خلال السنوات الأخيرة تحولت الدبلوماسية الفرنسية من دبلوماسية ناعمة تبحث عن مصالح فرنسا الاقتصادية وتحافظ على جودة العلاقات في إطار الاحترام المتبادل، إلى دبلوماسية هجومية أقحمت فرنسا في العديد من الأزمات والتوترات غير المسبوقة في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية.
فمع البرازيل تسبب ماكرون بانتقاداته لسياسة الرئيس جايير بولسونارو في التعامل مع حرائق الأمازون واتهامه بالكذب في أزمة حادة وصلت إلى حد تراشق الكلام الحاد بين الرجلين وصل إلى حد سخرية بولسونارو من زوجة وإلى وصف ماكرون لرئيس البرازيل "بالوقح"، وفي أزمة الغواصات مع أستراليا اتهمت باريس بـ"الكذب والخيانة" ثم استدعى ماكرون سفيرَي بلاده من كانبرا وواشنطن في خطوة تصعيدية بعد أن ألغى رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون صفقة شراء الغواصات الفرنسية، ومع بريطانيا فجَّر ماكرون أزمة مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون بسبب تراخيص الصيد البحري وصل إلى حد اتهام المملكة المتحدة "بسوء النية" والتلويح باللجوء إلى وساطة على المستوى الأوروبي في حال لم تحصل على ما تريده قبل انتهاء المهلة المحددة، ومع الجارة إيطاليا اتهمت باريس خرق أواصر الثقة وانتهاك القوانين الدولية المتعلقة بحماية المهاجرين على خلفية رفض إيطاليا استقبال سفينة المهاجرين "أوشن فايكينغ"، الأمر الذي استدعى رداً حازماً من روما يصف رد فعل باريس بـ"العدائي وغير المفهوم وغير المبرر"، ومع ألمانيا لا تزال الأزمة الصامتة قائمة على خلفية ملفات الطاقة والدفاع وتأجيل اجتماع مشترك يجمع البلدين بصفة دورية ثلاث مرات متتالية.
وبالحديث عن علاقة فرنسا مع دول المغرب العربي التي يجمعها بها ماضٍ استعماري نجد أن العلاقة مع الجزائر تمر منذ سنتين بفترة شد وجذب، بدءاً من تصريحات ماكرون المهاجمة لرئيسها ثم رفض الاعتذار عن جرائم فرنسا في الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية ووصف نظامها الحاكم بالنظام "المنهك سياسياً" إلى أن وصلت اليوم إلى أسوأ حالاتها، خاصة مع قضية تهريب ناشطة جزائرية عبر تونس إلى المغرب، وهو ما خلف استياء كبيراً لدى السلطة الحاكمة في الجزائر، ولم تكتفِ هذه القضية بإحداث أزمة بين باريس والجزائر فقط؛ بل حاولت تسميم العلاقات بين هذه الأخيرة وتونس، على اعتبار أن الناشطة عبرت الحدود الجزائرية نحو البلد الجار، واستفادت من إطلاق سراح ومن حماية قنصلية فرنسية على الأراضي التونسية، بما أنها تحمل جواز سفر فرنسياً، وأعادت فرنسا بهذه القضية علاقتها مع الجزائر إلى المربع الأول بعد أن كانت تتجه إلى الانفراج، وبعد أن اتفق البلدان على فتح صفحة جديدة من العلاقات.
والواضح أن تونس لم تسلم من شظايا الأزمة بين الجزائر وفرنسا، بعد أن جرها ماكرون إلى أزمة مصيدة الناشطة وهي في عز أزماتها الاقتصادية، وتراهن بشكل كبير على الجارة الغربية في فك الخناق الاقتصادي الذي تعيشه، ليس هذا فحسب؛ فقد تحولت أزمة الناشطة الجزائرية إلى مادة دسمة تتناولها المعارضة التونسية؛ لتصف حال تونس في عهد قيس سعيد بالدولة المنقوصة السيادة والخاضعة لإملاءات السفير الفرنسي، الذي تدخل للإفراج عن الناشطة ومغادرتها التراب التونسي. ومن غير المستبعد أن تكون عين ماكرون على مشروع أنبوب "غالسي" الذي من المتوقع أن يربط الجزائر بإيطاليا مروراً بتونس؛ إذ إن محاولة تسميم العلاقات بين البلدين قد تهدف إلى تعطيله.
قضية الصحراء، وموضوع تخفيض التأشيرات واتهام المملكة بالتجسس على شخصيات فرنسية، من أبرز القضايا التي أدت إلى قطيعة بين باريس والرباط، وصلت إلى حد رد إنهاء مهام السفير المغربي في فرنسا وشغور منصبه رداً على وقوف فرنسا وراء قرار البرلمان الأوروبي بإدانة انتهاكات المغرب لحقوق الإنسان وحرية الصحافة، والواضح أيضاً أن فرنسا هي من تقف وراء قضية "كريس كولمان"، الهاكر الذي سرب العشرات من الوثائق السرية للمخابرات المغربية، وهي النقطة التي أفاضت الكأس بين المغرب وفرنسا.
عربدة ماكرون الدبلوماسية لم تكتفِ بالعبث المغرب العربي فقط، ففي الشرق الأوسط قصة مع لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت عندما توجه المسؤول الأول في الإليزيه في ثوب الوصي على البلد، وخرج مطمئناً اللبنانيين ومخاطباً لهم بصفة أقرب إلى صفة الرئيس، ثم انتقد دور الحكومة اللبنانية وقدم أوامره من قصر بعبدا ثم دعا في وقت لاحق إلى تغيير القادة اللبنانيين المسؤولين عن عرقلة الإصلاحات، وإن كان ماكرون قد قال الحقيقة إلا أن هذا التصرف حيال لبنان فيه انتهاك واضح للسيادة اللبنانية ومحاولة استعراض عضلات على بلد منهار ومشلول اقتصادياً.
تم يأتي الدور في الأخير على السلطة الفلسطينية؛ حيث نشرت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية مقالاً للصحفي جورج مالبرونو، حمل عنوان "فرنسا تبحث عن خليفة لمحمود عباس"، كشف فيه تحرك ماكرون للتفكير أو النظر في إيجاد خليفة لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس ويمكن ربط هذا المقال بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطلع هذا الشهر، وهو ما يعني محاولة استرضاء لإسرائيل على الفلسطينيين وإلقاء اللوم كاملاً على القيادة الفلسطينية في تدهور الوضع الأمني وفشل الوصول إلى حل الدولتين.
يبدو ماكرون رئيساً مختلفاً عمن سبقوه من حيث تهوره الدبلوماسي واعتماده لسياسة خارجية عدائية وهجومية يرى فيها أنها ضمان لمصالح فرنسا، إلا أنه وبهذا التهور سيترك لخليفته حقلاً مليئاً بالألغام المزروعة في علاقات فرنسا الخارجية، والتي ستكتب في سيرته الذاتية بوصفه الرئيس الأسوأ في عهد فرنسا، داخلياً وخارجياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.