تحدت إسرائيل إدارة الرئيس جو بايدن وقررت بناء مزيد من المستوطنات في الأراضي المحتلة، فلجأت السلطة الفلسطينية إلى مجلس الأمن، فلماذا تراجعت وجنَّبت بايدن "الإحراج" الدولي؟
كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قد زار المنطقة مؤخراً ووجه رسالة إلى الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، مفادها معارضة أمريكا لأي "إجراءات استفزازية" بحق الفلسطينيين، والهدف هو تفادي انفجار الموقف في القضية الأهم في الشرق الأوسط.
فقبل أن تكمل حكومة إسرائيل، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية إيتمار بن غفير، شهرها الأول، اقتربت الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة جو بايدن بإرسال بلينكن إلى المنطقة لاحتواء الموقف.
السلطة الفلسطينية تلجأ لمجلس الأمن
زار بلينكن إسرائيل والتقى نتنياهو وأعلن عن "ضرورة عدم اتخاذ تل أبيب أي إجراءات من شأنها التأثير على حل الدولتين"، وتحدث تحديداً عن ضرورة وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
غادر بلينكن، وبعد أقل من أسبوعين، أعلنت حكومة نتنياهو منح تصريحات بأثر رجعي لبؤر استيطانية يهودية في الضفة الغربية المحتلة والتصريح ببناء 10 وحدات استيطانية جديدة، فكيف ردت واشنطن؟
أصدر بلينكن بياناً باسمه عبر فيه عن رفضه لقرار تل أبيب، مضيفاً أنه "منزعج بشدة" من هذه الخطوة: "نعارض بشدة مثل هذه الإجراءات أحادية الجانب التي تؤدي إلى تفاقم التوتر وتقوّض آفاق التوصل إلى حل الدولتين عبر المفاوضات"، وجدد دعوته "جميع الأطراف" إلى تجنب الأعمال التي من شأنها زيادة تصعيد التوتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
جاءت خطوة إسرائيل، الأحد 12 فبراير/شباط، حيث منحت الحكومة التصريح لتسع بؤر استيطانية يهودية في الضفة الغربية المحتلة، وأعلنت بناء منازل جديدة داخل المستوطنات القائمة. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس إن بلينكن أبدى معارضته لمنح التصريح للبؤر الاستيطانية خلال الزيارة إلى إسرائيل والضفة الغربية التي اختتمها في 31 يناير/كانون الثاني.
قررت السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار أممي "يدين" إسرائيل، وبوجود الإمارات كعضو غير دائم في مجلس الأمن هذا الشهر، قدمت أبوظبي مشروع القرار وتقرر أن يكون التصويت عليه الإثنين 20 فبراير/شباط.
لكن الأحد 19 فبراير/شباط، أبلغت الإمارات مجلس الأمن الدولي بأنها لن تدعو للتصويت على مشروع القرار الذي يطالب إسرائيل "بوقف فوري وكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وفقاً لمذكرة اطلعت عليها رويترز.
وفي مذكرة أرسلتها للدول الأعضاء في مجلس الأمن، قالت الإمارات إنها تعكف حالياً على صياغة بيان رسمي، يُعرف باسم البيان الرئاسي، يتعين على المجلس المكون من 15 عضواً الموافقة عليه بالإجماع. وقالت المذكرة: "بالنظر إلى المحادثات الإيجابية بين الأطراف، فإننا نعمل الآن على مسودة بيان رئاسي من شأنه أن يحظى بالإجماع". وأضافت: "وبناء على ذلك، لن يكون هناك تصويت على مشروع القرار الإثنين. وسيستقى الكثير من لغة البيان الرئاسي من تلك المصاغ بها مشروع القرار".
إدارة بايدن بين شقي الرحى
وما بين تقديم مشروع القرار الفلسطيني إلى مجلس الأمن وسحبه قبل ساعات من التصويت عليه، وجدت إدارة بايدن نفسها بين شقي الرحى، كما يقول المثل العربي، ففي حالة امتنعت واشنطن عن التصويت وتم اعتماد القرار الذي يدين حليفتها إسرائيل، سيجد بايدن نفسه في مواجهة معسكر جمهوري ولوبي يهودي في واشنطن يدعمون إسرائيل، وهو ما لا تريده الإدارة الديمقراطية بطبيعة الحال.
أما في حال استخدمت الإدارة الأمريكية حق النقض (الفيتو) وسدت الطريق على تمرير القرار الأممي الذي يدين دولة تنتهك القانون الدولي بتلك الصورة، فستجد إدارة بايدن نفسها في مأزق خطير على المسرح الدولي في توقيت حرج للغاية. فواشنطن تبني معارضتها للهجوم الروسي على أوكرانيا على أساس احترام القانون الدولي ومبادئه بالأساس، وبالتالي فإن روسيا والصين لن تمررا الفرصة دون تسجيل "نقاط" في المرمى الأمريكي.
وفي هذا السياق، كثفت الإدارة الأمريكية جهودها لتفادي هذا "الإحراج"، بالضغط على إسرائيل لإلغاء خطط التوسع في الاستيطان غير الشرعي، وهو ما كان يجب أن يحدث من إدارة ترفع شعار "احترام القانون الدولي" في وجه الجميع، فماذا حدث؟
عبرت الولايات المتحدة مرة أخرى، الخميس 16 فبراير/شباط، عن "استيائها الشديد" من قرار إسرائيل توسيع المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكنها أيضاً وصفت محاولات دفع مجلس الأمن للتنديد بهذه الخطوة بأنها "غير مفيدة".
ونشر موقع Axios الأمريكي تقريراً ألقى الضوء على بعض محاولات إدارة بايدن الخروج من المأزق عبر التوصل لصفقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بهدف "منع المواجهة في مجلس الأمن".
وإضافة إلى خشية التعرض لإحراج دولي ينال من مصداقية واشنطن في هذا التوقيت الحرج من صراع القوى الكبرى، فإن تدخل إدارة بايدن باستخدام حق الفيتو سيمثل أيضاً تناقضاً صارخاً مع موقفها المعلن من قضية فلسطين، وهو ما يعرف باسم "حل الدولتين".
فاستخدام حق الفيتو يعني رسالة مباشرة لإسرائيل بأن تتمادى في خطواتها الاستيطانية، وهو ما عارضته علناً إدارة بايدن وعلى لسان كبير دبلوماسييها بلينكن، وبالتالي ركزت الإدارة جهودها على منع وصول الأمر إلى التصويت في مجلس الأمن.
النقطة الأخرى التي أرادت إدارة بايدن تجنبها هي الاستمرار في التصعيد، خصوصاً مع قرب شهر رمضان والأعياد اليهودية، حتى لا يتكرر ما حدث قبل عامين، عندما وجدت الإدارة الديمقراطية نفسها أمام كارثة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو/أيار 2021، بعد أن كانت قد تجاهلت الشرق الأوسط حتى تركز على الصراع الجيوسياسي مع الصين.
وفي ظل عدم قدرة إدارة بايدن على ممارسة ضغوط مجدية على حكومة نتنياهو، أجرى بلينكن اتصالاً بالرئيس الفلسطيني، محمود عباس، السبت 18 فبراير/شباط، طالباً منه عدم تقديم مشروع القرار للتصويت في مجلس الأمن الدولي الإثنين، بحسب بيان الخارجية الأمريكية.
"هناك حاجة ملحة لاتخاذ خطوات لاستعادة الهدوء. الولايات المتحدة تعارض الإجراءات الأحادية التي سوف تؤدي إلى مزيد من التوتر والتصعيد"، بحسب ما ذكر البيان الأمريكي أن بلينكن قاله لعباس.
عباس، من جانبه، أخبر وزير الخارجية الأمريكي أن الفلسطينيين يسعون لتدخل مجلس الأمن الدولي في ظل "إصرار إسرائيل على انتهاك الاتفاقيات الموقعة مع الفلسطينيين"، بحسب البيان الصادر عن السلطة الفلسطينية.
"لا بد أن تتوقف إسرائيل عن جميع خطواتها الأحادية، بما فيها بناء المستوطنات وهدم المنازل والغارات على المدن والبلدات والقتل خارج إطار القانون"، بحسب ما ذكر البيان الفلسطيني عما قاله عباس لبلينكن، مضيفاً أن الرئيس الفلسطيني أخبر بلينكن أيضاً أن الولايات المتحدة لا بد أن تتدخل وتضغط على إسرائيل "لوقف جميع إجراءاتها الخطيرة".
وأخبر بلينكن عباس أنه سيتواصل أيضاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، وهو ما فعله وزير الخارجية الأمريكي، حيث اتصل بنتنياهو وطلب منه أن "يتخذ خطوات لتهدئة الموقف"، بحسب ما قالته مصادر للموقع الأمريكي.
لماذا تراجع عباس وسحب قرار إدانة إسرائيل؟
على الرغم من أن المصادر التي تحدثت للموقع الأمريكي لم تتوقع أن ينجح بلينكن في التوصل لصفقة تتفادى من خلالها إدارة بايدن "الإحراج"، إلا أن ما حدث هو العكس، فأعلنت الإمارات سحب القرار قبل التصويت عليه، بطلب من عباس.
ما الذي قدمه بلينكن لإقناع عباس؟ وافقت إسرائيل على تعليق الإجراءات أحادية الجانب "مؤقتاً" في الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك إعلانات جديدة بشأن بناء المستوطنات عدة أشهر، وفقاً لمسؤولين إسرائيليين تحدثوا لموقع Axios.
كما وافقت إسرائيل على تعليق عمليات هدم منازل الفلسطينيين وعمليات تهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم لمدة بضعة أشهر، كما وافقت على خفض عدد الغارات العسكرية التي يقوم بها جيش الاحتلال داخل المدن الفلسطينية، إضافة إلى موافقة تل أبيب على عدة خطوات اقتصادية من شأنها زيادة عائدات الضرائب الفلسطينية بأكثر من 60 مليون دولار سنوياً.
لكن مسؤولاً في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي نفى للموقع الأمريكي أنباء التوصل لتفاهمات، وقال: "لا توجد تفاهمات، لقد انتهينا من جميع خطط البناء الأسبوع الماضي، ولم تكن لدينا أي نية لعقد اللجنة للموافقة على خطط جديدة في الأشهر الثلاثة المقبلة على أي حال".
وعلى الجانب الآخر، أشار تقرير أكسيوس إلى التزام البيت الأبيض بدعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لعقد اجتماع مع الرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض خلال العام المقبل، كما التزمت واشنطن بتقديم طلب رسمي للحكومة الإسرائيلية لإعادة فتح القنصلية الأمريكية (لدى السلطة الفلسطينية) في القدس.
وفي المقابل، وافقت السلطة الفلسطينية على بدء تنفيذ خطة أمنية سبق أن طرحها المنسق الأمني الأمريكي، الجنرال مايكل فينزل، لاستعادة سيطرة السلطة على مدينتي جنين ونابلس بالضفة الغربية، كما وافق الجانب الفلسطيني على بدء محادثات بشأن استئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل الذي تم تعليقه قبل عدة أسابيع.
الأمر المؤكد في هذه التفاصيل هو أن إدارة بايدن حققت ما تصفه بأنه انتصار دبلوماسي، لكن يظل السؤال هنا متعلقاً بمدى التزام حكومة نتنياهو، التي لم تعلن أي شيء بشكل رسمي، بتلك التفاهمات التي تم التوصل إليها.