"الفيروس الجديد الذي ينتشر في الصين مقلق".. كانت هذه كلمات وزير أمريكي قبل ثلاثة أعوام، ولم يكن يتحدث عن فيروس كورونا المستجد، بل إنفلونزا الطيور، والآن يبدو تحذيره مرشحاً لأن يحدث.
ففي فبراير/شباط 2020، ألقى ستيفن تشو، وزير الطاقة السابق في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، خطاباً بمؤتمر علمي حول الفيروسات، قال فيه إنه متخوف بشأن بعض الأمور التي تحدث في الصين، فقد شهدت بلدة تقع شمال مدينة ووهان الصينية تفشياً لإنفلونزا الطيور فيها.
وقال تشو: "إنه أمر مقلق. ولكي تدرك خطورة الأمر، يكفيك أن تعرف أن نسبة الوفاة به إذا أصابك تبلغ 60%". و"لو وجدَ هذا الفيروس وسيلة للانتشار بفاعلية من شخص لآخر، فإن الأمر سيكون بالغ الخطورة، فنحن نتحدث عن جزء كبير من سكان العالم".
لكن بعد شهر، انتقل فيروس آخر إلى الولايات المتحدة، وتحولت مدينة سياتل إلى بؤرة الموجة الأولى من فيروس كورونا في أمريكا، وتراجعت المخاوف من إنفلونزا الطيور في ظل انشغال الناس بجائحة كورونا.
ولكن إنفلونزا الطيور ما زالت تخيف العلماء، بعد تقارير عن انتقالها للثدييات والبشر، ويأملون ألا تنتقل بين البشر وتتحول لجائحة مثلما حدث مع كورونا التي يعتقد أنها انتقلت للبشر من الخفافيش.
وتشير البيانات الواردة حالياً إلى وجود إصابات بإنفلونزا الطيور بين مجموعة من البشر؛ فإلى أي درجة ينبغي أن نقلق من هذا الفيروس، لا سيما أن العالم خرج لتوه من جائحة كورونا وتداعياتها؟
ما مخاطر إنفلونزا الطيور على الإنسان؟ إليك ظروف أول حالة وفاة بشرية
أكثر ما أقلق العلماء ما حدث في بيرو، إذ هلكت مئات من أسود البحر بعد إصابتها بإنفلونزا الطيور، ما يعني أن الفيروس انتقل إلى ثدييات.
وفي إسبانيا، تفشى الفيروس في مزارع تربية حيوان "المنك"، ما يعني انتشاره أيضاً بين حيوان من الثدييات. ثم وصل الفيروس إلى كمبوديا، حيث ورد أن فتاة على الأقل توفيت به، بعد إصابتها ووالدها، فضلاً عن 11 آخرين يخضعون للمراقبة الطبية.
وخاف العلماء أن تكون هذه الإصابات مقدمةً لتفشي وباء إنفلونزا الطيور في عام 2023.
إليك إجمالي الإصابات البشرية بهذا الفيروس
لكن الواقع أن هناك أكثر من 850 حالة إصابة مؤكدة بفيروس إنفلونزا الطيور (H5N1) منذ انتقاله إلى البشر أول مرة في عام 1996. ومع أن معدل الوفيات بالفيروس بين هؤلاء المصابين كان مرتفعاً، فإن الراجح أن هذا المعدل انطوى على قدر كبير من المبالغة، لأن هناك حالات خفيفة كثيرة لم تسجَّل.
يُحتمل ألا يكون الفيروس قد انتقل بين أسود البحر، وإنما انتقل إليها بعد تناولها عشرات الآلاف من الطيور النافقة التي كانت مصابة بالفيروس. ما يعني أن رقم التكاثر الأساسي R بينها يساوي صفراً، والرقم R يعني عدد الحالات المتوقعة عند انتقال العدوى من بين أسود البحر بعد إصابة واحدة في مجموعة معينة.
وهذا يعني أن المرض قد ينتقل من الطيور لأسود البحر، ولكن من أسد بحر لآخر حتى الآن.
إليك الفئات الأكثر عرضة للخطر
أما حيوانات المنك المصابة، فربما نقلت العدوى بالفعل بين بعضها بعضاً، ومع ذلك فإن البيئة المغلقة لتربية حيوانات المنك في المزارع لا يمكن القياس عليها عند الحكم على الانتقال بين البشر الذين يعيشون في البيئات المفتوحة.
وتشير أوثق البيانات المتاحة حتى الآن إلى أن رقم التكاثر الأساسي بين البشر يساوي نظيره عند أسود البحر، أي يكاد يقترب من الصفر.
ومن ثم إلى أن يتغير ذلك، وهناك احتمال ألا يتغير، فإن أصحاب مزارع الدواجن هم من يجدر بهم القلق من تفشي الفيروس، وليس المجتمع كله.
لماذا هذا الذعر بين العلماء إذاً؟
يقول إيان براون، رئيس قسم علم الفيروسات في "وكالة صحة الحيوان والنبات" البريطانية، إن "بريطانيا شهدت في المدة بين العام ونصف العام الماضيين أكبر تفشٍّ شهدته على الإطلاق لإنفلونزا الطيور. لقد كان للأمر تأثير كبير جداً في صناعة تربية الدواجن".
من جهة أخرى، باتت إنفلونزا الطيور أكثر انتشاراً وأقل اقتصاراً على مواسم معينة، واتسع نطاق انتشارها في أماكن مختلفة عن أي وقت مضى. فالفيروس حاضر في كل مكان، ما عدا القارة القطبية الجنوبية وأستراليا.
أما في أمريكا الجنوبية، حيث تعاني الطيور البرية ضعف المناعة إزاء الفيروس، فإن الطيور البحرية النافقة تفترش بعض الشواطئ، مهددة بنقله للثدييات البرية.
هل أدى ارتفاع حرارة الأرض لزيادة فرص انتشار المرض؟
في غضون ذلك، فإن الباحثين المعنيين بإحصاء حالات الإصابة وقعوا في حيرة بشأن السبب في هذه الزيادة المباغتة بأعداد الإصابة.
وقال رولاند كاو، من جامعة إدنبرة البريطانية: "نجهل الكثير من الأمور هنا، وليس لدينا فكرة واضحة عن الأسباب. ربما تكون الزيادة لتغييرات بيئية. ونحن نعلم أن أنماط الهجرة قد تغيرت في السنوات الماضية، ودرجات الحرارة تتغير، ومن ثم يحتمل أن نشهد أنماط اختلاط مختلفة بين الطيور".
مهما كان السبب، فإن زيادة الإصابات بين الطيور ستكون لها أضرار كبيرة. والسؤال هنا، ما تداعيات ذلك على انتشار الفيروس بين البشر، وكيف يمكننا التعامل مع الأمر؟ لا سيما أن كل اختلاط بين الإنسان وهذا الفيروس يزيد من فرصه وقدرته على إصابة البشر، ثم الانتقال بينهم. ومع أن هذا الخطر ما زال محدوداً للغاية، فإن وقوعه -لا قدر الله- ستكون له عواقب فادحة.
قال كاو: "شهدنا سلسلة من الأوبئة خلال القرن الماضي -أكبرها بعد الحرب العالمية الأولى- وقد جاء معظمها من مصدر واحد، وهو الطيور".
إليك أسباب صعوبة احتواء إنفلونزا الطيور مقارنة بفيروس كورونا
إن احتواء إنفلونزا الطيور أصعب بكثير من احتواء فيروس كورونا، فالدول يمكنها أن تمنع الطائرات من الطيران، لكن لا أحد يمكنه أن يمنع الطيور البرية من الطيران. وإذا تفشى الفيروس في مزرعة دواجن، فأنت لن تتكلف التطعيم والتباعد الاجتماعي، بل يكفيك أن تتخلص من هذه الطيور المصابة لإبطاء وتيرة انتشار الفيروس بين الطيور، وقطع الطريق على انتقالها إلى البشر.
ولهذا السبب، يقول براون إن المراقبة المنسقة بين دول العالم أمر لا غنى عنه لمكافحة انتشار الفيروس، إذ "يتعين علينا متابعة انتشار الفيروس في كل مكان، ثم التدخل السريع، فنحن نحمي الصحة العامة باحتواء الإنفلونزا في الطيور" والحيلولة دون انتقالها إلى البشر.
إليك عدد الوفيات المحتمل إذا انتقلت إنفلونزا الطيور إلى البشر
أجرى مركز "سويفت" للتنبؤ التطبيقي استطلاعاً بين خبراء التنبؤ عن احتمالات أن يزيد عدد الإصابات بإنفلونزا الطيور المنتقلة عبر البشر على 100 حالة بحلول الصيف. توقع الخبراء حدوث الأمر بنسبة بلغت 2%. لكنهم حذروا بعدها من أن تجاوز هذا الحاجز المحدود في أعداد الإصابة قد يستدعي وفاة أكثر من 50 ألف شخص، وتوقعوا ذلك بنسبة بلغت 40%.
في سياق الاستعداد للأمر، كوَّنت وكالة الأمن الصحي في بريطانيا مجموعة طوارئ، لتقديم نماذج بشأن احتمالات الانتقال المبكر للفيروس إلى الإنسان، والنظر في إجراءات التدخل التي ينبغي اتخاذها على غرار الاختبارات السريعة لفيروس كورونا.
من جهة أخرى، حثَّ جيريمي فارار، الرئيس المنتهية ولايته لمؤسسة Wellcome Trust البريطانية الخيرية، على تطوير لقاحات للبشر إذا انتقل الفيروس إليهم. وقد أنشأ العلماء بالفعل "بنكاً" للفيروسات، حتى يكون لدينا قوالب للقاحات جاهزة للعمل. ويمكن الاعتماد في ابتكار هذه اللقاحات على بعض التقنيات التي تطورت خلال فيروس كورونا.
هل يتم احتواؤه مثل كورونا أم يكون أشد وطأة؟
يقول براون: "ليس هناك دليل على أن الفيروس سيبقى ينتشر إلى أجل غير مسمى في الطيور البرية. فالأمور تأخذ مجراها، وقد تكون الدورة قصيرة جداً. وفي النهاية، ستتراكم لدى الطيور البرية حصانة كافية لها للتخفيف من حدة الفيروس وانتشاره".
وقال كاو: "يتوقع أن يستقر الأمر في النهاية، لكن السؤال كم من الوقت سيستغرق ذلك؟ كم من الوقت سنضطر إلى إعدام الحيوانات ومراقبة المزارع مراقبة وثيقة؟ إذا اقتصر الأمر على سنة واحدة، فإنه قابل للإدارة. أما إذا تجاوز تلك المدة، فستكون التكلفة أعلى بكثير. وقد بدأت بعض البلدان في البحث عن سبل لتطعيم الدواجن، لكن هذا الأمر عالي التكلفة أيضاً".
والخلاصة أنه مهما اشتدت الأزمة، فإنها ستنتهي، لكن ستحمل معها الهلاك لأعداد كبيرة من الطيور، والخسارة لكثير من الأموال.