مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني تزداد الضغوط من الغرب على أغلب الدول، كي تتخلى عن الحياد وتقطع علاقاتها مع روسيا، فلماذا يمثل الانحياز لأي من الطرفين "رفاهية" لا يمتلكها المغرب؟
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، قد تسبب في عودة أجواء الحرب الباردة رسمياً إلى الساحة السياسية الدولية، وسعت الولايات المتحدة إلى محاصرة روسيا سياسياً واقتصادياً، وهو ما وضع كثيراً من دول العالم في مأزق حقيقي.
إذ إن روسيا دولة كبيرة تتمتع بعلاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية مع كثير من دول العالم، وخاصة في الشرق الأوسط، وقطع تلك الدول علاقاتها مع موسكو استجابة للضغوط الأمريكية قد يكون قراراً مكلفاً للغاية.
موقع Middle East Eye البريطاني نشر تقريراً يرصد كيف أن المغرب قد يدفع ثمناً اقتصادياً باهظاً للغاية، في حال انحاز لأي من طرفي الحرب الروسية الأوكرانية، التي دخلت بالفعل عامها الثاني.
ما موقف المغرب من حرب أوكرانيا؟
حين هاجمت روسيا أوكرانيا، في فبراير/شباط الماضي 2022، حاول المغرب، الذي يعد من أكبر حلفاء الولايات المتحدة، تبنِّي موقف محايد، ولزم التحفظ في دعم إجراءات واشنطن ضد الكرملين.
فامتنعت الرباط عن التصويت خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت على رفض العدوان الروسي، وقابلت محاولات الولايات المتحدة ضمها إلى المعسكر الغربي بالصد.
وحاولت الدولة الواقعة في شمال إفريقيا، التي تعتمد على وارداتها من القمح من كلا البلدين، الحفاظ على العلاقات مع الشرق والغرب على السواء، خاصة أن اقتصادها كان لا يزال متأثراً بجائحة كوفيد-19 والجفاف الشديد.
لكن مع دخول الحرب المدمرة عامها الثاني الآن، قال خبراء لموقع Middle East Eye إن التداعيات الجيوسياسية للحرب أجبرت المغرب على خوض مجموعة من التحديات الدبلوماسية والاقتصادية، فضلاً عن الطبيعة المتقلبة للرأي العام.
وقال محمد شتاتو، المحلل السياسي وأستاذ علوم التربية بجامعة محمد الخامس بالرباط، لموقع Middle East Eye: "المواطن المغربي العادي يؤمن من داخله بأن هذه حرب أوروبية أخرى، قامت لأهداف وقيم أوروبية"، وأضاف: "الحرب الحالية جاءت نتيجة استفزاز الناتو للروس".
وهذه الآراء أصبحت هي السائدة في أجزاء كبيرة من المغرب، مثلما برهن استطلاع أجرته منظمة تحالف الديمقراطيات، في مايو/أيار الماضي، وجد أن 14% فقط من المغاربة يرغبون في أن تقطع الرباط "العلاقات الاقتصادية مع روسيا بسبب الحرب".
يقول أنور مجيد، نائب رئيس الشؤون العالمية في جامعة نيو إنغلاند، لموقع Middle East Eye، إن هذه الحرب بالنسبة للمواطن المغربي العادي جزء من "علاقة جيوستراتيجية معقدة، وليست لها أهمية تُذكر لمصالح المغرب".
محاولات المغرب لتحقيق التوازن
بعد يومين من انطلاق الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، أحجم المغرب عن الانحياز لأي من طرفي الحرب.
واكتفت وزارة الخارجية في البلاد بإصدار بيان غامض، أكد على "قلق" المملكة و"دعمها لوحدة أراضي جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة".
وانخرط المغرب بعدها في تعزيز العلاقات مع الكتلة الغربية الموالية لأوكرانيا ومع خصومها الروس أيضاً. ففي أبريل/نيسان، حضر ممثلون مغاربة مؤتمراً في قاعدة عسكرية أمريكية في ألمانيا، لمناقشة تقديم المساعدات الإنسانية والعسكرية لأوكرانيا. ودعم المغرب أيضاً جهود الأمم المتحدة لتوزيع المساعدات الإنسانية على الأوكرانيين.
على أنه في يونيو/حزيران، أرسل الملك محمد السادس رسالة إلى بوتين تحتفي بالعلاقة بين البلدين. وبعد أربعة أشهر، توصلت وزارة الطاقة إلى اتفاق بخصوص الطاقة النووية مع شركة روس آتوم الروسية الحكومية، التي يقول الغرب إنها تُسهم في المجهود الحربي الروسي.
وقال شتاتو، الأستاذ في جامعة محمد الخامس، لموقع Middle East Eye، إن حافز علاقات المغرب الودية مع روسيا اقتصادي: "المغرب ليس لديه خيار سوى البقاء على الحياد. فهو في الأساس حليف للغرب، ولكن تربطه علاقات مع روسيا والصين أيضاً، وبقدر ما تحتاج البلاد إلى الولايات المتحدة وأوروبا للاستثمار، فهي تحتاج أيضاً إلى العالم الشرقي للتكنولوجيا والتجارة، ولذلك يعتبر الحياد الخيار الأمثل".
وفي الوقت الذي قيدت فيه الدول الغربية استيرادها للوقود الروسي، زاد المغرب وارداته. في عام 2022 استوردت المملكة 735 ألف طن من وقود الديزل من روسيا، بزيادة قدرها 11 ضعفاً عما استوردته عام 2021.
وأعاقت العقوبات الدولية قدرة روسيا، أكبر مُصدِّر للأسمدة في العالم عام 2020، على بيع هذا المنتج المهم. وتعامل المغرب، رابع أكبر مُصدِّر في ذلك العام، مع ذلك بالتخطيط لزيادة إنتاجه من الفوسفات بنسبة 10%.
قنبلة زراعية موقوتة
لكن تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على القطاع الزراعي في المغرب كان وخيماً. إذ أشار تقرير صدر العام الماضي عن "الهيئة الزراعية الخارجية"، وهي هيئة حكومية أمريكية، إلى أن روسيا وأوكرانيا تمثلان 24% من واردات المغرب من القمح، لكن حجم الصادرات الأوكرانية تراجع منذ اندلاع الحرب.
يقول إسماعيل عُريش، محلل السياسات في الوكالة السويدية لتحليل سياسات النمو: "المغرب يحاول دوماً موازنة تأمين الإمداد المعقول من الحبوب، وخاصة القمح". وأشار إلى أن "تنويع مصادر إمدادات القمح" للمغرب قد يساعد المملكة على تحمل آثار الحرب الروسية الأوكرانية مهما بلغت شدتها. وعام 2020، استوردت المملكة 396 مليون دولار من القمح من فرنسا، أي أكثر مما استوردته من روسيا وأوكرانيا مجتمعتين.
وقال عريش لموقع Middle East Eye: "لكن على المدى الطويل، يبدو الوضع مقلقاً جداً بالنظر إلى تأثيرات تغير المناخ على البلاد".
وحذر تقرير الهيئة الزراعية الخارجية من أن محصول المغرب من القمح قد ينخفض بنسبة 70%، بسبب ظاهرة الجفاف التي تفاقمت بسبب تغير المناخ. ووجد التقرير أيضاً أن الحرب الروسية الأوكرانية "زادت من تقلب الأسعار".
وقال مصطفى النُّقراوي، المزارع والقيادي المجتمعي في بلدة تافراوت جنوب المغرب: "رغم بعد المغرب جغرافياً عن أوكرانيا، فتأثير الهجوم الروسي على هذا البلد الأوروبي كان قاسياً على الزراعة المغربية".
وأشار النقراوي إلى الزيادات في سعر الوقود، الذي ارتفع ارتفاعاً حاداً بعد تقييد العقوبات الدولية لصادرات روسيا من النفط الخام والغاز الطبيعي. ومع زيادة إنفاق المزارعين على الوقود اللازم للأنظمة التي تروي محاصيلهم والسيارات التي تنقل منتجاتهم إلى السوق، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية.
والعام الماضي، أصدر مركز السياسة للجنوب الجديد كتاباً أبيض يعزو معاناة المغرب مع التضخم إلى هذا الارتفاع في أسعار الطاقة والغذاء.
وقال النقراوي لموقع Middle East Eye: "ستزيد معدلات الفقر ومستويات التفاوت وانعدام المساواة".
التداعيات الاقتصادية لحرب أوكرانيا
أفاد تقرير صادر عن البنك الدولي، مطلع هذا الشهر، أن معدل التضخم في المغرب، في ديسمبر/كانون الأول عام 2022، بلغ 8.3%، وهو رقم ربطته المؤسسة المالية الدولية بالحرب الروسية الأوكرانية.
وقال نوفل بلحاج، أستاذ الاقتصاد بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء: "كان للأزمة الأوكرانية تأثير قوي على الاقتصاد المغربي، لا سيما من حيث أسعار المواد الخام، وهذا تسبب في تضخم كبير أثر على جميع السكان، وخاصة الطبقة الوسطى والفقيرة".
واستجاب المغرب للأزمة المالية بدعم السلع اليومية وتقييد الصادرات. والشهر الماضي، أعلنت وزيرة الاقتصاد والمالية، نادية فتاح العلوي، أن المملكة دفعت 2.1 مليار دولار لدعم غاز الطهي، و983 مليون دولار للقمح، و491.5 مليون دولار للسكر عام 2022. وفي خطوة غير اعتيادية حظرت المملكة تصدير البصل والبطاطس والطماطم إلى غرب إفريقيا مطلع هذا الشهر لتهدئة أسعار المواد الغذائية.
لكن الخبراء يشككون في فاعلية واستدامة هذه الإجراءات قصيرة الأجل، في الوقت الذي يستنزف فيه المغرب احتياطياته من العملات الأجنبية.
وقال بلحاج لموقع Middle East Eye: "القوة الشرائية للناس تراجعت، لكن الرواتب ظلت كما هي في القطاعين العام والخاص. وارتفعت معدلات البطالة وخفضت الطبقة الوسطى مستوى استهلاكها".
واتفق النقراوي بالقول: "لا أعتقد أن هذه الحلول الترقيعية التي تتخذها الحكومة المغربية ستحد من هذه الأزمة".
وهذا الشعور آخذ في الانتشار. فالأسبوع الماضي نظمت نقابة عمالية كبرى مظاهرات ضد ارتفاع أسعار الوقود والغذاء، وتجمّع المحتجون في مكناس وطنجة، وكذلك على فيسبوك وتويتر.
ورغم ذلك، يبدو مستبعداً أن تدفع الأزمة المالية التي أججتها الحرب الروسية الأوكرانية، المغاربة إلى دعم اتخاذ إجراء ضد روسيا، وهي خطوة قد تؤدي في حد ذاتها إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية التي يمر بها المغرب.
وقال شتاتو: "المغاربة يريدون السلام للجميع، إذ يأمل المغاربة أن يؤدي امتناعهم عن الانحياز إلى أي طرف إلى إحلال السلام الذي تشتد الحاجة إليه، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الحرب، لو خرجت عن السيطرة، قد تؤدي إلى نهاية العالم، لا سمح الله".