت ميول أناستازيا نحو العنف المفرط لأدنى استفزاز في مارس/آذار 1921، عندما تشاجر مع أحد عمال الميناء، ويُدعى "جورج تورينو"، وقد أسفرت هذه المشاجرة عن مقتل هذا الأخير.
وحُكم على أناستازيا بعد تلك الجريمة بالإعدام وتم نقله إلى سجن "سينغ سينغ" بولاية نيويورك، حيث كان ينتظر تنفيذ الحكم، ولكن ووفقاً للموقع الأمريكي ذاته، فإنّ بعض التعقيدات القانونية أدت إلى حصول أناستازيا على محاكمة جديدة، والتي منحته البراءة بسبب عدم حضور أربعة شهود إثبات رئيسيين إلى المحكمة.
وتقول بعض المراجع التاريخية، على غرار موقع THE MOB MUSEUM، إن أولئك الشهود قد يكونون غابوا عن المحاكمة، بسبب اغتيالهم على غرار كثير من الشهود الذين اختفوا أو رفضوا الادلاء بشهادتهم في عدة قضايا قتل كان أناستازيا متهماً رئيسياً فيها أو ضالعاً فيها، ما جعله يفلت من العدالة.
والقضية الوحيدة التي لم ينج فيها أناستازيا من العدالة، كانت "تافهة" مقارنة بفظاعة جرائمه الأخرى، وهي "حيازة سلاح ناري غير مرخص"، قضى بسببها سنتين سجناً من 1923 إلى 1925.
صداقته مع لوتشيانو رفعته إلى المناصب العليا للمافيا الأمريكية
وعلى الرغم من أن جذوره لم تكن من جزيرة صقلية الإيطالية، فإن أناستازيا عمل في بداية عمله الإجرامي لصالح عائلة جو ماسيريا الصقلية، رفقة لوكي لوتشيانو وفرانك كوستيلو اللذين ربطته بهما علاقة صداقة وطيدة.
وبحكم وفائه لصديقه لوتشيانو فقد شارك أناستازيا في المؤامرة التي دبرها هذا الأخير للتخلص من زعيمي مافيا نيويورك، جو ماسيريا وسالفاتوري مارانزانو اللذين كانت عائلتاهما تتقاتلان على الزعامة الكبرى، منذ النصف الثاني من سنوات 1920.
وقد كان أناستازيا ضمن الفريق المُتكون من أربعة رجال والذين قاموا بقتل جو ماسيريا، في أبريل/نيسان 1931، داخل مطعم في "كوني أزلاند" ببروكلين، فأصبح لوتشيانو زعيماً جديداً لعائلة ماسيريا، فيما تحول سالفاتوري مارانزانو زعيم الزعماء capo di tutti capi، بعد عقده لاجتماع وطني بنيويورك ضم 300 شخصية من كل عائلات الجريمة المنظمة للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن لوتشيانو لم يكتف بزعامة "عائلة ماسيريا" فأكمل خطته بتدبير عملية قتل مارانزانو داخل مكتبه يوم 11 سبتمبر/أيلول 1931، من طرف رجلين ادعيا أنهما موظفان في وزارة الخزانة الأمريكية.
وباكتمال العملية أصبح لوكي لوتشيانو مُتربعاً على عرش نقابة الجريمة المنظمة الأمريكية، وكافأ صديقه ألبرت أنستازيا بمنحه عضوية دائمة في المنظمة الإجرامية، ومنصب النائب الأول لرئيس "عائلة مانفريدي" التي كان يديرها فينسون مانغانو.
وتم تعيين أناستازيا في منصب مهم بالمافيا الأمريكية، تمثل في نيابة رئاسة جمعية Murder Incorporated، وهي الجناح المسلح لنقابة الجريمة المُنظمة بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي ترأسها بالتعاون مع ليبكي بوشالتر، أحد أكبر المجرمين المُبتزين في ذلك الوقت.
وكانت تلك الجمعية مُكلفة بتنفيذ عمليات القتل بطلب من زعماء عائلات المافيا الأمريكية، مقابل قيمة مالية محددة مسبقاً. وكان أغلب ضحاياها من رجال عائلات المافيا نفسها أو أشخاص مرتبطين بالنشاط الإجرامي والذين تم قتلهم "لأسباب تجارية".
وقد استمر نشاطها إلى غاية السنوات الأولى لأربعينيات القرن الماضي، ولم تكن معروفة لدى أجهزة الأمن الفيدرالية قبل أن يكشف عن وجودها أحد أعضائها، يُدعى "أبي ريلاس"، الذي كان يعمل مخبراً لدى شرطة نيويورك، والذي روى بالتفصيل 70 عملية قتل نفذتها الجمعية إضافة إلى ترجيحه وجود مئات من الاغتيالات الأخرى تمت بإيعاز من الجمعية الإجرامية ذاتها.
وعلى الرغم من وشاية أبي ريلاس وكشفه عن ذلك العدد الكبير من الجرائم، فإنّ تحريات الشرطة الأمريكية لم تفضِ إلا إلى إدانة الرجال المُنفذين لأوامر القتل، إضافة إلى ليبكي بوشالتر الذي طُبق عليه حكم الإعدام في العام 1944، في حين لم تجد أي دليل مادي لاتهام ألبرت أناستازيا الذي واصل رئاسة الجمعية بمفرده إلى غاية حلها تلقائياً بعدما أضحت كل عائلة تفضل تنفيذ عملياتها المسلحة برجالها التابعين لها فقط.
أما أبي ريلاس فقد قُتل يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1941، بأمر من ألبرت أنستازيا، لكن دون وجود دليل لإدانته.
شارك في حماية الساحل الشرقي الأمريكي من تسلل النازيين
ووفقاً لموقع THE MOB MUSEUM، فإنّ أنستازيا التحق خلال الحرب العالمية الثانية بالجيش الأمريكي، فشارك في حماية الساحل الشرقي للولايات المتحدة، بحيث قاد فريقاً من العمال لحماية موانئ نيويورك من تسلل النازيين الألمان.
وقد كافأت الولايات المتحدة ألبرت أنستازيا بمنحه الجنسية الأمريكية في سنة 1943، نظير عمله في الجيش الأمريكي. وتقول بعض الروايات إنّ تعاون أنستازيا مع الجيش كان بإيعاز من قائده الأعلى لوكي لوتشيانو الذي كان مسجوناً منذ العام 1936 واستمر في تسيير النقابة الاجرامية من محبسه.
وتوضح تلك الروايات أنّ لوتشيانو قد عرض تعاونه مع السلطات الأمريكية من خلال مساهمة أناستازيا في حماية موانئ نيويورك، إضافة إلى دعم المافيا الإيطالية لقوات الحلفاء في إنزالها الشهير بجزيرة صقلية الذي جرى في يوليو/تموز 1943 والذي كان إحدى المحطات الحاسمة في ترجيح كفة الحلفاء على دول المحور خلال الحرب العالمية الثانية.
وقد تم الاتفاق على ذلك التعاون مقابل ترحيل لوتشيانو إلى صقلية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بدل قضائه عقوبة السجن المؤبد المحكوم بها في الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي تم فعلاً في فبراير/شباط 1946.
أطاح برئيس عائلته.. ثم أطاح به نائبه
وبعد نهاية الحرب العالمية، تفرغ أناستازيا لصراعه مع فينسون مانغانو، على زعامة "عائلة مانفريدي"، انتهى بمقتل هذا الأخير وشقيقه فيليب في سنة 1951.
وعلى الرغم من عدم إدانة أناستازيا بمسؤوليته عن مقتل الشقيقين مانغانو، فإنّ كثيراً من الشكوك قد حامت حول ضلوعه في الجريمتين، بحكم أنّه كان المستفيد الأكبر من اختفاء الرجلين من الواجهة، بحيث أصبح زعيم العائلة بدون منازع.
واستفاد أناستازيا في الوصول إلى رئاسة العائلة الإجرامية من دعم زعيم الزعماء الجديد، فرانك كوستيلو، الذي كان قد تسلم رسمياً هذا المنصب الرفيع بعد ترحيل لوكي لوتشيانو إلى إيطاليا.
ولكن في تلك الفترة كان كوستيلو يعاني من تمرد أحد زعماء العائلات الخمس لنيويورك وهو فيتو جينوفيرزي الذي وجد مساندة من قادة آخرين على غرار ماير لانسكي وأحد نواب أناستازيا نفسه، وهو كارلو غامبينو.
وانتهت المواجهة بين كوستيلو وجينوفيرزي بانسحاب الأول، في سنة 1957، بعد تعرضه لمحاولة اغتيال فاشلة، فتسلم جينوفيرزي رئاسة نقابة الجريمة المنظمة، ثم سرعان ما سقط ألبرت أناستازيا مقتولاً بالرصاص عندما كان جالساً على كرسي حلاقة بأحد صالونات مانهاتن بنيويورك، يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته، فتسلم رئاسة العائلة، كارلو غامبينو، فأصبحت تُسمى باسمه أي "عائلة غامبينو".
وبعدما نجا من كرسي الإعدام لعشرات المرات، توفي ألبرت أناستازيا مقتولاً بالرصاص وهو جالس على كرسي حلاقة والذي بيع لاحقاً في مزادٍ علنيٍّ، ثم وضع، في فبراير/شباط 2012، بمتحف الجريمة بمدينة لاس فيغاس الأمريكية.